(1)
التفاصيل الحميمة الموغلة في العفوية، لا تبدو في فيلم "أرض الأحلام" شيئاً
زائداً عن الحاجة، على العكس فأنت كلما تأملت التفاصيل الصغيرة تسنى لك أن
تكتشف عملاً فنياً مصاغاً كما المنمنمات التي يبدعها فنانون يضاهون النساك
ومن يؤلفون عناصر أيقوناتهم.
(أرض الأحلام - 1993) واحدة من أيقونات الواقع الإنساني، هذا الواقع الذي
لا نستطيع التغلغل في أعماقه وجوهره بدون أن نلامس تفاصيله، بمساعدة أنامل
حساسة، مثلما يلامس المطر الأشياء، وحيث نرى الذات تغري الأخرى بالبوح
والمزيد منه.
العمل الفني الناجح، يقول النقاد، هو الذي يتيح للمشاهد أن يكشف فيه
الأبعاد الأخرى التي ربما لم يذهب إليها صاحب العمل مباشرة، ففي التعدد
الدلالي إغناء وإعادة خلق مستمرين، يمنحان العمل الفني حياة جديدة وقادرة
على الولادة في كل مشاهدة، وكلما اتصل العمل الفني بأعماق الحياة متجاوزاً
سطح الأشياء وقشرة الحياة، توافرت له المعاني الجميلة والآفاق المشرقة على
البعد الإنساني.
(2)
نرجس (فاتن حمامة) أرملة في حوالي الخمسينات من عمرها، مستغرقة في حياتها
اليومية في سبيل خدمة وارضاء أولادها بصورة تشبه الاستحواذ، لدرجة أنها تجد
نفسها مضطرة للسفر إلى أمريكا تلبية لرغبة ولدها وابنتها في اللحاق بهما
بعد فترة’ حسب نظام الهجرة المعتمد في تلك البلاد، وهي تحاول تأجيل سفرها
مفتعلة أسباباً وحججاً مختلفة، لكونها غير مقتنعة، بل وتكره فكرة مغادرة
بيتها، لكنها لا تجرؤ على اعلان ذلك بسبب عدم تعودها على رفض رغبات
أولادها.
وعندما تودع نرجس أمها عند دار المسنين يتجسد مشهد العنف الداخلي الذي
تعاني منه كما لو أنها تشعر أنها مجبرة على وداع أمها ربما للمرة الأخيرة،
فسفر مثل هذا من شأنه أن يحرمها من أمها للأبد.
وعندما تطرح والدتها السؤال المستغرب عما إذا كانت ابنتها نرجس سعيدة في
حياتها أم لا، لكونها لم تحتج على شيء وما إذا كانت قد اخذت منها صفة من
صفاتها.
في هذا المشهد/ المنعطف علينا أن نمسك بواحد من أهم محاور الفيلم الذي
يقترحه علينا المخرج، الأم تسأل عن عنصر الشبه الذي أخذته ابنتها منها،
والأم المسنة تشير بشكل غير مباشر إلى طبيعة الخضوع لدى ابنتها نرجس، فهي
لم تقل كلمة لا أبداً.
وطوال الفيلم علينا أن نرقب هذا التحول الخطير الذي ستتعرض له نرجس من خلال
تفاصيل مغرقة في الواقع والعفوية في ذات الوقت. حادثة فقدها للجواز وبطاقة
السفر سوف تدفعها إلى التجربة، ولعل المخرج يريد أن يقول لنا أن الإنسان لا
بد له من الدخول في (التجربة) لكي يتاح له اكتساب طاقة الاختيار.
رؤوف (يحيى الفخراني) هو الطبيعة الثانية التي تفتقدها نرجس والتي تتوق
إليها في ذات الوقت، وربما تسنى لنا اعتبار شخصية رؤوف الفوضوي والعفوي
المتدفق مرحاً والذاهب نحو متعته ببساطة وبدون تهتك، هو الرغبة المكبوتة
التي حرمت منه نرجس في حياتها، فهي طوال عمرها كانت ضحية استغلال بشع من
قبل نظام العائلة التذي لا بد للمرأة، حسب هذا النظام، من خدمة العائلة
بنكران ذات يضاهي العبودية، حتى أنها في مشهد صديقاتها وهن يستعدن أحلامهن
في فترة الشباب، تكتشف أنها لم تمتلك أحلاماً، لا تتذكر أنها كانت تحلم
بشيء خاص، فبعد وفاة زوجها انغمست في العناية بالأولاد ونسيت كل شيء، نسيت
حتى نفسها، ولم تقل (لا) أمام تلك الواجبات التي تصادر انسانيتها وحقوقها
الذاتية، والعاطفية خصوصاً.
(3)
لماذا يتحتم عليها السفر إلى أمريكا دون رغبتها لمجرد أن أولادها يرغبون في
تحقيق أحلامهم، في حين أنها لم تزل محرومة من أبسط الأحلام؟
هذا سؤال لم تجرؤ المرأة العربية أن تطرحه على سلطات الواقع المحيط بها..
أكثر من ذلك، فان على الأبناء أن يكفوا عن مواصلة استغلال إنسانية الأم إلى
هذه الدرجة، لقد كانت المسافة بين معاناة الأم وملابسات حياة الأبناء
وطريقة تفكيرهم شاسعة، إلى الحد الذي سوف نكتشف فيه، بالمصادفة الموضوعية،
أن الابن في حقيقة الأمر لم يكن يريد السفر إلى أمريكا إلا خضوعاً لرغبة
زوجته التي تحلم بتحقيق تطلعاتها الاجتماعية والمادية، ولعله تفصيل صغير
آخر من التفاصيل التي سوف يترتب عليها انتعاش شهوة الرفض لدى نرجس، حيث
يتصاعد الانحياز نحو التمرد على حالة الخضوع المجانية التي استحوذت عليها
طوال الوقت.
وسوف تشكل شخصية رؤوف المكان/ الزمان العاطفيين، وهي روح يمنح نرجس دفئاً
احتاجت إليه دون أن تعلن ودون أن تنكر مصادرة الآخرين له، والعالم الغرائبي
الذي يأخذها إليه رؤوف لم يكن مجازاً يتصل بمهنة الحاوي التي يحترفها لكسب
لقمة عيشه، ولكنه عالم الأعماق المكبوتة الذي تشير إليه شخصية نرجس من جهة
وشخصية رؤوف المتحررة والمنطلقة من جهة أخرى.
وفقد الجواز وبطاقات السفر ليس إلا كناية عن وسائل الاختراق النفسي الذي
كان يتحقق على يدي رؤوف فيما ينقل نرجس من عالمها الرتيب السلبي إلى قضاء
الأعماق العاطفية الدافئة، ينقلها، بمعنى يسافر بها في المكان، وهو (رؤوف)
المتهم بالتسبب في فقد وسائل الانتقال (الجواز والبطاقات) إلى تحقيق أحلام
الآخرين (الأبناء) حيث لا تريد نرجس أن تسبب خدشاً لمشاعرهم، ولكي تكتمل
المفارقة سوف نكتشف أن البطاقات وجواز السفر كانا في غرفة نرجس ولم تفقدهما
وليس لرؤوف أي علاقة بالأمر، وربما استطعنا أن نقترح أن نرجس افتعلت ذلك
(بشكل لا واع) استجابة لرفضها المكبوت لفكرة السفر.
(4)
تبقى العلاقات الجوهرية بين نرجس وأمها عمقاً مكوناً للتجربة التي اجتازتها
نرجس في الأربع والعشرين ساعة (مدة أحداث الفيلم) وهي فترة زمنية تختزل،
موضوعياً، الحياة الغنية الشاسعة التي عاشتها نرجس، والتي كانت تختزل
باستعادات غير مباشرة للماضي.
تبدو الأم في اعتقادي أحد أهم المحرضات النوعية التي تجعل نرجس تستعيد
ذاتها وتصوغ لها شخصية جديدة.
تساؤل الأم: فيم تشبهني ابنتي، ما الذي اخذته مني؟
هذا سؤال سوف يتحول إلى حالة صراعية داخلية تتجرعها نرجس في كل مرة تلتقي
فيها بأمها طوال الفيلم. منذ المشهد الأول نعرف أن الأم هي التي اختارت
الذهاب إلى دار العجزة لأنها (لا) تريد أن تكون عالة على ابنتها.
وهذه المسألة اختراق واضح للقيم في المجتمع والأخلاق العربيين، هي إشارة
إلى شخصية "جديدة" مستقلة تتميز بها الأم، في مقابل شخصية محافظة تابعة
تبدو فيها البنت (الشابة) نرجس.
في مشهد ذهاب الأم إلى دار السينما مع صديقها، ورفضها ترك الصالة قبل
انتهاء الفيلم، برغم الحاح نرجس، فالأم هنا لم تخضع (كما تفعل ابنتها)
لرغبات الأبناء على حساب متعتها، باعتبار أن هذا حق يتوجب احترامه
انسانياً.
ومشهد السينما الذي تبدو فيه الأم منسجمة ومستمتعة بالموقف العاطفي مع
صديقها ليس تصابياً، كما قد يبدو للبعض، ولكنه ضرب من الاستمتاع الحر الذي
يستحقه الانسان في كل مراحل حياته، وقد لاحظنا كيف كان الموقف مبهراً من
وجهة نظر الابنة نرجس، لكي تكتشف في أعماقها حقيقة كونها لم تزل، وهي
الأكثر شباباً قياساً بأمها، محرومة من هذه المتعة العاطفية، وهذه مقارنة
لن تفوت دون توغل في عذاب التجربة التي يريدنا المخرج مراقبتها تتحول في
أعماق نرجس.. ثم تمرد الأم على أنظمة الدار في الغذاء والإقامة وخروجها مع
صديقها إلى السينما مثلما يزوغ المراهقون من السكن الداخلي.
في مشهد المرح الطفولي الذي تستغرق فيه الأم مع رؤوف وهو يستعرض ألعابه،
كما لو أنه أمام طفلة في العاشرة، نرى كيف وقفت نرجس مشدوهة تشاهد الأم
بهذا الانطلاق الذي لم تعرفه نرجس في حياتها.
لم تكن كل تلك التفاصيل زوائد واستطرادات، على العكس، أنها عناصر مكونة
للمشهد، وغياب أي تفاصيل سوف يفسد المشهد، تماماً مثلما ترفع أجزاء صغيرة
من منمنمات الأيقونة، فبدون هذه التفاصيل لن يتسنى لنا اكتشاف وجه الشبه
الذي سوف تستعيده نرجس من أمها، مثلما يستحق المرء إرثاً جميلاً متأخراً.
فنرجس سوف تجيب على تساؤل أمها في الفيلم، وسوف تتفجر الأعماق المكبوتة
لتقول (لا) مختارة البقاء في مصر ورفض السفر إلى أمريكا، فالإنسان لا
يستطيع أن يحلم ويتشبث بما يختار من أحلام إلا إذا كان قادراً على الدفاع
عن هذه الأحلام.
وعندما رفضت نرجس فكرة السفر بدت كما لو أنها تجيب على رغبة أمها في أن
تقول (لا) لمرة واحدة على الأقل، وهي هنا لم تقل هذه الكلمة ترفاً، ولا هي
رفضت موضوع السفر فحسب، ولكنها رفضت أسلوباً كاملاً من الحياة لتختار طريقة
حياة جديدة، ويحلو لنا أن نرى على الرصيف المغسول بالمطر ذات صباح حميم،
ضرباً من حرية ذاتية لا تقوى كل السلطات على مصادرتها، إذا نحن أحسنا
اكتشاف درس تجربتنا واحسنا اختيار أحلامنا وكنا قادرين على التشبث بها
والدفاع عنها.
(5)
وللمولعات بحريات المرأة وحقوقها، ربما قال لهم هذا الفيلم أن المرأة لا
تطالب بالحقوق والحرية، ولكنها تأخذها فحسب، وعطفاً على هذا لا بد لنا أن
نستحضر المسافة الشاسعة بين (أريد حلاً) وبين (أرض الأحلام) وهي المسافة
ذاتها بين الخطاب الشعاري الصارخ والتأمل الحميم المشحون بالعاطفة والحب
والذاتية.
فلكي تكون المرأة قادرة على نيل حريتها وحقوقها في المجتمع يتوجب عليها أن
تحققها في الخلية الصغيرة، العائلة.
(6)
ونقترح هنا البعد الفني والموضوعي لاسم الفيلم (أرض الأحلام)، ففي الاسم
مفارقة تنطوي على دلالة غاية في الإيحاء، فالأرض عادة تشير إلى الواقع، في
حين الأحلام عادة تتصل بما فوق الواقع، بعيدة عن (أرض) الواقع. وفي الفيلم
علينا أن نقبل احتمال أن تكون التجربة التي تخوضها نرجس هي اختراق للمألوف
الواقعي في مناخ حلمي هو مزيج من الغرائبية (شخصية رؤوف وتجلياتها) ومن
الواقع البسيط والمباشر (شخصية نرجس وتجلياتها).
(7)
(أرض الأحلام) سيكون واحداً من أخطر التجارب السينمائية العربية التي تقترح
على تاريخنا الفني والثقافي تعاملاً جديداً مع السينما، ولعله بذلك يحقق
مسافة مهمة نحو مفاهيم السينما الجديدة التي تذهب إليها التجارب العربية.
ففي فيلم (أرض الأحلام) طاقة كبيرة مفتوحة على الأعماق، هناك حيث يكمن
الصدق كله.