في
مقالنا هذا الأسبوع، نحن أمام فنان كبير ومثير للجدل والنقاش، مصطحباً ضجة
لا تنتهي مع كل فيلم جديد يقدمه. مخرجنا هو العبقري يوسف شاهين.. والحديث
عن يوسف شاهين يطول ويطول، فهو كفنان يشكل حالة خاصة، نادرة في السينما
المصرية، بل والعربية بشكل عام. فهو الفنان المجدد دائماً، وهو الباحث عن
أسلوب جديد وصياغة مختلفة لأفكار ومفاهيم، تبدو عادية ومتداولة. أما
بالنسبة لفيلمه (حدوتة مصرية ـ 1982)، والذي نحن بصدد الحديث عنه ـ عرض
مؤخراً على شاشة تليفزيون البحرين ـ فهو واحداً من الأفلام القليلة في
تاريخ السينما المصرية، التي توصف بالجودة والعمق والإبهار. ففي فيلمه هذا،
وضع شاهين خلاصة تجاربه ومعاناته وتمرده وإحباطاته وإنتصاراته.. إنه فيلم
يشد المتفرج ويستحوذ على تفكيره ويهزه من الأعماق.
وقد إختار يوسف شاهين حشداً كبيراً من ممثلي مصر لتجسيد شخصيات السيناريو
الذي وضعه شاهين نفسه، ونجح في إدارتهم جميعاً بشكل مذهل، مما جعل النقاد
العالميين في مهرجان برلين الدولي يجمعون على الإشادة بمستوى الأداء
التمثيلي. فكان نور الشريف في أنضج ظهور له على الشاشة وهو يمثل دور شاهين،
أي شخصية يحيى شكري مراد. ومع نور الشريف كان هناك : ماجدة الخطيب في دور
شقيقته، سهير البابلي في دور والدته، محمود المليجي في دور والده، محسن محي
الدين في دور شاهين وهو شاباً مكملاً دوره في (إسكندرية ليه)، يسرا في دور
زوجته، رجاء حسين في دور بنت الشعب الأصيلة، سيف الدين في دور الصديق
الوصولي، أحمد محرز في دور الطبيب الصديق، محمد منير في دور الصديق الوفي
والتقدمي ومساعده في الإخراج.
في فيلمه هذا، يقدم يوسف شاهين سيرته الذاتية كإنسان وفنان، وهو بالتالي
إبحار داخل الذات. وتعتبر هذه التجربة السينمائية الثالثة من نوعها، بعد أن
قدمها أولاً المخرج إيليا كازان في فيلم (أمريكا.. أمريكا)، وقام بتكرارها
المخرج بوب فوس في فيلم (كل هذا الجاز).
إن يوسف شاهين في فيلم (حدوتة مصرية) يواصل ما بدأه في فيلمه الأسبق
(إسكندرية.. ليه ـ 1978)، والذي قدم فيه فترة متقدمة من تاريخ نشأته وبداية
تعلقه بفن السينما. أما في هذا الفيلم فنرى شاهين وقد كبر وأصبح مخرجاً
مشهوراً عركته الحياة وتميز بالقلق والتمرد على ذاته والواقع وعلى كل
الأفراد المحيطين به. إن يوسف شاهين في فيلمه هذا يقدم رؤية ذاتية بكل
أبعادها الإنسانية والعاطفية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية والوطنية
والقومية.
يبدأ الفيلم أثناء إخراج يوسف شاهين (نور الشريف) لفيلم العصفور، وتعرضه
لأزمة قلبية، وإضطراره لإجراء عملية جراحية في لندن على يد الدكتور المصري
مجدي يعقوب. هذه العملية التي تفجر داخله أزمة الفنان والإنسان، أزمة
المفكر والمخرج.. وتتداعى ذكريات الطفولة والصبا والشباب، بما تختزنه من
مكنونات وتجارب في الوعي واللاوعي. وتبدأ هذه التداعيات وشاهين في غرفة
العمليات، بعد أن يسري المخدر في جسده، ويسقط في حالة اللاوعي ويدور شريط
الذاكرة، مسترجعاً علاقاته بأفراد أسرته والآخرين.
ويبدأ شاهين بمحاكمة نفسه أولاً، والمحيطين من حوله ثانياً، ومجتمعه
ثالثاً. هذه المحاكمة التي نصبت ـ بشكل سريالي ـ داخل جسم شاهين وبالتحديد
في قفصه الصدري.. محاكمة جريئة وصريحة تجمع بين الجلاد والقاضي، بين المتهم
والمحلف، وكذلك بين الحاكم والمحكوم. فهي محاكمة للذات والواقع والعصر الذي
يعيشه شاهين. في البدأ نرى مجموعة كبيرة من عدسات التليفزيون والجمهور،
الكل ينتظر بدأ المحاكمة. وفجأة يدخل المتهم (أسامة نذير) ـ طفل صغير في
الثامنة من العمر ـ يحيطه الحراس ويضعونه في القفص، فهو متهم بمحاولة قتل
يوسف شاهين. ومن خلال الحوار، نكتشف بأن هذا الطفل هو شاهين في الصغر ويمثل
القيم والمباديء والبراءة في شخصية شاهين، ولأنه نسيه وإبتعد عنه، فهو يثور
عليه ويحاول قتله. وتبدأ المحاكمة بالبحث عن الجناة الحقيقيين في محاولة
قتل يوسف شاهين والمشتركين مع الطفل المعذب.
يبدأ شاهين بمحاكمة الأم.. الأب.. الأخت في صورة واقعية سريالية. ثم ينتقل
الى محاكمة الزوجة.. الأبناء.. المدرسة.. السلطة.. الأصدقاء.. المجتمع
والدولة. ويقدم رؤيته السياسية والإجتماعية بعمق ووعي، فبالرغم من أنه
ينحدر من أسرة بورجوازية تتمسك بالتقاليد الأروستقراطية، إلا أنه فنان يقدم
أفلاماً عن الكادحين.
وتتحدد معالم هذه المحاكمة بشكل أكثر، عندما نحدد أطراف الصراع المختلفة
التي أدانها يوسف شاهين، لتبرز من خلالها أبعاد الأزمة درامياً وفكرياً:
أولاً: صراع شاهين مع أسرته:
فالأم مشتركة في محاولة القتل، فقد كانت قاسية وقلقة ومشغولة عن أطفالها
لتحقيق متعتها الشخصية، مما أثر على شاهين وجعله يبحث عن الحنان عند أخته
وجدته، إلا أنهما كانتا مشغولتاين عنه بأشياء أخرى . أما الأب فقد كان
مكسور الجناح، يحلم بأن يكون محامياً مشهوراً، وكان يرضى بالواقع لأنه عاش
ظروفاً صعبة للغاية. وأنه كان يرى بأن الضمان المادي هو الأهم، فقد زوج
إبنته لرجل غني على الطريقة التقليدية. كذلك الزوجة التي تزوجها شاهين عن
حب، ولكنها إنشغلت عنه ولم تفهم طموحه السينمائي. لقد كان يشعر بأنها في
واد وأفكاره وأحلامه في واد آخر.
ثانياً: صراع شاهين مع واقعه:
يبدأ إتهامه بالمدرس (عبد العزيز مخيون) الذي كان يضربه ويعذبه ويتلذذ
بعذابه، لذا يظهره في هيئة "هتلر". ومن هذه النقطة يبدأ شاهين بالتحدث عن
القمع والإحباطات. يتحث عن مرحلة الشباب وبداية تشكل وعيه الوطني والسياسي،
والذي يبدأ مع أول مشاركة له في المظاهرات وإصابته في رأسه، تلك الإصابة
التي تترك بصماتها الوطنية والمتمردة على حياته وتفجر فيه نوعاً من
الثورية. ومن ثم يبدأ شاهين في بلورة موقفه من الواقع الإجتماعي والسلطوي،
ويكشف عن مواقفه القومية والسياسية ويقدمها في أفلامه. ويتحدث عن علاقته
بالرقابة والسلطة بشكل عام والمشاكل التي تعرض لها بعد إخراجه لفيلم عن
(الناس والنيل). ويعلن صراحة بإيمانه بالناصرية وينحاز الى كل ما أفرزته
تلك المرحلة من أفكار وأيديولوجيات. كما يتحدث عن تجربته مع المهرجانات،
حيث يكتشف بأن السياسة تتحكم في نتائج المهرجانات الأوروبية. ويتطرق لدور
المنتج في الحياة السينمائية، وكيف أنه يتحكم دائماً فيما يقدم من أفلام.
ثالثاً: صراع شاهين مع ذاته:
بإعتبار يوسف شاهين فنان قلق ومتوتر، نراه في تمرد دائم. فهو دائماً غير
راض، متمرد على نفسه وعلى عمله، يختلف مع الطفل الذي كان ويختلف حتى مع
سلوكه، تنتابه الهواجس والوساوس. نراه يبدأ بنقد الذات، ويبدو ذلك واضحاً
في الفيلم، عندما يعرف بأن إبنته قد ضبطت مع شاب في سينما بحي السيدة زينب،
وبأنه لم يأخذ أي دور إيجابي من هذه العلاقة. فبالرغم من أن شاهين يحب
الناس البسطاء ويجد نفسه معهم، إلا أنه يتعالى عليهم ويرفض بشدة أن تتزوج
إبنته من أحد أبناء حي السيدة زينب. ويبرز الحوار الذي دار بين الثلاثة،
مدى التناقض بين المباديء التي ينادي بها وبين سلوكيات الطبقة التي ينتمي
لها. ويبين الفيلم مدى الضبابية السياسية التي تمثل موقف يوسف شاهين، فهو
فنان لا يفهم كثيراً في السياسة ولا يحاول أن يفهمها، وقد أبرز ذلك في عدة
مشاهد. إن موقفه السياسي واضح تجاه ما يؤمن به ويعبر عنه، فهو يؤمن بالحق
بأن تحصل افئات الشعبية على حقوقها، ولكنه لا يعرف كيف يتم ذلك. ومن خلال
تراكم الأحداث وتصاعد الحوار بين شخصيات الفيلم، نكتشف بأن كل من قابلوه في
حياته قد أخطأوا في حقه، حتى أنه هو نفسه قد أخطأ في حق نفسه وذلك بإبتعاده
عن مبادءه.. عن صفاء طفولته.. عن إحساسه البسيط بالناس.
وتنتهي الحدوتة بالمصالحة بينه وبين شاهين الطفل، في الوقت الذي تنتهي فيه
آخر مراحل العملية الجراحية، والتي تتم في صدره. ومع إتمام هذه المصالحة
تنجح العملية، ويتعاهد الإثنان على نفس المباديء ونفس القيم، وألا يفترقا
مرة أخرى. ويدخل الملاك الصغير (شاهين الطفل) في جسد شاهين الكبير، لتتألق
الطفرلة الزاهية داخله وينتابه ذلك الشعور بالراحة والطمأنينة، فقد عاد
إليه الحلم.
هذا هو فيلم يوسف شاهين، الذي يثير الكثير من القضايا على مستوى الفكر
والأسلوب السينمائي والتقنية الفيلمية، بما يطرحه من قوالب وأشكال فنية،
إضافة الى ما تحدثنا عنه بما يخص الجوانب الفكرية. |