ثم
يأتي الفيلم الثاني (الرغبة) عام 1979، ليصل به محمد خان إلى مرحلة أكثر
وعياً ونضجاً في السيطرة على حر فيته الفنية والتقنية. إنه في هذا الفيلم
نجح في التخلص من الكثير من السلبيات التي احتواها فيلمه الأول، وأثبت أنه
فنان متميز يريد تقديم السينما ألي يحبها هو والتي يحملها رؤيته الفنية
الأصيلة. إنه في (الرغبة) يقدم
لنا معالجة جديدة لرواية جاتسبي العظيم، ولكنه لا ينسى المحاولة في أن تكون
هذه المعالجة محلية.
قصة الفيلم تدور حول رجل الأعمال جابر (نور الشريف)، أحب هالة (مديحة
كامل)، وبين الاثنين عشر سنوات فراق. بعد كل هذه السنين تكون هالة قد تزوجت
وأصبحت أماً، بينما جابر أصيب في حرب 1967 إصابة تجعله عاجزاً جنسياً، مما
يجعله يختفي بسبب انهيار أحلامه بالزواج من حبيبته، إلا أن خيالها لا
يفارقه طوال هذه المدة، بل ويدفعه لمتابعة كل أخبارها الخاصة بدقة متناهية.
فهو يعود مرة أخرى في محاولة عبثية منه لإعادة الزمن إلى الوراء، واستعادة
حبيبته التي اختطفت منه، متجاهلاً الحرب التي اغتالت رجولته، وهو بذلك يطلب
المستحيل.
إننا هنا أمام شخصية معقدة ومركبة، صاغها محمد خان مع السيناريست (بشير
الديك). شخصية سلبية وغريبة وغير مستقرة نفسياً، أحياناً تبدو في صورة
الإنسان القوي والمسيطر، وفجأة تنقلب إلى صورة طفل عاجز يحتاج من يأخذ بيده
ويتحمل مسئوليته. إنها شخصية تعطي إحساس لمن حولها بأنها خائفة وهاربة من
شيء ما، ومتأهبة دائماً لشيء ما سيحدث. شخصية مرت بمراحل وتحولات نفسية
واجتماعية وحتى اقتصادية. فجابر بعد أن كان فقيراً معدماً، أصبح الآن من
رجال الأعمال ذوي الشهرة والملايين. ولكن كل هذا لا يشكل لديه أية قيمة
حقيقية، وذلك لأنه يفتقد لأي هدف واضح ويعيش على ذكريات الماضي. نراه
يستثمر كل طاقاته للعودة بالزمن إلى الماضي، ولأن هذا شيء مستحيل نراه في
النهاية يفقد كل شيء، يفقد الأمل في رجوع حبيبته، يفقد أصدقائه المقربين،
يفقد حتى حياته.
وأمام هذه الشخصية السلبية والأنانية ـ وحتى يكون هناك توازن منطقي ـ تقف
شخصية حبيبته هالة، التي هي بالمقابل واقعية جداً. فهي ترفض رغبته في عودة
العلاقة، فقد أصبحت زوجة وأم بعد أن يأست من رجوعه، إنها تقاوم رغبته هذه
رغم أنها ليسب سعيدة في زواجها، تدوس على مشاعرها لأنها تعرف أن الماضي لا
يمكن أن يكون حاضراً أبداً.
يقدم محمد خان في (الرغبة) فيلماً يعتمد على مهارة التمثيل وإمكانيات
الإخراج. فيلم نظيف ويحترم عقلية المتفرج، وإن كان بعيداً عن الأجواء
العربية. إنه فيلم يكشف عن مخرج متمكن من أدواته وأسلوبه السينمائي، حيث
يقدم فيه لقطات ذكية ومدروسة بعناية. فمثلاً عندما نشاهد جابر عجلة الدراجة
الثابتة ـ في لقطتين متباعدتين ـ إنما يريد محمد خان أن يجسد حياة جابر
بصورة بلاغية عميقة، والتأكيد على أنه يدور ويعمل كالساقية، حركات سريعة
ولاهثة ولكنها حركات ثابتة وجامدة. كما أنه يوهم نفسه بأنه قادر على إعادة
الماضي، وذلك عندما يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. ثم تأتي لقطات استعداده
للقاء حبيبته لتوضح حركاته وتصرفانه وكأنها آلية ومتخشبة وفاقدة للروح
والمشاعر. ويكشف محمد خان عن عمق رؤيته السينمائية عندما يستخدم تجويف حوض
السباحة الفارغ من المياه كمجاز، فهو يضع بطليه في هذا التجويف الذي يبدو
كبوتقة ينصهران بداخلها، في محاولة يائسة لخلق حياة جديدة، خاصة أن هذا
الحوض يمثل ماضياً جميلاً ما يزال ماثلاً في الذاكرة. ومرة أخرى يستخدم
المخرج الحوض للتعبير عن الاغتراب الحسي والنفسي بين هالة وزوجها حسين.
فنراهما يتحدثان وهما متجهان نحو حوض السباحة، ثم يفترقان مواصلان الحديث
حتى يصبحان متواجهين لا يفصل بينهما غير الحوض. إنها حقاًً لقطة عميقة تجسد
معنى الاغتراب، دون الحاجة لكلمة حوار واحدة، حيث يصبح للصورة دوراً مهماً
في تجسيد المعنى الدرامي. هنا يكون محمد خان قد نجح في توصيل ما أراده من
خلال الصورة مؤمناً بأن الصورة هي لغة السينما، بل ويجب الاهتمام والتركيز
عليها وعلى التكنيك السينمائي. ويتضح ذلك لدى محمد خان منذ فيلمه الأول
وحتى آخر أفلامه. ورغم أنه يجد نفسه وحيدا باهتمامه بهذا الجانب، وسط تيار
السينما التقليدية، إلا أنه متمسك ويصر على موقفه هذا في جميع أفلامه.
ويتحدث محمد خان عن فيلم (الرغبة)، ويقول: (في الحقيقة إنني عندما أنظر إلى
الفيلم اليوم أشعر أنه كان منمقاً أكثر من اللازم. فقد كان فيه شغل تقني
محدد جداً، وكانت كل لقطة من الفيلم مدروسة، وكان التمثيل جيداً (...) وعلى
أي الأحوال كان هذا الفيلم تمريناً سينمائياً مفيداًُ لي) *8