لقد قطع المخرج المصري الكبير داود عبدالسيد، مشواراً طويلاً من الوعي بالواقع
وحركته وقضاياه، وترك لنا رصيداً هائلاً من الأفلام التي تعد تراثاً سينمائياً
عربياً في حد ذاتها، ولكن يبدو أن هناك مؤشرات لانهيار السينما العربية بابتعاد
واعتزال الوجوه اللامعة مثل المخرج داود عبدالسيد تحت وطأه الإهمال والألم والتمزق
النفسي. وهذا ما بينه لنا الناقد البحريني القدير حسن حداد في كتابه الجديد الصادر
ضمن سلسلة كتاب "سينماتك" بعنوان "سينما داود عبدالسيد..واقعية بلا حدود".
يقع الكتاب في 144 صفحة من الحجم الوسط ويتناول فيه حداد رؤى نقدية لثلاثة أفلام
للمخرج أهمها فيلم "الكيت كات" إنتاج 1990، "والصعاليك" إنتاج 1984، "والبحث عن سيد
مرزوق" إنتاج 1990 كنموذج خاص لإبداعه كمخرج ونموذج خاص في السينما العربية بشكل
عام، إضافةً إلى صور الأفلام الثلاثة وفيلموغرافيا داود عبدالسيد.
كتب مقدمة الكتاب الشاعر الكبير قاسم حداد بعنوان "داود عبدالسيد درس الاحتجاج
الصامت..الاعتزال الفاتن قال فيها: إلى كونه معارضا منهمكا في ورطة السياسة، لم يكن
ضجيجاً في مجمل أفلامه المكنوزة بالهم السياسي، إلى ذلك كله، يكتمل داود بالسيد، في
تجربته بإعلان احتجاجه الصامت بغیر ضجيج ولا صراخ ولا مانشيتات، تصير فيها السياسة
تجارة، يخسر فيها المناضل ما يكسبه، أو يتوهم أنه يكسبه.
حسن حداد، الذي ظل الفيلم العربي محور عنايته وكتابته ونقده، لم يكن غريباً،
بإعجابه، عن تجربة المخرج داود عبد السيد. ولم يكن بعيداً عن رصد غياب عبد السيد في
السنوات الماضية، غير أنه كان ينتظر فيلمه الجديد، ففوجئ مع غيره، بإعلان اعتزال
مخرجه الأثير، ولم يصدم كثيرا بهذا الإعلان الفاتن، ربما لمعرفته الخاصة بالواقع
السينمائي المصري ومشهده المحبط، كان من بين من استدركوا ضرورة مراجعة وتعويض غياب
عبد السيد بتاريخه ومنجزاته الآملة.
منذ بدء كتاباته عن السينما، ومن ثم إطلاق موقع "سینماتك"، كان حسن حداد يخص مخرجيه
العرب، المصريين خصوصا، بقدر لا بأس به من القراءات النقدية، معبراً عن إعجابه
النقدي بالسينما الجادة، في سعي واع نحو الترصين الحضاري للعمل السينمائي الأكثر
تعرضا للاختراق التجاري الهابط، الذي تعمل السلطات العربية على تسطيحه والنيل من
جديته ولعل في خلفية فكرة هذا الكتاب رغبة موضوعية للدعم المعنوي "حيلة الكاتب
الوحيدة" لعبد السيد وتجربته السينمائية.
أما حسن حداد، فقد كتب في تقديمه للكتاب: ليس اعتزالا إنما فضيحة، شاهدت حوار
الفنان داود عبد السيد بالكامل، وخرجت بنتيجة واحدة بأنه لم يكن اعتزالا"، إنما
صرخة احتجاج على أوضاع الساحة السينمائية في مصر.
ألم يستوقف المذيعة المحترمة، التي كانت طوال اللقاء تمجد وتشيد بقدرات وطاقات فنية
يمتلكها عبد السيد، ألم يستوقفها تصريحه بالاعتزال وكأنه شيء مما يطرح في الهامش.
وكان من الأجدر أن تناقش هذا القرار الذي يعتبر بكل المعايير خسارة فادحة للسينما
العربية وتجعل منه قضية أزعم بأنها أهم قضية تواجه الإبداع الحر، على اعتبار أن
انسحاب قامة مثل داود عبد السيد من الساحة السينمائية جدير بتحريض إعادة المراجعة،
ليس للسينما المصرية وحسب، إنما لعموم الإبداع والخلق الفني الحر.
بالطبع، الجميع يستذكر تصريح المخرج الفذ يسري نصرالله قبل سنوات بأنه يبحث عن فرصة
عمل كطباخ، وهي مأساة حقيقية عن الأوضاع المتعثرة لصناعة السينما، بل ويعد بمثابة
صرخة احتجاج على أوضاع الساحة الفنية والسينمائية في مصر.
وها هو ذا تصريح عبد السيد يجدد هذه الصرخة من جديد ضد الاستهلاك والتعثر لصناعة
عريقة، فالفنان المخرج الكبير عبدالسيد يعيش حالة من اليأس والإحباط العام من
الحالة الفنية المصرية بالكامل. ولهذا عندما صرح باعتزاله، فهو لم يكشف عن سر دفين
أو قرار قد اتخذه مؤخرا، فهو لم يعد يعمل في السينما منذ آخر" قدرات عادية" عام
2015 أي أنه متوقف عن العمل منذ أكثر من سبع سنوات؛ بسبب عدم قدرته العثور على من
ينتج له أفلام.
ويختم حداد حديثه عن السيد: هذه خسارة يومية للسينما والثقافة العربية، فهذا
التجاهل الذي دفع بعبدالسيد إلى الاعتزال يواجهها أهم المخرجين السينمائيين العرب،
إلى متى يستمر هذا التجاهل، إلى أين ينتهي بنا المطاف. إنها قضية مهمة لابد من
البحث فيها، مبدعو السينما الأهم في مصر متوقفون عن الإنتاج، داود عبدالسيد، خيري
بشارة، يسري نصر الله، علي بدر خان، محمد فاضل، وغيرهم لا يعملون لماذا؟
في هذا الكتاب سنحاول أن نقدم نبذة عن داود عبدالسيد، الفنان الذي أبى أن يقدم ما
يريدونه، بل ما يريده، كمبدع مهتم بقضايا بلده وناسه. |