حاوره: أمير العمري
حين خرج "سواق الأتوبيس" إلى صالات العرض في القاهرة منذ مدة قريبة تصدرت
اعلاناته عبارة "الفيلم الذي يحترم عقلية المتفرجين". الناقد أمير العمري
قابل المخرج وحادثه حول ماضيه وفيلمه الجديد كاشفاً صدق تلك العلاقة بين
ذلك الفيلم ومشاهديه.
·
في البداية دعنا نتحدث عن بداية عملك
السينمائي وعن المؤثرات التي ساهمت في تكوينك كسينمائي.
- تخرجت من المعهد العالي للسينما بالقاهرة – قسم الإخراج – عام 1970. وكنت
قد عملت أثناء الدراسة مساعداً للإخراج مع مدحت بكير في الجزء الذي أخرجه
من فيلم "ثلاث وجوه للحب"، ثم عملت مساعداً له في فيلم "دعوة للحياة"، كما
عملت مساعداً للمونتاج مع كمال أبو العلا.
التحقت بعد تخرجي بالجيش لأداء الخدمة العسكرية، وقضيت به الفترة العصيبة
التي استمرت من عام 1971 حتى 1975 والتي شهدت حرب أكتوبر 1973. وخلال
الفترة التي قضيتها بالجيش، أخرجت فيلماً قصيراً من إنتاج المركز القومي
للأفلام التسجيلية والقصيرة هو فيلم "جريدة الصباح" (1972) الذي يتناول
ردود فعل الناس إزاء ما كانت تنشره وتذيعه وسائل الاعلام في تلك الفترة.
كانت فترة الجيش بالنسبة لي فترة تكوين ذهني وفكري، أكملت لي ما تعلمته في
معهد السينما. فقد تمكنت خلالها من تكثيف مشاهداتي للأفلام، حتى أنني كنت
أشاهد أحياناً عدداً من الأفلام يصل إلى أربعة أفلام يومياً. كذلك شاركت في
العديد من نوادي السينما التي أفادتني كثيراً المناقشات الفكرية التي كانت
تتم بها حول الأفلام.
في نفس الفترة أيضاً بدأت علاقتي بشادي عبدالسلام الذي عملت له مساعداً في
فيلم "جيوش الشمس" (1974). وقد استفدت كثيراً من هذه التجربة، فقد كانت
طريقة وأسلوب عمل شادي عبدالسلام تجذبني. فهو يؤمن بأسلوب خاص يحقق التوازن
في العمل السينمائي بين الشكل والمضمون.
وبعد أن تركت الجيش عام 1975، عملت مساعداً لمحمد بسيوني في فيلم "ابتسامة
واحدة لا تكفي" (1977)، ثم أخرجت فيلماً قصيراً من انتاج المركز التجريبي
الذي يديره شادي عبدالسلام هو فيلم "المقايضة" الذي يستعرض رحلة فلاح يترك
قريته ويتجه إلى المدينة لكي يبيع محصوله وبقرته في السوق الأسبوعي
للمدينة، ويشتري سلاحاً للمحراث وجهازاً للراديو. وفي رحلة العودة إلى
القرية يستمع إلى رسائل المستمعين كنموذج للبرامج التي سوف تشكل ذهنه.
عملت بعد ذلك مع يوسف شاهين في فيلم "اسكندرية.. ليه؟". وقد أفادني العمل
مع شاهين كثيراً جداً، فهو صاحب أسلوب خاص في خلق الإيقاع داخل المشهد وفي
تحريك الممثلين، وكنا نتطرق إلى مناقشة تفاصيل نظام العمل اليومي إلى جانب
أمور فنية تتعلق بإيقاع الفيلم واختيار الشخصيات. ويوسف شاهين يمتلك
أسلوباً سهلاً وجذاباً بالنسبة لطريقته في التعامل مع الفنيين والعاملين في
الفيلم.
·
نعرف أنك قد عملت أيضاً في عدد من
الأفلام الأجنبية التي صورت في مصر.. فما الذي استفدته من خلال عملك كمساعد
مخرج في هذه الأفلام؟
- عملت مساعداً للويس جيلبرت في "الجاسوس الذي أحبني" (The
Spy Who Loved Me) وجون جيلرمن في "جريمة على النيل" (Murder
On the Nile) ومايكل بنويل في "الصحوة" (The
Awakening) وفيليب ليلوك في "توت عنخ آمون"
وفرانلكين شافنر في "أبو الهول" (The
Sphinx)
وقد أفادني كثيراً العمل في هذه الأفلام، خاصة فيما يتعلق بالإعداد اليومي
للعمل والدقة المتناهية التي يدرسون بها كل شيء حتى أدق التفاصيل الثانوية،
مثل طراز الملابس وتحديد زمن التصوير للقطة ولون الجدران.. إلخ. ولقد كنت
أيضاً أراقب عن كثب العلاقة التي تنشأ بين مدير التصوير والمخرج، إلى جانب
علاقة المخرج وكاتب السيناريو واستمرار هذه العلاقة حتى أثناء التصوير حيث
يمكن اجراء بعض التعديلات طبقاً لطبيعة الموقع وحركة الممثلين التي يمكن أن
توحي بشيء جديد.
·
حدثنا عن فيلمك الأول "الغيرة القاتلة"
الذي هاجمه النقاد.. وما هو تقييمك الشخصي لهذا الفيلم؟
- انه يحكي "حدوتة" عادية ممصرة عن "عطيل" شكسبير بتصرف كبير، ولكني أزعم
أنه على الرغم من كل عيوبه، إلا أنه لم يكن يحتوي على أية توابل تجارية،
ربما باستثناء مشهد الزفاف الذي يتضمن رقصة، وأن كانت مبررة في السياق. لقد
أفادتني تجربة "الغيرة القاتلة" في ضرورة التدقيق في بناء السيناريو، فقد
كانت هناك جوانب ضعف كثيرة في السيناريو. ولقد أدركت أيضاً بعد هذا الفيلم
ان الابهار التكنيكي ليس ميزة في حد ذاته أو هدفاً نسعى إليه، وان من
الممكن ألا تكون له أية قيمة غنية بل من الممكن أن يضر بالموضوع وبالفيلم.
لذلك فقد راعيت في "سواق الأتوبيس" أن يكون هناك أسلوب للعمل واضح ومحدد
منذ البداية، يتفق مع ما أريد التعبير عنه. أنني لم أستخدم سوى العدسات
الواسعة وليس العدسات الطويلة حتى أحصل على وضوح رؤية وعمق في مجال الصورة
يغني الموضوع. وتعلمت أيضاً من فيلمي السابق كيف أتحكم أكثر في الإيقاع،
فقد كان إيقاع الفيلم مفككاً إلى حد ما بسبب ضعف السيناريو أساساً.
·
إذن.. كيف بدأ التفكير في "سواق
الأتوبيس"؟
- بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن
همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، حيث كانت تجمعنا كلنا نفس
الظروف الحياتية تقريباً. لقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي
الأول الذي اضطررت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي رغم
ايماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. وكان ما يزيد احساسي
بالذنب أن الفيلم كان من انتاجي أيضاً. وتحدثنا طويلاً حول هذه القضية،
أقصد قضية اعتماد الفيلم المصري على أصول أجنبية. واقترح محمد خان وبشير
الديك فكرة وضع لها عنوان "حطمت قيودي"، تدور حول عائلة مهددة بالضياع
نتيجة فقدان عائلها للورشة التي أسسها وبحث الابن (حسن) سائق الأتوبيس عن
مخرج من الأزمة بلا جدوى. وأعجبتني الفكرة، خاصة وأنني أميل كثيراً إلى
الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال
الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة
التي نريد التعبير عنها، إلى أن أخذت الشخصيات أبعادها المختلفة. وفي
الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه.
·
حدثنا عن ظروف انتاج الفيلم.. وهل حدثت
خلافات مع المنتج أو مع الرقابة مما استلزم تعديلات معينة؟
- بدأ التفكير في انتاج الفيلم عندما شاهد صبحي إمام (الذي يعتبر "سواق
الأتوبيس" أول فيلم يقوم بإنتاجه) فيلم "الغيرة القاتلة" وأبدى اعجابه به
وطلب مني أن أختار موضوعاً أخرجه ويتولى هو انتاجه. فقدمنا له ملخص "سواق
الأتوبيس". وتحمس للموضوع، وقام بعرض الفكرة على أحد الموزعين الذي لم
يتحمس له. ولكن المنتج كان قد دفع ثمن القصة ومقدم السيناريو لبشير الديك
ومقدم الإخراج لي. وهكذا استمر العمل في السيناريو، وحصلنا على موافقة
الرقابة على سيناريو كان مختلفاً عن النسخة النهائية، حيث كان الفيلم ينتهي
بزواج كوثر أخت حسن من عبيدة التاجر وحصول الأب على الورشة بعد تدبير
المبلغ. ولكننا قمنا بعد ذلك بإجراء تعديلات كثيرة. فاستبعدنا – على سبيل
المثال – شخصية امرأة كانت على علاقة بحسن ويلجأ إليها في وقت الأزمة مع
زوجته.
وعندما عرضنا السيناريو على تاكفور أنطونيان، تحمس له كثيراً. وبدأنا
بالفعل في اتخاذ الخطوات التنفيذية واختيار الممثلين. وواجهتنا صعوبة تعدد
الشخصيات، واختيار الممثلين المناسبين لكل هذا الكم من الشخصيات. وكانت
هناك أثناء الكتابة، اختيارات مبدئية تم تعديلها فيما بعد. فمثلاً، لم نلجأ
إلى الاستعانة بالفنان عماد حمدي سوى بعد البدء في التصوير. والمشكلة التي
أدركناها، هي أن السينما قد أصبحت بالنسبة لأغلب الممثلين، غير مجزية
مادياً بالمقارنة مع التلفزيون. ولكني أستطيع أن أقرر بصدق أن أغلب
الممثلين قد رحبوا وأبدوا حماساً كبيراً، وعلى رأسهم طبعاً نور الشريف الذي
أبدى بعض الملاحظات المهمة على السيناريو.
·
اعتمدت كثيراً على التصوير الخارجي في
أماكن حقيقية والتحرر من الأستوديو، فهل يمثل هذا جزءاً من أسلوبك، وألم
يخلق ذلك مشاكل لك أثناء التصوير؟
- الفيلم بأكمله مصور في ديكورات حقيقية وأماكن تصوير واقعية وليس في
ديكورات مصنوعة، سواء في الشقق والمكاتب والورشة والأتوبيس والشوارع
بالطبع. لقد سبق أن استخدمت نفس الأسلوب في فيلمي السابق. ان التصوير في
الأستوديو يشعرني بالزيف. فالديكور المصنوع يعوق احساسي بالواقع.
ويساعدني التحرر من الأستوديو أيضاً في اكتشاف علاقات جديدة في إطار
الصورة. لقد قمنا بمعاينة مواقع التصوير، واستغرق منا ذلك وقتاً طويلاً
نسبياً. لقد كنت أراعي في اختيار الشقق أن تكون لم يسبق التصوير فيها من
قبل. فهناك شقق أصبحت مألوفة بالنسبة لصانعي الأفلام. فشقة (حسن) كانت في
بولاق الدكرور، وشقة الأب في شبرا.
أما بالنسبة للصعوبات، فبمساعدة مصور مثل سعيد شيمي يمكن التغلب على الكثير
منها.. مثل ضيق المكان وصعوبة الحركة.. إلخ. وحتى إذا لم نتوصل إلى المكان
المناسب عند المعاينة، فمن الممكن أن نتخلى عنه ونطوع المشهد حسب المكان
الجديد الذي نعثر عليه. فمثلاً، كان المشهد الذي يدور وسط عائلة التاجر
الدمياطي، مصمماً أصلاً على أن يتم تصويره في احدى فيلات رأس البر. وبعد
معاينة المكان رأينا أن من الأفضل أن نصوره على سطح الفيلا. وقد أعطى هذا
المشهد حيوية فائقة، وجعلنا نتحرر من شروط المكان مما أعطى للمشهد ايقاعه
الخاص.
·
كيف تم التعاون بينك وبين كمال بكير
الذي وضع الموسيقى؟
- لقد قرأ السيناريو، ثم شاهد نسخة العمل في عرض ضيق في وجود الفنيين
الأساسيين في الفيلم. وقد أبدى حماساً كبيراً للغاية بعد المشاهدة، وقال إن
من المهم التوصل إلى موسيقى لها أسلوب وطابع خاص. فاختار أغنيتين لسيد
درويش: (الحلوة دي) و(بلادي.. بلادي)، وقام بتوزيعهما، وهو عادة يستخدم 6
آلات موسيقية فقط (كمان، قانون، تشيلو، كونترباس، طبلة). ولقد كنا نريد
للموسيقى أن تبدو كما لو كانت منبعثة من الماضي.
·
كيف كانت علاقتك بنور الشريف في "سواق
الأتوبيس"؟
- لقد أبدى نور الشريف حماساً كبيراً للفيلم منذ أن قرأ السيناريو الأولي،
ولكنه اقترح تغيير النهاية التي كانت تتم على نحو تقليدي، كما سبق أن ذكرت.
وتبادلنا الأفكار حول الفيلم وكان نور يخشى من الروح التشاؤمية للفيلم،
ولكننا اقتربنا من الفهم المشترك كلما تعددت اللقاءات معي ومع كاتب
السيناريو، واتفقنا أن يكون أسلوب الأداء بارداً، أي أن تكون الانفعالات
مكتومة حتى نعطي الإحساس بالإحباط الذي تواجهه الشخصية. وعندما بدأنا
العمل، كان نور ملتزماً إلى أقصى حد حتى أنه كان يشارك معنا في ترتيب
الاكسسوار وكان يصر على الحضور في أيام تصوير لا يشارك بالتمثيل فيها. وقد
أبدى آراء هامة فيما يتعلق "بالميزانسين". لقد بذل نور الشريف مجهوداً
كبيراً للغاية، وأذكر أننا ونحن نصور مشهد النهاية.. المشهد الذي يقفز فيه
نور من الأتوبيس ويطارد النشال ويضربه، اضطررنا إلى عمل تدريبات شاقة على
المشهد وأعدنا الحركة حوالي 60 مرة حتى حصلنا على ما نريده. وفي المرة
الأخيرة، كان نور قد أرهق لدرجة أنه سقط على الأرض، وطلبنا منه أن يذهب
ليستريح ولكنه رفض وأصر على ضرورة استكمال المشهد. انه لم يرفض أبداً تصوير
أي شيء أطلبه منه. وهو عادة لا يعمل مع مخرج إلا إذا كان مقتنعاً به ويشعر
بتفاهم تام معه. لقد كنت استخدم في العديد من اللقطات العدسة 18 التي تشوه
الوجه، ولكنه لم يعترض أبداً على أية زاوية أو اضاءة.
·
كم بلغت ميزانية الفيلم؟
- تكلف الفيلم حوالي 90 ألف جنيه بما في ذلك تكاليف عدد 9 نسخ ستاندارد.
واستهلكنا 75 علبة من الفيلم الخام (كل علبة تحتوي على 120 متراً. واستغرق
التصوير 27 يوماً وكانت نسبة التصوير 1:3.
·
هل تعتقد أن فيلمك يمثل جزءاً من تيار
جديد خاص في السينما المصرية اليوم؟
- اننا نحاول الآن أنا ومحمد خان وبشير الديك وخيري بشارة، أن نساهم في صنع
تيار جديد، من خلال تناول موضوعات واقعية تعبر عن آلامنا وأفكارنا، أو من
خلال محاولة عكس تجاربنا الشخصية. هناك أيضاً على بدرخان وداود عبدالسيد
الذي يصور فيلمه الروائي الطويل الأول قريباً، وكذلك حسين الوكيل الذي
انتهى بالفعل من اخراج فيلمه الأول. وأنا الآن بصدد الاعداد للبدء في اخراج
فيلم "السفلة" عن سيناريو لأسامة أبو طالب الذي يتناول استشراء النفوذ
الطفيلي في المجتمع المصري في السنوات الأخيرة. كذلك أعد أيضاً – مع بشير
الديك – فيلم "العائلة" عن حادثة واقعية لها انعكاساتها المختلفة بالنسبة
لنوعية الحياة البائسة التي تحياها بعض الفئات في بلدنا الآن، وأرجو أن
أبدأ في التصوير في أوائل 1983.