كانت الشخصيات الهامشية دائمًا محط اهتمام صناع الدراما في مختلف دول العالم.. هل نذكر حلاق بغداد وحلاق أشبيلية؟ هل نذكر الخياط الشجاع الذي قتل سبعة بضربة واحدة؟ وغيرها وغيرها. وبالطبع هناك الشخصيات الهامشية التي تنتمي لديانة هامشية أو مستضعفة مثل اليهودي، من أهم هذه الشخصيات شخصية "اليهودي التائه"، أو ذلك الشخص المنبوذ الذي يتحرك عبر التاريخ حاملا على ظهره أثقال دينه وعبء إحساسه بذنبه. ولقد كانت الشخصية اليهودية دائمًا من شخصيات الدراما الأوربية؛ حيث مثّل اليهود جماعة وظيفية هامة في البلدان التي عاشوا فيها، بل إن الكوميديا كانت دائما تنصبّ على السخرية من اليهود، وتصورهم في صورة البخلاء البائسين الضعفاء الجبناء. البداية .. الجماعة الوظيفية وتظهر الصورة النمطية لليهودي كممثل للجماعة الوظيفية المالية جليَّة في مسرحية كريستوفر مارلو "يهودي مالطا"؛ حيث يظهر اليهودي المخادع المحب للمال، الخائن الكاره للبشر، وتتكرر تلك الصورة عند ويليام شكسبير في "تاجر البندقية"؛ حيث صار "شيلوك" اليهودي عَلَمًا على الكراهية والحقد. ويتم استخدام هذا الرمز أحيانًا كثيرة للتدليل على صورة اليهودي اللاتاريخية، خاصة من قِبَل الكُتَّاب العرب. كانت هذه الصورة نتاجًا للعصر الإليزابيثي في إنجلترا: عصر شكسبير ومارلو؛ حيث اليهود يمثلون جماعة وظيفية تقوم بشتى المهن المذمومة والمطلوبة؛ مثل الإقراض بالربا، وحيث الدولة تحتاج إليهم وتضربهم، ولذا قامت الدراما بتصويرهم في صورة الوحش الخرافي الكريه، مستفيدة كذلك من الصورة الكريهة لليهودي في الضمير المسيحي العام في هذا الوقت؛ بمعنى أننا لا نستطيع أن نقول: إن صورة "مارلو شكسبير" تعبر عن خصال عامة في اليهود أو حتى عن صورة حقيقية ليهود هذا الوقت، وإنما هي صورة متخيلة تعبر عن الجماعة الوظيفية كما ينظر إليها من المجتمع ذاته وربما بشكل أكثر قسوة؛ حيث إن المعبِّر عن هذه الصورة هو عضو في جماعة وظيفية في ذاته يكره الجماعة الأخرى، وربما من الواقعين في أسر ديونها. فصناع الدراما في هذا الوقت لم يكونوا يحظون لا بكبير احترام ولا بالكثير من المال، وكانوا غارقين في الديون دائمًا. بيد أننا نجد في رواية "إيفانهو" للسِّير "والترسكوت" أحد أهم كتاب الرواية التاريخية الإنجليزية شخصية يهودية إيجابية هي شخصية الفتاة الجميلة المحبة للفارس، ولكن هذه الإيجابية تتحول إلى ذروتها مع تنصُّر الفتاة؛ بمعنى أنه تظل الصورة النمطية هي أن "اليهودي أفضل لو صار مسيحيًّا"، وهي صورة ترتبط بعصر سكوت في القرن التاسع عشر؛ حيث بدأ الصعود القوي للبورجوازية والطبقات الوسطى والرأسمالية الصناعية، واستقر الأمر في بريطانيا لسكان المدن والأغنياء الجدد، وبدأت الأرستقراطية في التراجع بعض الشيء. هذا التطور من الصورة المتوحشة شديدة السلبية إلى الصورة الإيجابية بعض الشيء واكب -كما ذكرنا- التطور الاجتماعي والاقتصادي لأوربا، وتراجع السيطرة الدينية على المجتمعات المدنية، وواكب هذا أيضًا استقرار اليهود كعنصر اجتماعي فاعل داخل مجتمعاتهم، وتحولهم بالتالي إلى جزء من نسيج البلدان التي يعيشون فيها، لا مجرد جماعة وظيفية قابلة للطرد والاستغلال؛ ولذا نشاهد شخصيات يهودية إيجابية في الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر، ونرى أيضًا صورة اليهودي المتوحش الذي يبحث عن الدم المسيحي في الروايات الإيطالية الرخيصة؛ حيث التطور الاجتماعي في إنجلترا أكبر بكثير منه في إيطاليا. بيد أن التطور الحقيقي في صورة اليهود في الدراما الغربية حدث مع بدايات القرن العشرين، وبشكل أساسي في الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة في مجال صناعة السينما. كيف ولماذا تغيرت الصورة؟ وقد حدث هذا التطور في الصورة نتيجة لمجموعة من العوامل التي تضافرت زمنيًّا ومكانيًّا؛ لنصل إلى صورة مغايرة تمامًا للصورة المعتادة لليهودي.. ما هذه العوامل؟ وكيف حدث هذا التفاعل؟ ومَنْ هم نجومه الرئيسيون؟ وما مراحل تطوره؟.. تلك هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها فيما يلي: أول هذه العوامل زماني؛ حيث شهدت بداية القرن العشرين موجة هجرة كبرى إلى أمريكا من كل بقاع الدنيا، وخاصة من روسيا القيصرية، وكان قد هاجر الكثير من اليهود، سواء بحثًا عن لقمة العيش أو هربًا من المذابح "البوجروم". على أي حال كانت "أمريكا أرض الأحلام" وبلد الفرص المنتهزة، وهذا هو العامل المكاني؛ أي هذا البلد المفتوح الذي يمكن أن يَقْبَل المهاجر ما دام يؤدي دورًا عمليًّا ووظيفيًّا. ثالث العوامل اقتصادي اجتماعي؛ وهو أن صناعة السينما أو الإمتاع من قبلها كانت صناعة محتقرة، يحترفها الهامشيون ومَنْ لا مكان لهم داخل النسيج الاجتماعي المستقر، ولكنها أيضًا صناعة ضرورية، خاصة مع تزايد الأرباح وارتفاع مستوى المعيشة. واستطاعت الطبقات الوسطى أن تمتلك ما يسمى بوقت الفراغ والحاجة لشغل هذا الوقت بالإمتاع بالفرجة، ومِن ثَمَّ أصبح امتهانها ممكنًا للمهاجر ومفيدًا له في آن واحد؛ ممكنا لعدم رغبة المستقر في الدخول لهذه الصناعة كحرفة، ومفيد لأن المستقر يريدها كفرجة لتحقيق ذاته وقضاء وقت فراغه؛ أي أنها أصبحت مهنة مرغوبة/ محتقرة في آنٍ واحد؛ وهي المهنة الممتازة بالنسبة للمهاجرين وخاصة اليهود الذين اعتادوا ثقافيًّا على هذه المهن. لذلك نجد نجومًا كثيرين في مجال الإمتاع في هذا الوقت من اليهود، نذكر منهم على سبيل المثال: "الأخوة ماركس" ملوك هذه الفترة سواء على المسرح أو في السينما الناطقة فيما بعد، و"ماكس ليندر" المتأنق الذي انتقل من المسرح إلى السينما الصامتة، و"آل جولسون" ممثل وبطل أول فيلم ناطق (مغني الجاز) 1927م. خصائص صورة اليهودي أما الخصائص المميزة لصورة اليهودي الدرامية في ذلك الوقت هي أنها صورة: (1) كوميدية (2) توراتية (3) المغايرة... ماذا يعني هذا؟ الصورة الكوميدية هي تخفيف الصورة المأساوية السابقة؛ إنها صورة اليهودي البخيل المُقْرِض الضعيف، وزوجته السمينة التي تضربه، صورة رسمها الأقوياء للأضعف منهم، وقَبِلها هؤلاء الضعفاء ليُتَاح لهم دخول عالم الأقوياء. وهكذا نجد الأفلام الصامتة الأولى ذات الفصل الواحد تقدم قصة مثل اليهودي الذي تضربه زوجته بسبب بخله. إنها صورة تجعل اليهودي المهاجر الضعيف مصدر سخرية، وبالتالي مقبولا داخل العالم الخارجي، وهي تتيح لصانع الصورة -لو كان يهوديًّا- أن يسخر من اليهود؛ أي من الذات، ومِنْ ثَمَّ يُقْبَل داخل عالم الآخر؛ لأنه مثله يسخر من اليهود الذين يصيرون آخر. الكوميديا كانت وسيلة أساسية لتغيير الذات كي يتم قبولها داخل عالم الآخر (أي اندماجها): وهو ما تم بسرعة في الولايات المتحدة. الصورة التوراتية هي صورة يهود التوراة؛ أي سليمان الحكيم أو موسى أو داود وغيرهم من الأنبياء من بني إسرائيل، وهي صورة ظهرت في الأفلام الأولى التي أنتجت في هوليود؛ مثل: "حِكَم سليمان" عن قصة سليمان والمرأتين، و"الوصايا العشر"، و"يهود من بتوليا" .. وغيرها. وتميزت هذه الأفلام بالإبهار البصري؛ أي ضخامة الديكور وكثرة عدد الممثلين، والاهتمام باللقطات الكبيرة، وأدى هذا إلى تعلق الجمهور الأمريكي بها، وهو البروتستانتي التوراتي في معظمه. مَثَّلت هذه الصورة لليهود نوعًا من تأكيد الذات للدخول في عالم الآخر؛ فنحن "هم" الذين يظهرون على الشاشة، وأنتم تنتمون إليهم، إذن نحن منكم. بالطبع المعادلة في الواقع ليست بهذه البساطة، ولكنها مركَّبة وتمثل الرسالة "المابعدية" في الفيلم؛ أي رسالة ما بعد الفيلم، وبعد الإعجاب به، لكن كان العنصر الأساسي لعمل هذه الأفلام هو إقبال الجمهور عليها، وبالتالي ربحيتها العالية. المغايرة هي تمثيل صورة الآخر، وهي في هذه الحالة الزنوج؛ أي الآخر العرقي المطرود من المجتمع، بوضوح: أي الذي يماثل اليهود في أوربا، ونجد أن معظم الممثلين اليهود في هذه الفترة -أي بداية القرن الـ20- لعبوا أدوار الزنوج في المسرحيات الكبرى؛ مثل "بورجي وبس" و"سبقة الاستعراض"؛ بل إن "مغني الجاز" -أول فيلم ناطق من إنتاج شركة واريز عام 1927م- كان من بطولة الممثل اليهودي "آل جولسون" الذي لعب دور مغني زنجي!! من ضمن مظاهر المغايرة تغيير الأسماء؛ مثلما حدث مع "الإخوة ماركس" الذين قدموا الأسماء العبثية "جرونو وشيكو" و"هاربو وزيبو" كنوع من اللعب على تيمة اللغة ذاتها، وبالتالي السخرية من الذات والآخر من خلال الصور التي كانوا يقدمونها؛ كرجل الأعمال الفاشل، والرومانسي الخيالي، والصارم القوي، وكلهم داخل إطار "الفاشل المضحك"، وهو الإطار الذي يقدم لليهود الفرصة للدخول مرة أخرى لعالم الأغيار، من خلال السخرية وإظهار فشله، وبالتالي نحن جميعًا فاشلون. الصور الثلاث تمثل حالة اليهود في هذا المجتمع، إنهم جزء منه، ولكنهم في الدرجة الدنيا منه؛ أي يحاولون صعود درجات السلم الاجتماعي داخله؛ للوصول إلى الاستقرار الداخلي، ومن ثَمَّ التحول لجزء أساسي منه. إلي أين انتهت صورة اليهودي؟ وهذا ما حدث بالضبط داخل عالم الإمتاع؛ فمع تغير صورة الإمتاع حتى صار المهنة التي لا مهنة بعدها، ومع تصاعد شهرة وأرباح العاملين في هذا المجال.. أصبح اليهود جزءًا من الطبقة العليا؛ سواء في العالم الخارجي -أي عالم العمل- أو عالم الإمتاع؛ أي عالم الخيال، وبالتالي تغيرت الصورة مرة أخرى؛ فلم تعد صورة اليهودي هي الكوميدية المخففة من التراجيدية القديمة. واستمرت الصورة التوراتية؛ لأنها جزء من نسيج المجتمع كما أسلفنا. وانتهت عملية المغايرة، وبدأت صورة اليهودي الإثني، أو يهودي الطبقة المتوسطة الذي يمثل المواطن الأمريكي العادي، ويحتفظ ببعض خواصه "الفلكورية"؛ مثل: الاحتفال بالبار، متزامنًا ذلك مع العيد اليهودي الخاص بالشباب أو بالبوريم، أو عيد المسخرة أو بيوم كيبور أو عيد الغفران، وكلها احتفالات تعادل الاحتفالات الفلكورية للديانات الأخرى، وتتمثل فيها صورة البلد القادم منه أهل المهاجر اليهودي أكثر من صورة الديانة اليهودية ذاتها. وتم تقديم هذه الصورة في الدراما عبر مجموعة من المؤلفين المهيمنين اليهود؛ مثل: "نيل سايمون" في أمريكا، و"هارولد بنتر" في إنجلترا... وغيرهم، لكن الصورة الأهم وربما الأكثر ظهورًا كانت صورة "اليهودي المشوه" المضحكة التي قدمها مجموعة من الممثلين الكوميديين اليهود الكبار في السبعينيات والثمانينيات؛ مثل: "مارتي فلدمان" و"وايلدر"، وخاصة ميل بروكس وودي آلان، إنها صورة السخرية من الذات بشكل مُرٍّ وكريه. وودِي آلان يتكلم عن اليهودي ذي القرون، والآخر الذيل؛ أي اليهودي الشيطان في فيلمه (الحب والموت). وميل بروكس يكلمنا عن اليهودي بوصفه شاذ، فيقول: "كيف يمكن أن نصنع دراما دون يهود أو شواذ أو غجر"؛ بل ونراه يسخر من رموز اليهودية الأساسية؛ مثل: ألواح العد العشرة في فيلمه (تاريخ العالم). السخرية المُرَّة من الذات في هذه الحالة تعني الوصول لدرجة القبول التامة داخل المجتمع، وبالتالي الإحساس بأن المجتمع قد صار جزءًا من الذات ولا خوف من عدوانيته، ومن ثَمَّ تقوم الذات بمراجعة أو استعادة الصور العدوانية السابقة، وتحويلها لصور كوميدية مضحكة كنوع من التأمين ضد هذه العدوانية في المستقبل. لقد تطورت صورة اليهودي في الدراما الغربية تطورًا شديدًا عبر العصور، وهي تعبر عن موقع الجماعة اليهودية داخل النسيج الاجتماعي الغربي في مختلف البلدان، وبالتالي تعكس الدور الاجتماعي لهذه الجماعة؛ سواء كانت جماعة وظيفية معزولة تؤدي دور المكروه المرغوب، أم كانت جزءًا من النسيج الاجتماعي العام، وتؤدي وظائف متعددة. وبالتالي يعبر تطور الصورة عن تطور دور الجماعة اليهودية، ودرجة اندماجها، ومدى ارتباطها بالمجتمع الذي تعيش فيه. ______________________ # كاتب وناقد سينمائي مصري. إسلام أن لاين في 9 مارس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
رحلة من شكسبير وكريستوفر مارلو إلى وودي ألن ومل بروكس: كيف تغيرت صورة اليهودي في الدراما الغربية؟ د.أسامة القفاش |
|