من غد في بيروت فيلم "شفيقة ومتولي" لعلي بدرخان، الحائز الجائزة الثانية
في مهرجان قرطاجة 1978 وجوائز عدة منحها نقاد القاهرة للعمل، لمخرجه،
لمنتجه، لممثليه وفنييه.
"شفيقة ومتولي" ثاني إنتاج لـ "شركة مصر العالمية" (يوسف شاهين وشركاه) يلي
"السقامات" لصلاح أبو سيف. وهو الرابع من إخراج علي بدرخان (32 سنة). أحد
أفضل المخرجين في الجيل الجديد، المخرجين في معهد الدراسات السينمائية
العليا في الجيزة. علي، ابن المخرج أحمد بدرخان، أحد رواد السينما المصرية،
عمل مساعداً لوالده ("ناديا")، "السيد درويش"). ويوسف شاهين ("الاختيار"،
"العصفور"). وشادي عبدالسلام على فيلمه القصير "الفلاح الفصيح" في 1971،
كان عمله الأول، "الحب الذي كان"، ميلودراما عاطفية مع سعاد حسني ومحمود
ياسين (كان نجاحه كبيراً في لبنان). وفي 1975، فيلمه الثاني: "الكرنك" عن
قصة نجيب محفوظ، كذلك مع سعاد حسني، ومع نور الشريف في أحد أفضل أدواره.
وفي فترة وجيزة تلت منع الفيلم الذي يتهم المخابرات أيام صلاح نصر، نزل في
القاهرة والإسكندرية وكان النجاح الجماهيري الضخم. في 1976، "شيلني وأشيلك"
كوميديا هازلة حققها لمحمد عوض. ثم "شفيقة ومتولي".
وراء "شفيقة ومتولي" قصة بدأت في 1972 عندما شرع السينمائي سيد عيسى يفكر
في الممثلين الرئيسيين للسيناريو الذي كان انتهى، لتوه، من كتابته. من يكون
البطلان الأسطوريان لما اقتبسه من الموسيقى الغنائية لأسطورة "شفيقة
ومتولي" الشعبية جداً في مصر؟ فكر في وجهين جديدين، ثم تعاقد مع المسرحي
الشاب الموهوب أحمد زكي ومع النجمة الرقم 2 في السينما المصرية، سعاد حسني.
سيد عيسى المتخرج في معهد السينما في موسكو مخرج طموح، له نظرته الخاصة إلى
المجتمع يتطلع صوب تقدمه ويعتبر أن للسينما دوراً في بناء غد أفضل. حقق
ثلاثة أفلام طويلة نالت تصفيق النقاد واعجاب المثقفين ولم تلق الاقبال
الجماهيري الذي كانت تستحقه: "زيزيت" (1961)، "المارد" (1962) و"جفت
الأمطار" (1966). ثم شرع سيد عيسى في فيلم طالما حلم أن يصوره في القرية
الصغيرة حيث ولد قرب المنصورة. فيلم "فلاحي" على الطبيعة في ديكور يشترك في
مشاهد المجاميع وفي الأدوار الصغيرة.
وبنى ديكور المولد الضخم على حافة القرية وبوشر التصوير، لبضعة أسابيع وخرج
منه سيد عيسى بآلاف الأمتار تضج بحياة المولد وموسيقاه وشخصياته ورقصه
ومرحه واضطرابه. مشهد ضخم كل من رآه انبهر به. وتوقف التصوير وتوقف الفيلم
مذ توترت العلاقات بين المخرج – المنتج ونجمته. لأسابيع طويلة، حاول أهل
السينما أصدقاء الطرفين إعادة الشمل فالتصوير. وظل كل من سيد عيسى وسعاد
حسني لم يتغيرا، هو يتهمها بأنها "نجمة متألهة جاهلة" وهي تؤكد أنه "مجنون
يعتقد أن السينما لعبة يلعب بها وأن الممثلين آلات يحركها ضمن أثاث
الديكور".
وفي مطلع 1976، اشترت "شركة مصر العالمية" المشروع من سيد عيسى: السيناريو،
عقود الممثلين ومشهد المولد، نحو 45 دقيقة من اللقطات المركبة. وقرر يوسف
شاهين استئناف التصوير، باثاً تغييرات في السيناريو. وعمل على كتابته في
شكل جديد، مع الشاعر صلاح جاهين وكان كتب واياه فيلمه الأخير "عودة الابن
الضال". غير في الأسطورة الشعبية وأعطيت أبعاداً سياسية حين جعلها تدور
أيام الخديوي إسماعيل وحفر قناة السويس والاستعمار الأجنبي...
وانتهى تحضير السيناريو وبوشر التصوير وفجأة، قرر يوسف شاهين أنه لن يخرج
الفيلم: "السيناريو كان جيداً، والمشروع كله مغر وأخاذ، لكنني شعرت فجأة
بأن علي أن أنصب فوراً على كتابة فيلم آخر أقرب إلى والي ما أريد أن أعبر
عنه".
وانصب يوسف شاهين على أول خطوط "اسكندرية.. ليه؟" واسند إلى علي بدرخان
اخراج "شفيقة ومتولي".
وقيل يومئذ: يوسف شاهين تهرب من العمل مع سعاد حسني، فهو لا يرتاح إلى نجوم
يحاولون دائماً التدخل وفرض رغباتهم على الإخراج... ومنتجاً، كي يتأكد له
أن الفيلم إلى تمام فضل أسناد المهمة إلى زوج النجمة.
أما شاهين، فيؤكد: "علي بدرخان تلميذي ومساعدي واليوم أفضل المخرجين
العاملين في السينما المصرية".
* * * * *
الحديث هنا مع علي بدرخان في مهرجان قرطاج الأخير، في أكتوبر 1978. حكى عن
قصته مع "شفيقة ومتولي".
"الفيلم ده لي تجربة غريبة جداً. لأن أساساً، مش أنا اللي كنت حاعمله، فأنا
كنت خايف منه جداً.
"أنا كنت هاشتغل فيه مساعد للأستاذ يوسف شاهين، وبعدها صورنا ثلاثة أيام،
قال "أنا تعبان.. كمل انت الفيلم". كمل الفيلم، يعني أنا هاتحمل مسؤولية...
لقيتها مسألة خوفتني. قلتله: "لا انت تستريح أسبوع، أصوره أنا، وبعدين ترجع
انت تاني". قال "لا، انت كمله..." أنا، لأنني كنت حابب الموضوع، وافقت.
لكن، ما كنتش دارس الموضوع بعمق.. كمساعد، ما كنتش اشتغلت عالسيناريو، انما
جيت في وقت التصوير بس... اضطريت ابتدي أدرس السيناريو. فلتلهم "نقف
أسبوع". عدلنا شوية في بعض حاجات في السيناريو، حسيت إني أنا مش حاسسها
قوي، قامش حاعرف أعملها...".
"وابتدينا في التصوير... ومن الحاجات اللي كانت قلقاني، النوعية اللي هيا
بملابس تاريخية... حاولت أعمل دراسة سريعة جداً للفترة وللأجواء اللي كانت
فيها... اشتغلت في وقت مزنوق جداً".
·
من قبل، كنت اشتركت في كتابة سيناريوهات أفلامك؟
- ولأول مرة، أصور سيناريو مكتوب كامل. المرات اللي فاتت، نت بكون عايش في
الموضوع بشكل أن ينقصني النظرة الشاملة. المرة ديه، كنت جاي من بره، فبسرعة
لمست الجو العام. ومن الحاجات اللي ساعدتني أوي، وجود ناجي شاكر المسؤول عن
الديكورات والملابس والاكسسوارات، كان فيه تفاهم شديد بيننا. في اختيار
الألوان في الاكسسوارات... فالتعاون ده كان عاطيني نوع من المتعة، ومحمسني
إني جابب النوعية ديه من الأفلام، والظاهر إني حاغواها... حاغوى الأفلام
اللي بتتكلم عن فترات ماضية. فيها تلاقي فرصة تقول اللي انت عايز تقوله: من
غير ما تخاف من رقابة وممنوعات... وتقول حتى أكثر من اللي انت تقدر تقوله
أما بتتكلم عن عصر قريب. كل ما بعد العصر، ممكن تقول أكثر شويا. دي كمان
حاجة عجبتني في تجربة "شفيقة ومتولي" والسير الشعبية القديمة.
وبعدين هي برده مصرية أوي... أما انت تأخذ قصة شعبية، بتبقى أجيال
متوارثاها، فأكيد الحدوته ديه، لها جذور عند الناس.
·
ما هي التغييرات من السيناريو في الأسطورة الأصلية؟
- ما فيش تغير كتير. التغير منحصر في الفترة الزمنية. القصة بتدور قبل حفر
القنال، وكان الولد بيأخذ للسخرة بيبني بيت لواحدة تركية من الحكام، غيرنا
الفترة، وخليناه يأخذ للسخرة ويدفع في حفر قنال السويس. فترة محددة: فترة
صراعات إنجلترا وفرنسا على المنطقة... فيها ريحة عصر النهارده، اللي هو
الانفتاح على الغرب... فيه كذا حاجة مطابقة مع النهارده...
وده مش اختياري، اختيار يوسف شاهين. وهو اللي خلاني أحب الموضوع".
ويعتز علي بدرخان بنهاية القصة والتغير الجذري فيها في نهاية الأسطورة،
يعود متولي إلى الضيعة اذ يعلم ان اخته شفيقة باعت عرضها، فيقتلها:
- "أنا ما خلتهوش هو اللي يقتلها. خلتها تتقتل بأيد ثانية، أيد غريبة لأنها
أصبحت بتعرف زيادة عن اللزوم. انها خطر على المستعمر والمستغلين...
"أنا من البداية كان فيه نقطة مش داخله مزاجي: حكاية الشرف والعرض وان
واحدة تنقتل لأنها تعاطت الجنس... ايه يعني؟ ده كلام ما يهمنيش... في
النهاية الجديدة، الحكاية أبعد من حكاية عرض وشرف. وفي النهاية لما بنشوف
متولي ماشي حامل السلاح عشان يقتلها، بنشوفه بيبكي... رايح يقتلها عشان
التقاليد بتفرض عليه انه يقتلها... لكن، بيبكي وتعيس".
·
يقال إن العمل صعب مع النجوم. وأنت اشتغلت ثلاثاً مع سعاد حسني.
- أنا عايز أقولك على حاجة، ما اكتشفتهاش إلا في "شفيقة ومتولي". كان معايا
في الفيلم حوالي خمسة ممثلين جداد، خارجين من معهد الفنون المسرحية. اكتشفت
حاجة غريبة جداً: الشغل مع النجوم صعب في المواعيد وفي الوقت اللي بياخذوه
في المكياج، ويجوا متأخرين... مش مجندين للشغل. لكن، في الأداء الميزات
هايلة. أما أنت تكلم نجم وتديله ملحوظة، بتشوفوا بيسمع ويفكر ويحاول يعطيك
اللي انت عايزه.
الجديد، صحيح بيبقى تحت أمرك وكل حاجة، انما عنده حاجة قاتلة جداً: ان هو
عايز يظهر ان هو كويس. وبيبقى مركب في مخه حاجات كثيرة، مش عامل حساب
التتابع ولا الإيقاع الإجمالي... فأنت تيجي تقول له: "لا بلاش ده، خفف هنا.
خلي التعبير بعنيك بس..."، تبص تلاقيه حصلتله صدمة، وتشوف انه ما بقاش واثق
من كلامك ومقتنع إنك تيشيل من اللي هو ممكن يديه ويبرهن بيه انه كويس.
·
الجديد متعب في النقطة ديه... قبل ما تفهمه ان ده أحسن بتاخذ وقت كبير.
الستار (النجم) بتحس ان التفاهم معاه أسرع وأكثر حدة، وبسرعة، بيتفاعل مع
كلامك وأفكارك وبيعطي".
وتوقف فجأة علي بدرخان وقال: "آسف، أسف، أنا جاوبت غلط. انت بتسألني عن
النجوم وأنا بكلمك عن المهنيين. الكلام اللي قلته صحيح بس مش مع النجوم، مع
المهنيين، مع القدامى...".
·
و"النجوم"؟
ضحك قليلاً، ثم: "ما دام أنا ما بتدلعش كمخرج، يعني باشتغل جد، ما سمحش لحد
يتدلع معاي. وعلى الكل، يعني... ما فيش كبير وصغير، احنا بنعمل فريق واحد،
كلنا زي بعض، من عامل الكلاكيت حتى الستار. كله زي بعض. كله ملتزم، على
عيننا وراسنا. كله مش ملتزم، حيبقى فيه قلق وتعب في الشغل مع بعض. فهم
عارفين ان أنا في الشغل بابقى عصبي جداً، فيتحاشوني".
* * * * *
نشأ علي بدرخان في منزل يضج بأهل السينما والفنون. في السن الثامنة كانت
علاقته الأولى بالسينما اذ أهداه والده كاميرا 8 ملم: "كنت أصور بها ما
يحيط بي وأجد المتعة كبيرة. عندما أذهب إلى استوديو التصوير حيث أحمد
بدرخان كانت الدهشة والرهبة. لمبات كبيرة وكاميرا كبيرة و"سكوت"! والكل
سكوت والممثلون يؤدون، كل ذلك كان خرافياً، لي: مزيجاً من الاعجاب الشديد
والرهبة. الإحساس الذي كان يسكنني عندما أشاهد أفلام ماشيستي والأبطال
الخارقين".
شجعه والده. ووالدته الممثلة سلوى علام، كانت تعارض في شدة: "كانت تعرف ما
يعنيه العمل السينمائي من حرق أعصاب وسهر وتوتر... قالت لي ذات يوم: "أرجوك
أرجوك أي شيء التحق بالجيش حارب، لكن انس السينما!". تصور أماً تدفع ابنها
أن يكون عسكرياً. فأي شيء كان لها أفضل من السينما".
برع علي بدرخان في التصوير الفوتوغرافي، ثم هجره ليكون هاوي سينما: "كانت
فترة الدراسة الثانوية وأنا السينما أخذت عقلي. أهرب من المدرسة وأذهب إلى
كل الأفلام التي في المدينة ثم أشاهدها ثانية، وعندما لا يبقى فيلم أرجع
إلى المدرسة". وحان اختيار الكلية فتقدم لينتسب إلى البحرية التجارية، لكن
والده رفض أن يعطيه توقيع "موافقة ولي الأمر" كان يصر على أن يتقدم ابنه
إلى امتحان دخول المعهد العالي للسينما: "أنا كنت عارف انني جاهل ومش ممكن
أعرف أجاوب على أسئلة امتحان الدخول... وهو مقتنع ان السينما هي مجالي".
التحق علي بدرخان بالمعهد وتخرج فيه عام 1967، ثم اشتغل مساعداً مع والده:
"أنا لم أكن معجباً بأفلام والدي. كنت معجباً بنيازي مصطفى وذلك أغاظ والدي
كثيراً". اشتغل مساعداً عدداً من الأفلام وحضر تصوير عدد آخر. وخرج متأثراً
بالجميع و"أكثر واحد طبعاً، يوسف شاهين. تعلمت من الجميع، لكن شاهين "تعلمت
منه الأكثر"، اتعلم من كل من أعمل معه، وما أتعلمه على بلاتوه التصوير ليس
في الكتب ولا في الدراسات. احتكاك المهنيين بالآلات. تعامل العامل
الكهربائي مع اللمبة وتسليطها على الممثل وعلى الديكور. هذه هي من أسس
صناعة السينما".