اسكندرية... ليه؟، فيلم يوسف شاهين، يعرض حالياً في بيروت بعدما بترت منه
الرقابة بعض المشاهد. سمير نصري يعرض أفلام شاهين من 1950 إلى اليوم، ويوسف
شاهين يعلق عليها.
عما تحكي أفلام يوسف شاهين منذ ثلاثين سنة؟ عبر أربعة وعشرين فيلماً
روائياً طويلاً منذ 1850 إلى اليوم، من "بابا أمين" إلى "اسكندرية... ليه؟"
(حالياً على الشاشات اللبنانية)، رحلة طويلة مع الاستعراض السينمائي على
أشكاله: من الميلودراما إلى الكوميديا الخفيفة، من الفيلم التاريخي إلى
المأساة الغنائية الموسيقية، من سينما المغامرات إلى فيلم التحليل السياسي.
وفيلماً بعد فيلم يزداد أسلوب شاهين تمكناً وتقنية وتطوراً مستمراً.
والقاسم المشترك الذي يجمع المواقف والشخصيات التي تناولها، أيا كانت قصص
أفلامه، هو عنصر موضوعي ثابت مستمر: الحب، كل أفلام شاهين أفلام حب. الحب
في مفهومه الشامل: العشق والصداقة والحب العائلي وحب الأرض. وحب مصر هو
الموضوع الأساسي في أهم أفلام شاهين. مصر وشعبها. لا شوفينية ضيقة ولا حتى
وطنية في المعنى التقليدي: حب الناس الطيبين ومد أصبع الاتهام إلى من
يستغلهم ويهينهم ويقمعهم.
سينما شاهين سينما جوادة، سخية. تغلي بالأحاسيس والأفكار، فياضة بالمشاريع
من أجل عالم أفضل، مجتمع أكثر عدالة، مواقف أكثر نبلاً وتصرفات أقل ندالة.
من أجل شجاعة أكبر في التصدي للظلم والاستغلال ومن أجل تسامح أعمق. شاهين،
شاعر الجماهير الشعبية العريضة، هو كذلك شاعر الأقليات. شاعر كل من هو معذب
لأنه مختلف عن الحشد. قناوي أعرج "باب الحديد"، سويلم فلاح "الأرض" الشهم،
"الابن الضال" الحالم بآفاق أعرض، جميلة بوحريد الفتاة الثائرة ومحسن، فتى
"اسكندرية... ليه؟" الحالم بأميركا البعيدة... جميعهم، وغيرهم كثيرون،
يحيطهم شاهين بحنانه الكبير وكأنه تبنى قول أندريه جيد: "العالم ستنقذه
قبضة صغيرة من الأقليات".
أربعة وعشرون فيلماً، بعضها اكتسب شهرة عالمية وبعضها نادراً ما يلتقي هاوي
السينما معها. أفلام تحلق وهي أقوى ما أعطته السينمات العربية، وأخرى ضعيفة
مهزوزة. ولكن هناك دائماً تقنية جيدة واهتمام واضح بإدارة الممثلين وخلق
الأجواء المناسبة. وعبر السنين والأعمال، تتبلور شخصيته السينمائية وتنضج،
ويزداد أسلوبه سلاسة وعمقاً، شخصيته التي تحكي عن عالم هو في حاجة إلى
المزيد من المحبة، وفي الوقت ذاته إلى وعي أكبر لكل العوامل السياسية
والاقتصادية التي تقسم مجتمعات العالم الثالث إلى قئة قامعة وأخرى مغلوب
على أمرها.
"بابا أمين"
1950: بعد العودة من معهد باسادينا، كاليفورنيا، يوسف شاهين (24 عاماً)
يحقق أول أفلامه. "بابا أمين" تحية للأبوة الحنونة، كوميديا مرحة خفيفة من
تمثيل حسين رياض، فاتن حمامة وماري مونيب.
يحكي شاهين: "وقتها، كنت عائداً من الولايات المتحدة بحقيبة لا بأس بها من
المباديء التقنية وبشيء من الثقافة السرحية. سافرت أدرس الإخراج مع ميل ثري
إلى التمثيل، وعدت مقتنعاً بأن مكاني هو وراء الكاميرا. في السينما
المصرية، كان العصر الذهبي للميلودراما وللكوميديا. اخترت الكوميديا
الخفيفة مع قسط وافر من الانفعال العاطفي. ربما اهم ثلاثة أشياء تعلمتها في
المعهد هي: 1- أهمية الالهام التام بتقنيات السينما، ففيها أسس الوسيلة
التي يعبر بها المخرج. 2- ضرورة الالمام بالمباديء الدرامية الأولية. 3-
السينما تحدث أذهان الناس، ولكنها أولاً تصل إلى قلوبهم وأعصابهم. تعلمت
أهمية الإحساس. كانت تجربة أولى ممتعة، مع ممثلين قديرين. الفيلم لطيف،
وحسين رياض كان مدهشاً. أول فيلم كان بمثابة تحية لوالدي، شخصية عميقة
الدفء".
"ابن النيل"
1951: "ابن النيل"، ميلودراما فلاحية، مقتبسة اقتباساً عن مسرحية "ابن
الطبيعة" للأميركي غرانت مارشال. تمثيل فاتن حمامة، يحيى شاهين، شكري سرحان
في أول أدواره الكبيرة، ومحمود المليجي في أول لقاء مع شاهين. ابن الريف
البسيط يقصد المدينة الكبيرة ويلتقي فيها القساوة والتسلط والضياع.
للمرة الأولى فيلم ليوسف شاهين في مهرجان سينمائي دولي (برلين)، والقليل من
النقاد الغربيين الذين اهتموا بالشريط يثني على "محاولته الخروج بالفيلم
المصري من نطاق الميلودراما الغنائية الراقصة".
في مصر والبلدان العربية، حقق الفيلم نجاحاً جيداً واستقبل المخرج الجديد
على أنه "بركات شاب". في "ابن النيل"، الحب والإخلاص والأصالة ضد النفاق
والزيف.
يقول شاهين: "اشتركت في وضع سيناريو الفيلم. لم أكن أتصور ضرورة الاهتمام
بإخراج سيناريو. لم أضع فيه شيئاً من نفسي، ومع السنين ترسخ اقتناعي بذلك.
بعد "شيطان الصحراء"، تكونت لي سمعة أكدت أنني "ما أفهمش في السيناريو".
كانو يقولون: "يوسف تقني جيد، لكن يا ريت لا يقترب من السيناريو". وأنا أصر
على الاشتراك في الكتابة. بعد ذلك، كلما قبلت بتنازل في هذا الصدد، كنت
أحقق فيلماً رديئاً".
"نساء بلا رجال"
1953: "نساء بلا رجال" ميلودراما عاطفية عن قصة لاحسان عبدالقدوس. الحب
يختنق في أجواء الكبت والنقاق الاجتماعي. ماري كويني، عماد حمدي، ومعهما
هدى سلطان، كمال الشناوي وعلوية جميل.
يقول: "قبله، أخرجت ميلودراما غنائية تمثيل ليلى مراد ويحيى شاهين هي "سيدة
القطار". منذ سنين لم أشاهد الفيلمين. أعتقد كان فيهما بعض المشاهد
الرقيقة، العذبة. ماري كويني وليلى مراد فنانتان عظيمتان وفي العمل معهما
متعة كبيرة".
1953: "صراع في الوادي"، دراما عاطفية صورت في ديكورات الصعيد المصري
الطبيعية وبين آثار الأقصر. يبدأ بعض عناصر أسلوب شاهين في الظهور بوضوح:
إيقاع سريع، نفس شعري، اهتمام دقيق بتكوين الصورة كعنصر أساسي في السرد
السينمائي.
عرف الفيلم نجاحاً ضخماً في أنحاء العالم العربي وكان بداية درب عمر الشريف
في السينما. اشترك رسمياً في مسابقة "مهرجان كان" الدولية وأحاط جان كوكتو
الفيلم وبطله باعجابه. تمثيل: فاتن حمامة، عمر الشريف، زكي رستم، وحمدي
غيث.
شاهين: "صراع في الوادي" رسخ قدمي في صناعة كان معظم أساتذتها في ضعف سني.
تجربة اطلاق وجه جديد كانت مثيرة للغاية، كذلك التصوير وسط المعابد البديعة
واستعمال هندستها عنصراً درامياً في البناء الشكلي لمشاهد المطاردة
الأخيرة".
"شيطان الصحراء"
1954: "شيطان الصحراء" مغامرات وفروسية مع عمر الشريف، عبدالغني قمر، لولا
صدقي ومريم فخرالدين.
شاهين: "للمرة الأولى واجهت الفشل الجماهيري. عندما كنا نصور الفيلم، كنا
نعتقد اننا نحقق انتاجاً سيلقى نجاحاً شعبياً كبيراً، بما فيه من روح
المغامرة والمرح والاستعراض. خابت آمالي، واضطررت إلى الانتظار سنتين قبل
التمكن من تحقيق فيلم جديد. أعتقد قصة "يوسف شاهين خارب بيوت المنتجين"
بدأت مع "شيطان الصحراء".
"صراح في الميناء"
1956: "صراع في الميناء"، ميلودراما عاطفية رقيقة، من بطولة فاتن حمامة،
عمر الشريف، أحمد رمزي، حسين رياض. شاهين يعود إلى مسقط رأسه ويصور فيلمه
في أجواء ميناء الإسكندرية.
شاهين: "فاتن كانت لذيذة جداً في هذا الفيلم. وكنت سعيداً بالقيام بتجربة
أخرى تتأكد بها ميزة التصوير الخارجي، بعيداً عن البلاتوهات التي كانت
الأفلام المصرية تسجن نفسها فيها باصرار".
"باب الحديد"
1958: "باب الحديد" مأساة اجتماعية، أولى تحف يوسف شاهين، وأول عمل يسيطر
عليه بحرية تامة. وأول صفعة كبيرة له. لكنه من أهم أعماله، اخراجاً
وتمثيلاً.
شاهين: "الفشل الذي لاقاه "باب الحديد" جاء صاعقاً. رفضه الجمهور بشدة،
وليلة الافتتاح بصق متفرج في وجهي. قالوا: معقد ومتشائم. اتهم بأنه معاد
لمصر لأنه يظهر تعاسة الحرمان الجنسي الذي يعيشه بائع جرائد في محطة "باب
الحديد". اضطررت إلى تغيير أشياء في توليف الفيلم واضافة لقطات قريبة إلى
عيون قناوي، بعدما أصر المنتج ومن كان حولنا أنها تساعد على تفسير الأشياء.
بالطبع لم تضف اللقطات الجديدة أي شيء إلى مسيرة الفيلم، وكل ما كنت فعلته
بتنازلي هو التشويه في أسلوبه. بعد عشرين عاماً، أصبح "باب الحديد" فيلمي
الأكثر شعبية، بعيد التلفزيون عرضه باستمرار، وفي كل مرة ينال نجاحاً أكبر.
أما أنا فخرجت منه أتساءل: "هل حقاً علي الابتعاد عن السيناريو وترك وضعه
لغيري؟". وكانت بداية فترة سوداء".
"جميلة بو حريد"
1958: "جميلة بو حريد"، دراما سياسية. أول لقاء لشاهين مع نجيب محفوظ
وعبدالرحمن الشرقاوي (اشتراكه في السيناريو) وأول فيلم سياسي له. ماجدة في
شحصية المناضلة الجزائرية، واتهام عنيف لأساليب التعذيب في معاملة المحتل
الفرنسي للثوار الوطنيين. أعيد تصميم الكاسبا في أستوديوهات الجيزة، وجاء
الفيلم تحية حارة للثورة الجزائرية.
شاهين: "كان بداية تعاملي المباشر مع موضوع سياسي في جوهره. إلى هنا، كان
اهتمامي بعملي يطغى على كل شيء آخر. لنقل أنني لم أكن بعد قد كونت لنفسي
نظرة تحليلية ناضجة بالنسبة إلى اللعبة السياسية العالمية أنه اهتم بشخصية
بطولية بينما حرب الجزائر كانت ثورة الملايين. لو حققته ثانية اليوم بالطبع
سيأتي مختلفاً، لكنني مقتنع أنه كان يحمل، في ذلك الوقت، شحنة لا بأس بها
من الاتهام لقمع الاستعمار ووحشيته، وصرخة تنادي بحق الشعوب في حريتها".
"حب إلى الأبد"
1960: "حب إلى الأبد"، كوميديا عاطفية من تمثيل ماجدة، شكري سرحان، زينات
صدقي، علوية جميل وقسمت شرين.
شاهين: "الفترة القاتمة بدأت في 1959 مع "حب إلى الأبد". الفيلم في ذاته لا
يخلو من الحسنات في بساطة بنائه الدرامي البوليسي، لكن "حب إلى الأبد" ليس
فيلمي، ولا "نداء العشاق" الذي حققته في 1960 ولا "رجل في حياتي"
(ميلودراما عاطفية بلهاء أخرجها في العام التالي). كانت فترة شك سوداء.
انتهيت إلى الاقتناع بأنه علي الاقتصار على الاهتمام بالاخراج وتركت مهمة
كتابة السيناريو لغيري. نتيجتان لهذه الحالة: 1- حققت أربعة أفلام رديئة
جداً أتعستني ولم تدخل قروشاً إلى صناديق منتجيها. 2- قررت تزويد نفسي
بالمزيد من المعرفة والعلم وأخذت أدرس أصول الكتابة الدرامية من جذورها. في
العشرين، أصررت على السفر إلى أميركا لدراسة تقنية الإخراج السينمائي. في
الخامسة والثلاثين عدت طالباً علم البناء الدرامي".
1963: "الناصر صلاح الدين"، ملحمة تاريخية في 195 دقيقة. انتاج ضخم حققته
السيدة آسيا داغر واشتركت فيه مجموعة ضخمة من نجوم السينما والمسرح: أحمد
مظهر، ناديا لطفي، صلاح ذوالفقار، ليلى فوزي، عمر الحريري، وللمرة الأولى
على الشاشة أحمد سلطان مجرباً حظه في التمثيل قبل دخول عالم التأليف
الموسيقي، وسامي ساروفيم (في دور ابن صلاح الدين) الذي رحل من بعد إلى
بروكسيل ودرس الإخراج السينمائي وأصبح أحد أشهر مخرجي السينما البلجيكية
تحت اسم سامي بافيل.
كان من المقرر أن يخرج عزالدين ذوالفقار "صلاح الدين" قبل أن ينتابه المرض.
على فراش الموت قال: "شاهين وحده يقدر على تحريك المجاميع الكبيرة، إذا لم
يقدر لي تحقيق الفيلم أرشحه لهذا العمل".
دخل شاهين التصوير بينما كان السيناريو لا يزال يعدّل، واندفع محققاً أضخم
انتاج عرفته السينما العربية في ذلك الوقت، في مشاهد معارك ظلت فريدة في
قوتها. أثناء التصوير، أعلن انفصال العربية المتحدة واضطر شاهين إلى
التخفيف من حوار الناصر صلاح الدين الأيوبي حول عظمة وحدة العرب. عرف
الفيلم نجاحاً جماهيرياً كبيراً في أنحاء العالم العربي، وكان أول فيلم
لشاهين يوزع تجارياً في أوروبا. وفي الإتحاد السوفياتي عرف اقبالاً بالغاً،
غير أن "صراع في الوادي"، من بين أفلام شاهين، يظل المفضل لدى السوفيات،
فقد وزعت منه ما يتعدى الأربعمئة نسخة.
شاهين: "استغرق العمل على "الناصر صلاح الدين" أكثر من عام ونصف، وما زودنا
بالقوة اللازمة لانجاز انتاج يبدو مستحيلاً في نطاق السينما المصرية
وحدودها، هو ايماننا العميق الحاد بالناصرية وبمناداة ناصر وقتها إلى وحدة
القوى العربية. في تلك الفترة، كانت بداية تفتحي على الفكر السياسي ومطلع
محاولتي استيعاب التحليل السياسي، لكن نظرتي إلى اللعبة السياسية العالمية
كانت لا تزال سطحية وفيها شيء من السذاجة".
"الناصر صلاح الدين"، أول فيلم بالألوان (والسكوب) ليوسف شاهين.
"فجر يوم جديد"
1964: "فجر يوم جديد"، دراما اجتماعية وأول فيلم لشاهين من بطولة امرأة.
حتى قصة نايلة أبو العلي البورجوازية الكبيرة التي تحاول الهرب من طبقتها،
ومن بعدها إلى اليوم، أفلام شاهين هي أولاً أفلام رجال. الشخصيات النسائية
فيها تأتي أحياناً غاية في القوة ولكنها تظل ثانوية في عالم الرجال. "فجر
يوم جديد" قصة امرأة ومحاولة تحليل لنفسية المرأة التي تقدمت في السن وفجأة
يصعقها الحب عندما تلتقي شاباً في عمر الشباب. امرأة من الطبقة البورجوازية
التي كان ينادي عبدالناصر بضمها إلى مصر الثورة للانتفاع من إمكانات
عطائها، وشاب جامعي من الطبقة الشعبية يكشف لها عن عالم الشوارع الخلفية
وبشرها الطيبين.
مع سناء جميل في أكبر دور سينمائي لها، وللمرة الأولى على الشاشة سيف
الدين، الموهبة الشابة التي التقاها شاهين على خشبة "الفرقة القومية للرقص
الشعبي" وتبناها.
العرض العالمي الأول من "فجر يوم جديد" كان في مهرجان بيروت السينمائي
الدولي في خريف 1964، بينما كان شاهين بدأ في تصوير "غداً تبدأ الحياة"،
فيلم روائي طويل شخصياته من بناة السد العالي. بعد تصوير لقطات تمويل مجرى
النيل، توقف التصوير تحت ثقل الأساليب البيروقراطية التي كانت مسيطرة على
المؤسسة العامة للسينما، منتجة الشريط. جاء شاهين إلى بيروت لحضور عرض
فيلمه، حيث عرض عليه الأخوان رحباني إخراج أول فيلم سينمائي من بطولة
فيروز.
"بياع الخواتم"
1965: "بياع الخواتم"، تصوير سينمائي لمسرحية عاصي ومنصور الرحباني، اضطرته
الظروف الإنتاجية إلى سجن نفسه في أستوديو التصوير بدلاً من الخروج إلى
ربوع لبنان.
يقول شاهين: "وقتها كنت في وضع نفسي سيء جداً، وظهر هذا بوضوح في الفيلمين
اللذين حققتهما خارج مصر. "بياع الخواتم" يظل فيلماً وموسيقى الأخوين
رحباني جميلة جداً، أما "رمال من ذهب" الذي صورته في أسبانيا، فأعتقد أنه
أسوأ فيلم صنعته في حياتي. خرجت من هذه التجربة الأخيرة باقتناع راسخ: أنا
لا أصلح لما يسمى بكومبينات السينما. عدت إلى مصر ووكلت إخراج أول انتاج
مشترك مصري – سوفياتي.
"الناس والنيل"
1968: "الناس والنيل"، انتاج كبير صور في منطقة السد العالي في أسوان، وفي
موسكو وليننغراد. اشتركت فيه نخبة من التقنيين والفنانين المصريين
والسوفيات. وعند خروج أول نسخة منه، بدأت مشاكله مع السلطات. السوفيات
يطلبون تغييرات والمصريون يصرون على تبديلات. وفي النهاية جاء فيلماً
مفككاً، مضطرباً، كأنه مشروع فيلم.
شاهين: "فترة أخرى لم تكن سهلة. بضعة أشهر من الاجتماعات والمناورات، وفي
النهاية يأس كبير وقبول بالأمر الواقع. لم يحقق الفيلم أي نجاح يذكر. وفي
الشكل الذي قدم فيه، لم يكن يستحق أكثر. لكنه في النسخة الوحيدة الأصلية
المحفوظة لدى السينماتيك الفرنسي، بعض أفضل مشاهد حققتها في حياتي. وبعد
فترة الأزمة، خلاصة أخرى خرجت بها: يجب تفادي الإنتاج المشترك بين
الحكومات".
1968: "الأرض"، رائعة شاهين الأكثر تكاملاً. ملحمة فلاحية بديعة قدمت في
عرضها العالمي الأول في نطاق مائدة مستديرة كان ينظمها في بيروت المركز
الوطني للسينما والأونسكو. ليلة عرضه في غياب شاهين، وقف مدير قسم الخلق
الفني في الأونسكو، الدكتور أنريكو فولكينيوني والدموع في عينيه وقال:
"أيها الأصدقاء، لقد حضرنا الليلة عملاً سينمائياً عالمياً سيدخل تاريخ
الفن السابع. كرس لها الناقد الفرنسي جان لوي بوري صفحة في مجلة "لو نوفيل
أوبسرفاتور". وبعرض "الأرض" في مهرجان كان وتوزيعه في أنحاء فرنسا، كانت
بداية الاعتراف العالمي بيوسف شاهين.
تحولت قصة عبدالرحمن الشرقاوي إلى رائعة هي قمة الواقعية في السينما
المصرية. واقعية رؤية شاعر يتغنى بأرض مصر، رجالها ونسائها. تناول شاهين
قصة تدور أحداثها أيام الانجليز والباشاوات ووضع قصيدة ملحمية للإنسان
المصري المتعلق بأرضه. ابن مصر النكسة يرفض مذلة القمع ويقف أبياً في وجه
اشكال الاستعمار.
في "أرض" أطلق شاهين مقدمة البرامج التلفزيونية نجوى إبراهيم، وبرهنت على
أنها ممثلة ممتازة. أعطى أول فرصة سينمائي لعزت العلايلي وأهدى محمود
المليجي أعظم أدواره.
"الاختيار"
1970: "الاختيار"، كتب يوسف شاهين القصة واشترك معه نجيب محفوظ في وضع
السيناريو.
شاهين: "الأرض" قصة الرجال الذين يقولون "لا" ويرفضون الرضوخ. "الاختيار"
قصة رجل قال "نعم"، قبل بالتنازل وخان نفسه فعاش انفصاماً في الشخصية".
بطل "الاختيار" كاتب، ومن خلاله يبدأ شاهين إدانته للمثقفين المصريين: رجل
وتوأمه، سجين وحر. وفي نهاية الصراع والتمزق، القميص الجبري ومستشفى
الأمراض العقلية.
مرة أخرى، يدير شاهين عزت العلايلي ومحمود المليجي وسيف الدين. وسعاد حسني
للمرة الأولى. قدم الفيلم في مهرجان أيام قرطاجة السينمائية، ومنح شاهين
الجائزة الكبرى لمجمل أعماله. وفي اللقاء التونسي، كانت بداية التعاون مع
السينما الجزائرية.
"العصفور"
1972: "العصفور"، أول فيلم من انتاج يوسف شاهين بالاشتراك مع الديوان
الوطني للسينما في الجزائر.
يترك شاهين الماضي ويؤرخ مصر الهزيمة ويحلل العناصر الداخلية التي أدت
إليها. يتهم المثقفين بسلبيتهم وتعفن السلطة. ينتهي الفيلم بإعلان الرئيس
عبدالناصر تنحيه في نهاية حرب الستة أيام، وتنزل الحشود إلى شوارع القاهرة
للتعبير عن رفضها الاستسلام ومناداتها بالحرب لاسترداد الأرض والعزة.
مرة أخرى، يتغنى شاهين برجل الشارع، بالفلاح والعامل. وفي شخصية بهية الأم
الحنون القوية يعطي أجمل وجه نسائي مر في أفلامه. محسنة توفيق تحلق، ومعها
محمود المليجي الذي أصبح من الممثلين الركائز في أفلام شاهين، وسيف الدين
في دور الضابط الشاب الذي يلاحق شاحنات التهريب حاملة مال الشعب المنهوب.
وصوت الشيخ إمام يغني شعر أحمد فؤاد نجم: "مصر يا امه يا بهية... يا ام
طرحة وجلابية... الزمن شاب وانت شابة... هو رايح وانت جاية". وحوار لطفي
الخولي الذكي.
"عودة الابن الضال"
1975: "عودة الابن الضال"، مأساة موسيقية غنائية، ينطلق فيها شاهين من
أمثولة الابن الذي هجر منزل الأب بحثاً عن نفسه، يهوي في الطريق، يعاني سجن
الرجال وعندما يخرج منه يلتقي جنازة الرئيس... يعود مهزوماً إلى المنزل
العائلي ليلتقي أخاه الفتي الذي يحلم بدوره بالهرب بحثاً عن فرصة أخرى
لتحقيق نفسه. ينتهي الفيلم بالعائلة تنفجر، الابن يقتل امه والاخ أخاه
والجيل الشاب وحده ينجو للانطلاق نحو شمس جديدة.
أراد شاهين فيلمه صورة لتفكك العالم العربي وانحلاله. ويوم كتب السيناريو
المتنبيء لم تكن بعد اندلعت الحرب اللبنانية.
إلى جوار محمود المليجي، هدى سلطان وسهير المرشدي، يقدم شاهين في "عودة
الابن الضال" ثلاثة وجوه شابة جديدة: اللبنانية ماجدة الرومي اكتشاف برنامج
"ستوديو الفن" التلفزيوني، هشام سليم ابن بطل كرة القدم صالح سليم، وأحمد
محرز احدى أقوى الشخصيات التي ظهرت على الشاشة المصرية في السنوات الأخيرة.
"عودة الابن الضال" ثاني انتاج مشترك بين شركة أفلام مصر العالمية التي
أسسها شاهين والسينما الجزائرية.
"اسكندرية... ليه؟"
1978: "اسكندرية... ليه؟" انتاج مشترك بين شاهين والتلفزيون الجزائري، قدم
في عرض عالمي في الليلة الأولى لافتتاح مهرجان قرطاج التونسي. كانت مفاجأة
اتفاق "كامب ديفيد" لا تزال ملتهبة، ودخل المثقفون والمسؤولون العرب
لمشاهدة عرض فيلم شاهين متوقعين فيلماً يجابه سياسة السادات ويأخذ موقفاً
معادياً صريحاً منها. نسوا أن شاهين يوم كتب سيناريو فيلمه الجديد لم تكن
قصة "كامب ديفيد" على بال (من بدايته في انتاج أفلامه، يعطي شاهين كل عمل
سنتين إلى ثلاث سنوات من التحضير والانجاز).
صفعهم فيلم يحكي فيه شاهين عن مصر الأربعينات، أيام كان صبياً يحلم بتحقيق
آمال كبيرة. "فيلم عن التسامح، في أيام تحتاج فيها العروبة إلى تكتل قوى
حقد العدو؟!".
قدم "اسكندرية... ليه؟" في مهرجان برلين الدولي وحاز جائزة لجنة التحكيم
الخاصة، وعرض تجارياً في عدد من البلدان الأوروبية وفي العديد من
المهرجانات وفي الأسابيع التي أقيمت في القارات الخمس على شرف المخرج
المصري. وبعد عرضه في مصر، وفي مهرجان قرطاج ومكتبة الأفلام الجزائرية،
وأسابيع قليلة قبل اطلاقه في تونس والمغرب، "اسكندرية... ليه؟" على الشاشات
اللبنانية. سمحت به الرقابة بعدما قطعت منه عدداً مهماً من اللقطات، ملاحقة
فيلم شاهين بنوع آخر من سوء المعاملة. لأسباب، وحدهم موظفو دائرة الأمن
العام يعرفونها، بتر مشهد يصور فيه شاهين حادثاً وقع في طفولته: قرب عيد
الميلاد، بينما يلعب الطفل بالمغارة الورق، وقعت شمعة واحترقت المغارة
بشخصياتها. وعندما مات أخوه الكبير بعد الحريق ببضعة أيام، لاحقته جدته
العجوز بسخط هو وليد ألمها: "مات أخوك لأنك حرقت المسيح!".
في النسخة التي تعرض في بيروت، بقيت لقطة لعنة الجدة، وقطع مشهد الحريق. من
أخذ على عاتقه قرار القطع وهل يمكنه تفسير معنى فعله؟
كما بتر عدد من اللقطات الأخرى التي لا تقل أهمية، وعلى رأسها مشهد لقاء
الشاب يحيى (محسن محي الدين، ممتاز) بأخت صديقه ديفيد، اليهودي رفيق
الدراسة الذي هاجر من الإسكندرية أمام الزحف النازي في 1942. يسألها عن
صديقه وتبلغه: "ديفيد أصبح عسكري... بيدرس العسكرية دلوقت في أميركا..."،
فتهلل يحيى المتأهب للسفر إلى كاليفورنيا لدراسة الفن الدرامي: "يمكن
نتقابل!"، ويضيع نظر سارة بعيداً، وتقول الفتاة المعادية للصهيونية في
مرارة كبيرة: "يمكن...".
قطع المشهد فمن يخبرنا المغزى من ذلك؟
ومن يفسر لنا الأسباب العبقرية التي حالت دون تشويه المشهد الأخير من
الفيلم؟ يحيى على ظهر السفينة المقتربة من مرفأ نيويورك. يحدق في انبهار
إلى تمثال الحرية الشامخ وتعلو الموسيقى الهوليوودية التي طالما حلم بها
الفتى، سرعان ما يغطيها غناء جماعي بلغة غريبة على الفتى... يركض إلى
الناحية الأخرى من ظهر السفينة ويرى حشداً من اليهود والحاخامات مشتركين
معه في الرحلة إلى العالم الجديد. وفجأة يفتح تمثال الحرية عينه ويضحك في
هستيريا، كاشفاً عن أسنان سوداء مسننة.
دفاعاً عن من أو عن ماذا، بتر مشهد "اسكندرية... ليه؟" الأخير؟