في الوعي الشعبي العام, تعبّر السينما الهوليوودية عن الايديولوجية الأميركية وتدعو الى الحلم الأميركي, في شكل مباشر أحياناً, وموارب في أحيان أخرى. غير أن هذا الوعي الشعبي الذي يرى هذه الفرضية ولا يمكنه عنها فكاكاً, غالباً ما يعجز عن تأكيدها في شكل ملموس وبخاصة حين يتعلق الأمر بالسينما الكبيرة وأفلامها المهمة, وحين يتعلق الأمر بعدد كبير من مبدعي السينما الذين صنعوا لها أكبر أمجادها في القرن العشرين, ويواصلون الأمر حتى اليوم, ويستمرون في ذلك. كل ما في الموضوع ان هوليوود شديدة الخفر في ما يتعلق بالنقد والنقد الذاتي على المستوى الأميركي, وبطيئة بعض الشيء حين يتعلق الأمر بالتعليق على أحداث كبرى. فهوليوود تعلمت دائماً كيف تأخذ وقتها... تاركة السرعة والتسرع للأفلام الأقل هوليوودية والأقل جمالاً وفناً. وإذا كانت هوليوود, بأفضل ما فيها, عرفت دائماً كيف تكون الأكثر انتقاداً وفاعلية في مجال انتقاد الايديولوجيا الأميركية, كما نشاهد منذ ثورة "أصحاب اللحى" في هوليوود السبعينات, فإن مـا لا بد أن نلاحظه في الوقت نفسه, هو أن لهوليوود اختياراتها الواضحة, بين اليمين واليسار في السلطة الأميركية وفي الأبعاد الايديولوجية كـافة. ومن هنا نعرف ان كبار هوليوود (بما في ذلك بعض كبار الممثلين) وقفوا دائماً الى جانب اليسار ولم يغرهم الوقوف الى جانب اليمين, لا سيما حين يكون هذا اليمين من طبقة الرئيس الحالي ج. دبليو بوش. ومن هنا, إذا كانت هوليوود سايرت سلطة الرئيس بوش اليمينية وهادنتها حين وقعت كارثة قومية, من نوع أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية, خفراً وباسم نوع من "التضامن القومي الملتبس والموقت", فإنها عادت وتصلبت في مواقفها حين حوّل الرئيس الأميركي كل التعاطف الذي كان مع بلده لمناسبة تلك الأحداث, الى انتقاد ومآخذ جذرية بفعل تدخلاته العسكرية التي أقل ما يقال فيها انها أتت فاشلة حتى الآن. ويقيناً ان الرئيس بوش لم يتوقف عن محاولاته استمالة هوليوود, ويقيناً انها لم تتوقف عن المقاومة. ونحن نعرف ان مقاومة التطرف اليميني في الحرب الباردة أوائل سنوات الخمسين, هي ما دفع الماكارثية الى جعل الحملة على هوليوود - في مناخ مطاردة السحرة الذي استشرى آنذاك تحت رعاية اليمين الأميركي المتطرف - هي الحملة الأقسى والأعنف, إذ حاربت اليسار الروزفلتي تحت ستار محاربة الشيوعية, بين أمور أخرى. ونعرف أيضاً أن هوليوود حين تقاوم, تدفع الثمن, لكن خصومتها لليمين تكون الأقوى والأعنف. وهوليوود تشهد, على الأقل منذ انقضاء الأشهر القليلة التي تلت اجماعاً وطنياً من حول كارثة 11 أيلول, نوعاً قوياً من المقاومة, يتحول أحياناً الى نوع من الهجوم المضاد, وهو هجوم أعطى مايكل مور في العام الماضي, بكتبه وأفلامه وصرخته حين نال جائزة أوسكارية, خير نموذج عنه بقوله أمام مئات الملايين: "عار عليك يا سيد بوش". وفي الحقيقة أن لا أحد يمكنه اقناعنا بأن هذا الموقف لم يقضّ يومها مضاجع الرئيس الأميركي ويقلقه, إذ انه منذ ذلك الحين لم يتوقف عن الضغط على هوليوود لتليين موقفها مبدياً حزنه واستياءه أمام التصفيق العنيف الذي استثاره موقف مايكل مور... غير ان مور لم يكن وحده في الميدان يومذاك. وهذا العام, لمناسبة توزيع الأوسكارات الجديدة, لم يخل الأمر أيضاً ما من شأنه أن يقض مضاجع جورج دبليو من جديد ويحزنه... بل يمكن أن نقول ان جزءاً كبيراً من حفل الأوسكار والنتائج التي تمخض عنها توزيع الجوائز, حمل الى السيد الرئيس أخباراً في منتهى السوء. وبدأ ذلك مع الفنان بيلي كريستال, الذي, إذ اعتلى الخشبة وراح يتحدث, لم يوفر أي انتقاد أو تهكم يمكنه توجيهه الى الرئيس وسياسته. ويقيناً ان قهقهات الحضور وتصفيقهم, أحزنت السيد الرئيس أكثر مما أحزنها كل ما قاله بيلي كريستال. ولم تتحسن الأمور كثيراً بالطبع حين فاز فيلم تسجيلي طويل يناهض الحروب الأميركية, ويعطي الفشل الأميركي في حرب فيتنام, نموذجاً على هذا الفشل من خلال حواره الطويل مع السيد روبرت ماكنامارا, وزير الحرب الأميركي خلال احدى مراحل حرب فيتنام. الفيلم اسمه "ضباب الحرب" وهو يساوي في بعده الايديولوجي المنتقد والفاضح عشرات الأفلام الروائية. ثم زادت الأمور بالنسبة الى سيد البيت الأبيض سوءاً, حين بيّن احصاء ان معظم الذين فازوا, حتى عن أفلام أميركية أو أميركية الطابع, لم يكونوا أميركيين: من شارليز ثورون (عن فيلم "الوحش") الى بيتر جاكسون (11 جائزة عن فيلم "سيد الخواتم... عودة الملك", سيد الرابحين), الى فوز رينيه زيلفغير كأفضل ممثلة ثانوية عن فيلم "الجبل البارد" (ومخرجه انكليزي - ايطالي الأصل حتى ولو كان موضوعه أميركياً, علماً أن موضوعه نفسه - الحرب الأهلية الأميركية - لم يأت مشرفاً للايديولوجيا الأميركية نفسها). بل ان فيلم "ضاع في الترجمة" الذي كان مرشحاً لأكثر من جائزة, فلم يفز إلا بجائزة السيناريو, هو فيلم تدور أحداثه في الخارج (اليابان) ويكاد يكون موضوعه سخرية من نوع معين من الايديولوجية الأميركية في ترفّعها على الآخر. غير ان الطامة الكبرى أتت الى السيد بوش لتتوج هذا كله: وأتت هنا متعلقة بالفيلم الأميركي - الأميركي الوحيد الذي حقق فوزاً, وهو فيلم "نهر المستيك" الذي حققه كلينت ايستوود, الأميركي ذو النقاء الشديد, عن موضوع أميركي يدور في مدينة شديدة الأميركية. حسناً... قد يقول قائل: ما الذي يمكن أن يزعج السيد بوش في فوز هذا الفيلم بجائزة ما؟ اسما الفائزين عنه, بجائزتي "أفضل ممثل" و"أفضل ممثل ثانوي" أي شين بن وتيم روبنز. إذ ان هذين الفنانين الكبيرين, كان من الواضح ان أهل هوليوود, حين اختاروهما للفوز, انما كافأوهما على قوة أدائهما في الفيلم, ولكن أيضاً على مواقفهما الشجاعة والعنيدة في راديكاليتها تصدياً لكل ما يمثله السيد بوش من فكر وممارسة. فإذا كان الكل يعرف عن مواقف شين بن المناهضة لشن بوش حربه ضد النظام العراقي وللتدخل العسكري الأميركي في أي مكان في العالم, ما أوصله الى زيارة العراق قبل اندلاع القتال في تحد سافر للسلطات اليمينية الأميركية, فإن أقلية فقط تعرف أن شين بن, كمخرج هذه المرة, لا كممثل, حقق ضمن اطار فيلم جماعي عن أحداث 11 أيلول, فيلماً قصيراً في 11 دقيقة ونيف, يمكن اعتباره من دون لف أو دوران, من أعمق وأجمل الأعمال الفنية التي دانت ايديولوجية الحلم اليميني الأميركي. وهو فيلم أثار على شين بن سخط هذا اليمين, وحرك دعوات كثيرة لمقاطعته. ومن الواضح ان تصويت أهل هوليوود لمصلحة شين بن انما هو خنجر آخر يسدد الى سياسة الرئيس بوش والى السياسة اليمينية الأميركية في شكل عام, مثله في ذلك مثل التصويت الهوليوودي, أيضاً, لمصلحة تيم روبنز الذي هو أكثر راديكالية حتى من شين بن في معارضته, وزوجته سوزان ساراندون بين هوليووديين آخرين للسياسات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة وخارجها. ترى, هل يمكن هذا كله أن يقول لنا انه كان في امكان السيد الرئيس أن ينام ليله مرتاح البال في تلك الليلة الأوسكارية التي قالت فيها هوليوود مرة أخرى انها تقف في خط دفاع عنيد ضد سياسات البيت الأبيض حين تكون يمينية؟ جريدة الحياة في 5 مارس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
مهرجان "الساقية" الأول: نافذة على سينما الشباب خارج الإطار أحمد رشوان |
|