أمين صالح، كاتب شكل منعطفا حادا على مستوى الكتابة السردية والشعرية في الواقع الإبداعي البحريني. انشغل بالسينما قراءة ونقدا ومتابعة. كتب سيناريو أول فيلم سينمائي بحريني، بعد محاولات بدأها في كتابة السهرات التلفزيونية مثل سهرة (العطش)، وسهرة (موت صاحب العربة) في وقت كانت الدراما التلفزيونية شبه معدومة، حتى برز لنا مع أسماء أخرى محققين للدراما البحرينية حضور متميز. أمين صالح القادم من القصة والكتابة النصية، نحاوره هنا بصفته سينارست اشتغل على كتابة العديد من الأعمال الدرامية.
إذا لم يكن باستطاعتنا (الآن) ـ وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً تقريباً ـ أن نقول (باطمئنان) أن لدينا دراما تلفزيونية في البحرين، فمتى نستطيع أن نعلن ذلك دون تحفظ، ودون أن نتوقع رجماً من جهات تكابر ولا تريد أن تعترف بحضور شيء حتى لو كان ساطع الحضور؟
خلال هذه السنوات قدم التلفزيون العديد
من الأعمال الدرامية التي حققت حضورا خليجياً وعربياً مهما ولا
يمكن إنكاره أو
الاستهانة به، وكونت سمعة طيبة يشيد بها الكثيرون.. أما عن قدرة هذه الدراما على تقديم قراءة فنية (دقيقة) للمجتمع البحريني، فأعتقد أن هذا يستدعي بحثاً أو دراسة نقدية فاحصة ومتأنية للموضوع. (بدل الارتجال والتبرع بإطلاق الأحكام الجاهلة على عواهنها بخفة المتعالم)، غير أن بامكاني القول أن هذه الدراما ليست كلها فانتازية أو تراثية بحتة، بمعنى أنها تعالج قضايا عامة ومطلقة، بل هناك الكثير من الأعمال الواقعية التي اهتمت بتناول العديد من المظاهر الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية في المجتمع المحلي.. ولا أظن أن المجال يسمح للتطرق الى كل تلك الأعمال ومناقشة تلك المظاهر. لكنني أتوقف عند كلمة (دقيقة) الواردة في السؤال.. ماذا تعني الدقة هنا؟ هل هي (الدقة) الوثائقية، الجغرافية، الأنتربولوجية؟ هل هي (دقة) العلاقات والوقائع والمراحل التاريخية التي مر بها المجتمع؟ بالطبع يستحيل على الدراما ـ وكل الأشكال الفنية والأدبية ـ أن تقدم قراءة دقيقة للمجتمع في أعمال مستقلة، فالقراءة ـ التي لابد أن تكون شمولية ـ تستدعي تحشيداً لكل الطاقات وفي مختلف المجالات (السوسيولوجية والسياسية والاقتصادية والفلسفية والسيكولوجية وغيرها) لكل تقدم قرءاة (نشك حتى في هذه الحالة أن تكون دقيقة) للمجتمع في مختلف النواحي المتشابكة والمتعارضة والمتناقضة. كل واقع يحتمل العديد من القراءات والتأويلات. فكاتب الدراما يركز على جوانب معينة ومحدودة من الواقع الذي ينتج علاقات وقيما وصراعات يهتم الكاتب بتناولها أو معالجتها ضمن رؤية معينة وخاصة به. والواقع منقسم ومتعدد. ومثلما هناك المظاهر الخارجية من أمكنة ومواقع وبيئات، هناك أيضا الحالات الداخلية التي تتصل بالمشاعر والانفعالات والكاتب في تركيز بؤرته على ذلك إنما يخلق واقعاً آخر غير منفصل عن لواقع المعاش بل تمتد جذوره داخله. انه الواقع الفني الذي لا يتطابق بالضرورة (وبدقة) مع الواقع المعاش. ثمة موضوعات وقضايا كثيرة يمكن معالجتها فنياً، ومع شخصيات متخيلة، دون أن يكون هناك تماثل حرفي ووثائقي مع قضايا (راهنة). فالعوالم التي يخلقها المؤلف هي متخيلة الدرجة الأولى لكنها تتصل عمقياً بالواقع. والكاتب ـ كما هو معروف للجميع ـ لا يتعامل مع المستوى أو العنصر الواقعي فقط، بل أيضاً المجازي والتخيلي وحتى الميتافيزيقي. وعندما نتأمل، بمرونة ومودة، النتاجات التي ظهرت طوال العقدين السابقين، سوف تتسنى لنا رؤية مدى اقتراب الدراما من القضايا المحلية في بعيدها: الظاهري والعمقي. لكن بشيء من النجاح وبشيء من الإخفاق. ولا أحد يزعم أن الدراما التلفزيونية بلغت حد الكمال، لكنها تتوفر على قدر كبير من الرغبة والطموح في أن تكون تعبيراً ـ كما الأشكال الفنية الأخرى ـ عن رؤية الفنان لزمنه ولعصره وللعلاقات الإنسانية.
لا أحب أن أتكلم عن تجربتي في الكتابة التلفزيونية، لئلا أقع في شرك الادعاء وإطراء الذات، ولأنها معروضة ومباحة من خلال الأعمال العديدة التي تم إنجازها، وبوسع الناقد أو الباحث أو المشاهد أن يكوّن رأيه الخاص فيما يتعلق بهذه التجربة، دون أن أفرض عليه تصوراتي.
لكن بامكاني أن أشير الى هذا التوجه
بوصفه امتداداً طبيعياً ليس للكتابة الأدبية إنما لشغفي بالسينما
كمشاهد وقارئ ثم كفاعل
من خلال كتابة السيناريو.
نسيت مسلسل (ملح وذهب) ومسلسل (الهارب)، والبرامج الدرامية مثل: بث غير مباشر، حالات، أبيض واسود.. وهي كلها مكتوبة مباشرة للتلفزيون (هذا فقط للعلم وليس دفاعاً عن تهمة). كل كاتب سيناريو في العالم (يتكئ) على مادة ما. سواء أكانت نابعة من تجارب شخصية أو مادة أدبية أو مسرحية، أو مادة تراثية أو أسطورية. وفي كل الأحوال، حتى عندما يكون العمل مأخوذاً من رواية أو مسرحية فان كاتب السيناريو يطرح رؤيته الخاصة دون أن يستعير ـ بالضرورة ـ رؤية شخص آخر. إذ ما الذي يجذبه الى النص الأصلي ان كان يتعارض أو يتصادم مع رؤية الكاتب؟
حيث توجد المادة الدرامية يوجد كاتب السيناريو، مهما تعددت وتشعبت مصادر هذه المادة. ومن المفترض أنك تعرف حجم الاختلاف بين كتابة الرواية ـ مثلاً ـ وكتابة السيناريو. فأنت ـ في حالة تحويل أي نص أدبي أو مسرحي الى سينمائي أو تلفزيوني ـ لا تقوم بترجمة ذلك النص بلغته وصوره ومجازاته ورموزه وتداعياته الى نص درامي، بل تخضع ذلك كله الى لغة وتقنية مغايرة تماماً.. بمعنى آخر لا تترجم ولا تستعير ولا تنتحل بل تقدم قراءة أخرى، تأويلاً آخر، محافظاً على روح الأصل فقط. انك تأخذ من الرواية علاقات ما، شخصيات ما، أو أحداثاً معينة.. وتخضع كل هذا لرؤيتك، لمخيلتك، للغتك الخاصة. لو أنك قارنت بين مسلسل (نيران) والعمل الروائي الأصلي (ابنة النار) لرأيت الفارق الكبير بين العملين من حيث الأحداث والشخصيات والمناخات.. هذا يعني أن (اتكائي) على الأصل لم يكن اتكاءاً كسولا بل هو (اتكاء) إبداعي في المقام الأول، إنها إعادة أنتاج جديد ومختلف تفرضه الفوارق بين الوسطين: الروائي والدرامي. ان توجه الكاتب الى مصادر أدبية أو مسرحية أمر مشروع ومألوف في مجالي السينما والتلفزيون منذ الأيام الأولى من اختراع الوسطين.. ولأول مرة في حياتي أسمع هنا اعتراضاَ من هؤلاء (الكثيرين) على مسألة طبيعية جداً كهذه، ولا أعتبرها على الاطلاق تهمة ينبغي دفعها. مشكلتنا أننا نجد أنفسنا أحيانا مضطرين الى الرد على مثل هذه الآراء الغبية الصادرة من أشخاص بالغي الجهل والسذاجة، لكي نوضح لهم البديهيات.
لست من المؤيدين للسياسة الراهنة بشأن تكليف المنتج المنفذ بأن يتولى عملية الإنتاج، خصوصا إذا كانت الميزانية المرصودة للعمل هي أقل مما يحتاجه العمل كتكاليف إنتاجية تغطي مختلف الجوانب. ففي هذه الحالة أخشى أن يقوم المنتج المنفذ باختيار العناصر الأرخص، الأقل تكلفة، في مجالات النص والإخراج والتمثيل والعناصر الفنية الأخرى، وتقليص أو ضغط المصاريف الى الحدود الأدنى مما يؤثر سلباً على قيمة العمل، وحيث يتم تجاوز الأخطاء في سبيل سرعة إنجاز العمل. وبالتالي يسود الارتجال و التهافت ولا تتوفر العناية من أجل جودة العمل. أنا مع هذه السياسة إذا كانت هناك ضوابط وإشراف مباشر من قبل هيئة التلفزيون، وإذا كانت الميزانية تتناسب مع طبيعة وحجم العمل. كنت أتمنى لو تم استدعاء كل العاملين في هذا المجال لمناقشة مثل هذا الموضوع ودراسته من مختلف الجوانب قبل اتخاذ القرارت وفرضها رغماً عن كل التحفظات والمعارضات.
مشكلة كاتب الدراما عندنا أنه خاضع لتصورات الجهاز الإنتاجي. والتي هي غالباً تصورات يحكمها المزاج، وغالباً ما تكون مجرد استجابات أو ردود فعل تجاه ما يكتب في بريد القراء. فمرة ينشطون في اتجاه التراث، ومرة يتراجعون مقللين من قيمة التراث وراغبين في ما هو معاصر، ثم يوجهون اهتمامهم الى التاريخ ليعودوا من جديد الى التراث فالمعاصرة فالكوميديا فالتاريخ.. الخ الخ. والكاتب يحتار كيف يتجانس مع هذه الأمزجة، كيف يكتب وسط ادعاءات بأن الهيئة في حالة إفلاس وأن الميزانية لا تكفي؟ نحن نحترم ونقدر ونثمن إنجازات هيئة التلفزيون وما قامت به من إنتاج العديد من الأعمال الجادة وتهيئة الفرص للعديد من المواهب في أن تثبت وتؤكد حضورها على الساحة المحلية والعربية.. هذا الدور الذي نتمنى أن يستمر. حريدة الأيام في 2 نوفمبر 2003 |
رؤى تفتح ملف الدراما في البحرين (2) أمين صالح لست من المؤيدين لسياسة المنتج المنفذ رؤى ـ فريد رمضان |