ماذا حدث "في شقة مصر الجديدة"..؟!
في
الحقيقة، لم يحدث شيء مهم هناك.. بل أن ما حدث ضمن أحداث الفيلم
خارج الشقة هو الأهم، وأكثر بلاغة مما حدث داخل الشقة.. وما يهمنا
نحن كمتفرجين، هو ذلك الشعور الذي ينتابنا بعد نهاية الفيلم، شعور
دافئ يثير السعادة والرضا.. فالفيلم يلامس القلب فعلاً.. لم يكن
فيلماً عن حكاية حب عادية بين اثنين جمعتهما الظروف، ليعثر كل
منهما على الآخر.. بل هو أكثر وأسمى من ذلك بكثير، حيث الشعور
بالصفاء والنقاء، نشاهد ونتابع ونترك أنفسنا وأحاسيسنا مع أحداث
الفيلم وشخصياته، تلك التي تتسلسل إلى القلب والذاكرة معاً..!!
محمد خان.. مخرج فنان ومثقف، يعد تواجده المتواصل على الساحة
الفنية مكسباً كبيراً.. فهو من المخرجين المصريين الذين استطاعوا
خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، تكوين طابع سينمائي خاص
بهم.. فمحمد خان مخرج يهتم كثيراً بتقديم أفلام نثير الكثير من
الأسئلة وتهتم بالصورة المعبرة في المقام الأول، وهذا ما تؤكد عليه
أفلامه منذ باكورة أعماله (ضربة شمس) عام 1978. ومع كل فيلم جديد
لهذا المخرج الفذ، تتأكد هذه الفكرة أكثر وأكثر لدى متابعيه..!!
في
فيلمه الأخير (في شقة مصر الجديدة) يواصل محمد خان بحثه الدائم عن
شخصيات هامشية محاطة بالكثير من الأحداث والتفاصيل الصغيرة.. فهو
هنا يتناول ثيمة الحب الرومانسي الذي اختفى في زماننا.. وتأثير هذا
الحب على شخصياته المنساقة لصدفة الحب، بل ويأخذنا في رحلة شفافة
إلى أعماق شخصياته.. يتناول التفاصيل الصغيرة التي تؤثر على مسار
الأحداث وتصرفات الشخصيات، لتغير من طبيعتها وردود أفعالها.. يعود
بنا فيلم خان الأخير إلى زمن الرومانسية الجميل، وأيام الحب بين
ليلى مراد وأنور وجدي، وشادية وعبدالحليم، وفريد صباح.. وغيرهم
كثيرين، الذين جعلوا من تلك الأيام بمثابة أساطير في الحب والعشق
والهوى والهيام..!!
فيلمنا هذا يتحدث عن نجوى (غادة عادل)، الفتاة الصعيدية التي درست
في مدرسة الراهبات بالمنيا، والتي تتعلق كثيرا بمعلمتها للموسيقى
تهاني، وتظل على اتصال بها حتى بعد فصلها من المدرسة بسبب تعليمهم
حصص عن الحب والرومانسية.. حيث تستمر الرسائل بينهما بعد انتقال
المعلمة إلى القاهرة، وحتى بعد تخرجها وتوظيفها كمدرسة للموسيقى في
نفس المدرسة.. تنتهز نجوى فرصة تواجدها في القاهرة في رحلة مدرسية
ليوم واحد مع اثنتين من زميلاتها، لتحاول البحث عن معلمتها التي
انقطعت أخبارها منذ فترة.. ولكنها تفاجئ بالساكن الجديد يحيي (خالد
أبو النجا)، يعيش في شقة معلمتها. ويحيي شخصية يمكن أن تكون النقيض
التام لشخصية نجوى وطبيعتها الحذرة. الاثنان نجوى ويحيي، يجدان
نفسيهما في مقابل بعض فجأة، ويدون أي مقدمات.. فهي تصر أن تبحث عن
مدرستها، وهو يساعدها مضطراً، في رحلتها هذه.. ليتحول هذا البحث
إلى رحلة استكشافية لذات كليهما..!!
"في
شقة مصر الجديدة"، تتصاعد الأحداث، لتبقى نجوى ثلاثة أيام
بالقاهرة.. فحين تذهب لشقة مصر الجديدة، تلتقي بيحيي، فيتعرف عليها
من خلال خطاباتها لمعلمتها، التي تكتشف بأنها متغيبة عن الشقة منذ
شهور ولا أحد يعلم عنها شيئاً.. تجد في الشقة جريدة تتحدث عن مصرع
مدرسة، تسقط الموبايل الخاص بيحيي فينكسر، يوبخها، تصر على تصلحيه،
وتترك له موبايلها المتواضع. يفوتها القطار في اليوم الأول،
ليأخذها سائق التاكسي الطيب (أحمد راتب) إلى بيت مغتربات لتقضي
الليلة هناك.
تذهب نجوى في اليوم الثاني لمحطة القطار، بعد أن تتصل بها والدتها
وتلومها على بياتها في القاهرة لوحدها.. في قاعة الانتظار يستنجد
بها شخص لاستعجال زوجته التي دخلت دورة المياه.. تدخل لتجد الزوجة
في حالة إعياء تام وعلى وشك الولادة، فتستدعي النساء، لتلد الزوجة
وتتعالى الزغاريد ويفوتها القطار للمرة الثانية. تعود لبيت
المغتربات لتجد الفتيات يحتفلن بخطبة أحداهن.
في
اليوم الثالث، نراها تذهب لمصر الجديدة لتعيد الموبايل لصاحبه،
لتتوطد العلاقة بينها ويحيي، ويدعوها على العشاء.. تتصل بها
والدتها مرة أخرى لتخبرها بأن عريسها المنتظر قد خطب صديقتها.
وبالطبع لا تنسى قبل رحيلها، أن تودع يحيي وتذهب لمقر عمله، لكنها
لا تجده هناك.. هو أيضاً يذهب إليها في بيت المغتربات فيجدها قد
غادرت.. ينتظرها سائق التاكسي خوفاً عليها، يلاحقها يحيي على
دراجته البخارية فتركب معه.
تكلمها صديقتها بأن معلمتها بعثت لها خطاباً من بورسعيد، وأنها
وجدت شريك حياتها، وتركب القطار مودعة يحيي، لينتهي الفيلم كما بدأ
في المحطة، حيث يتبادلان رقم الهاتف شفهياً.. وتبقى نجوى تردده في
لقطة رومانسية حالمة.
بالرغم من أن فيلمنا هذا يتحدث عن الحب والرومانسية، إلا أن كاتبة
السيناريو (وسام سليمان) تبتعد كثيراً عن تلك الرومانسية النمطية
الفجة وقصص الحب المكررة.. فلم تكن رحلة نجوى الصعيدية إلى القاهرة
سوى رحلة للبحث عن الذات والحب الذي تعلمته من معلمتها، تلك التي
تبقى مجرد طيف طوال أحداث الفيلم، ولكنها هي المحركة لهذه الأحداث.
فالفيلم يعتمد كثيراً على التفاصيل الصغيرة.. الكثير من التفاصيل
التي وضفتها كاتبة السيناريو لتعميق الشخصيات وتقديم أحداث غير
تقليدية، وشخصيات غير نمطية.. وهذا ما يجعل من الفيلم وحدة
متماسكة.. وهذا أيضاً أسلوب محمد خان، حيث البحث عن الكثير من
التفاصيل، التي قد لا تؤثر في الدراما والأحداث، إلا أنها تشحن
الشخصيات بجرعات نفسية وشاعرية تثير الشجون، وتظهر أكثر مكنون
الشخصيات وخلفياتها.. ليأتي بناءها متناسباً ومنسجماً مع أحداث
الفيلم نفسه.
بطلة فيلم (في شقة مصر الجديدة) نجوى تتميز بشخصيتها الصعيدية،
وتشعر بالذنب لمجرد شعورها بأنها وراء فصل معلمتها من المدرسة
أثناء المرحلة الإعدادية. وهي أيضاً مقتنعة بما تعلمته من معلمتها
عن الحب وعن إلتقاء كل شخص بنصفه الآخر.. الأمر الذي جعلها ترفض أي
شخص يتقدم لخطبتها، مصممة للبحث عن نصفها الأخر. وهي أيضاً ليست
ساذجة، أو نموذج مكرر للفتاة الريفية الجاهلة بالعالم الذي يحيط
بها.. حيث نراها تشير بأن محطة القطار التي سينزلون بها هي ميدان
رمسيس، لكن رمسيس نفسه تم نقله.. ولكن تبقى نجوى مثال واضح على تلك
البساطة والرومانسية.. فهي خجولة تبحث عن الحب في أغاني ليلى مراد،
لا شروط معينة لفارس أحلامها سوى أن ينجح في أن يشعرها بأنوثتها
وبجمالها.. منذ الوهلة الأولى نراها شخصية شفافة جداً، ونخمن بأنها
غير قادرة على التعامل مع واقع صعب كهذا، ولا يمكنها التصرف لحل أي
مشكلة تواجهها في مجتمع جديد عليها.. لكننا نكتشف العكس فيما بعد،
فهي تحمل في داخلها شخصية قوية، تعرف كيف تتعامل مع أي حدث مفاجئ
بتلقائية وثقة.. نراها كيف تتعامل مع سائق التاكسي (أحمد راتب)،
الذي يأخذها إلى سكن المغتربات، بعد أن فاتها القطار في المساء..
وكيف تتصرف مع بنات السكن، ومديرته (عايدة رياض)، تلك التي تجدها
وحيدة مثلها تبحث عن الحب الضائع. نلاحظ كيف تعبر نجوى عن
انزعاجها، عندما تتحدث بلهجتها الصعيدية بتلقائية تامة، حين تقبلها
لأي صدمة أو خبر مزعج. وكيف أنها تصر على شراء القطع الأصلية عند
تصليح تليفون يحيي المكسور بسببها.. وكيف تتصرف مع تلك الزوجة وهي
في حالة المخاض في دورة المياه بالمحطة.. نتابعها أيضاً في
تصرفاتها مع زميلتها في بيت المغتربات، تلك التي تحاول الانتحار،
وتنجح في إنقاذها من الموت.
أما
شخصية يحيي، فهي تثير الكثير من الأسئلة لدينا ولدى نجوى.. فيحيي
شاب محب للمغامرة والاندفاع.. يستعمل الدراجة في تنقلاته، ويعمل
كسمسار في البورصة، ويقيم علاقة مادية محرمة مع زميلته داليا (مروة
حسين) متخلياً عن أية التزامات مستقبلية بالحب والزواج، ويستغني
عنها في سبيل بحثه عن الحب الصادق.. وبالرغم من اللامبالاة التي
يظهرها للآخرين، إلا أننا نكتشف في مشهد مؤثر كم هو حساس ورقيق هذا
الشاب، وإن مشاكل الحياة الحديثة ومشاغلها قد أنسته تلك البراءة
والنقاء اللذان بداخله.. ففي الإذاعة حين يضطر لمساعدة صديقه أو
مجاملة له، نراه متأثراً وهو يتحدث للمستمع، وينهار ذلك القناع من
البرود الذي يخفي نفسه وراءه، بل نراه يبكي في نهاية المكالمة،
لنكتشف بأن تلك اللامبالاة ليست إلا ستاراً يخفي وراءه إخفاقاته
السابقة وخوفه من الارتباط بأحد.. طبيعة شخصية يحيي وحالته النفسية
متعلقة بطبيعة عمله في البورصة.. شخصيته متقلبة كالبورصة تماماً..
لا تثبت أبداً.. نلاحظ ذلك المزاج المتقلب لطباعه بين الغضب
والسعادة خلال مشهد واحد فقط. فهو شاب واقعي مثال للطهارة والنقاء،
لديه الكثير من الأصدقاء لكنه مازال يشعر بالوحدة.. ناجح في عمله،
بالرغم أنه غير مقتنع به.. يعيش زمن المادية والعولمة مما يجعله لا
يرى ما بداخله.. لا يرى هذا النقاء، إلا بعد أن يلتقي بنجوى.
إضافة إلى الشخصيتان الرئيسيتان في فيلم "في شقة مصر الجديد" (نجوى
ويحيي)، هناك الكثير من الشخصيات التي تحيطها وتؤثر فيها وفي
تصرفاتها.. حيث يحمِّلها الفيلم الكثير لتأكيد ثيمة الفيلم
الرومانسية.. مثل الجار (يوسف داود) الذي يمثل الزمن الماضي
الجميل.. كذلك مديرة بيت المغتربات (عايدة رياض) التي تدعو للبحث
عن الحب دائماً، وتقول بأنه لابد من العثور على الحب، حتى بعد ذكرى
حب فاشلة.. هناك أيضاً شخصية سائق التاكسي (أحمد راتب)، التي ملكنا
بشفافيته وحساسيته..!!
لو
كنا لا نعرف عن أسلوب محمد خان في تعامله مع الصورة المعبرة من
خلال كادر سينمائي أخاذ وحركة كاميرا لافتة.. أقول لو أننا لا نعرف
عنه ذلك، لقلنا بأن فيلمه هذا قد صوره خارج القاهرة.. فقد أمتعنا
خان بتلك الحالة من العشق التي تعامل بها مع المكان.. حيث بدت
شوارع القاهرة، في مصر الجديدة، أو في ميدان رمسيس وغيرها من
الأماكن التي صور فيها فيلمه.. هذه الأماكن بدت في شكل مختلف لم
نشاهده في أي فيلم مصري من قبل، إن كان من ناحية زوايا التصوير أو
تلك الإضاءة الدرامية المتميزة، والتي نجحت تماماً في إعطاء إحساس
واضح لتأثير المكان على مجريات الأحداث وعلى الشخصيات نفسها.. حيث
حاول المخرج أن يؤكد على علاقة المكان بالبشر الذين يعيشون فيه..
نرى ذلك جلياً في شقة المعلمة تهاني بمصر الجديدة، حيث نستشعر
روحها بين زوايا الشقة، ومن خلال جدرانها وأشيائها المتناثرة التي
مازالت تحمل ذكراها ورائحتها.. كما ينقلنا خان إلى محطة رمسيس
المزدحمة بالبشر، وينجح في أن يجعل من دورة المياه في المحطة
مكاناً للولادة، وسط فرحة وزغاريد النسوة.. إذن فمحمد خان قد قد
تعامل مع المكان بشكل درامي وأعطاه دوراً خاصاً ومؤثراً في فيلمه
هذا، بل أنه أعطاه بطولة رئيسية تهيم فيها أرواح شخصياته ليصبح
معبئاً بروحهم.
ولا
شك بأن الأداء التمثيلي التي فاجأتنا به غادة عادل، كان مثار
الحديث لدى غالبية من شاهدوها في أفلامها السابقة.. بدت وكأنها لا
تمثل، بل تعيش الحالات النفسية المتقلبة التي تمر بها.. نصدقها
ونصفق لها بعمق على هذا التجلي في أداء أخاذ وجميل.. يجعلنا أكثر
ترقباً لفيلمها القادم..!!
وعندما ينسب الفيلم السينمائي لمخرجه، فهذا يتجسد واضحاً عند محمد
خان.. حيث الخصوصية التي تتحلى بها أفلامه.. خصوصية استثنائية لا
تخطئها عين المتفرج أبداً.. من اختزال للكثير من المعاني والتعبير
عنها بالصورة.. تقديم كادرات جمالية لافتة، تعتمد الإضاءة الدرامية
المعبرة.. والعمل على الممثل بشكل يبتعد عن النمطية، ويتجه به نحو
آفاق رحبة من الإبداع الأدائي.. كلها تمثل شخصية محمد خان
الإخراجية.. هذا الذي يصر أن يهدينا أعمالاً تبقى في الذاكرة لفترة
طويلة، وتعيش في أعماقنا وأحاسيسنا..!!
|