المخرج السينمائي الالماني وولفغانغ بيكر، ودّع لينين في شكل يليق بقائد اول ثورة اشتراكية في العالم. فيلم: "وداعا لينين"، الذي عُرض في اطار مهرجان الفيلم الاوروبي في بيروت، كان لحظة جميلة وحميمة وحزينة، سمحت لي بالمشاركة في وداع الرجل الذي كان احد الذين الهبوا مخيّلة شبابي بحلم الثورة. فلاديمير ايليتش يستحق وداعاً أُنهي به حدادي على زمن خلته اضاعني في زحمة احلامه واوهامه. لن اسأل لينين "ما العمل"، اذ يجب ان تنسدل ستارة كثيفة بيني وبين هذا البلشفي الذي اعتقد انه قلب العالم رأسا على عقب. فاذا بالعالم ينقلب به وبنا، ساخراً من صيحة كارل ماركس: "على البشرية ان تختار بين الاشتراكية والبربرية". هل اختار العالم البربرية؟ ام اننا نعيش فاصلا نودّع فيه الماضي بأخطائه وخطاياه، كي نستطيع مواجهة البربرية برؤية انسانية جديدة؟ فيلم يجمع الجد الى الهزل، والحقيقة الى الخيال. حكاية بسيطة عن عائلة صغيرة مؤلفة من ام وابن وابنة. الزوج الطبيب هرب من برلين الشرقية عندما كان الولدان طفلين. الام لم تلتحق بزوجها، وركّزت اهتمامها على عملها كمدرّسة، وعلى تربية ولديها تربية اشتراكية. بدأت الحكاية مع التظاهرات الصاخبة التي اجتاحت برلين الشرقية عشية سقوط الجدار. الابن يُضرب بوحشية ويُعتقل مع عشرات الشبان والشابات، والام تسقط صريعة ازمة قلبية اودت بها الى الغيبوبة. يسقط الجدار وتتوحد المانيا خلال غيبوبة الام. وعندما تسترد المرأة وعيها، وتتقرر اعادتها الى المنزل، يحذّر الطبيب ولديها من هشاشة وضعها الصحي، مما يعني ضرورة عدم تعريضها لأي صدمة عاطفية. وهل هناك من صدمة لامرأة صرفت حياتها في خدمة قضية الشيوعية اكبر من واقع ذلك الانهيار الكبير؟ هنا يبدأ الفيلم. يعيد الابن تأليف العالم لأمه. الاصدقاء يأتون لزيارتها بألبستهم الشيوعية القديمة، تلامذتها يلبسون "فولارات" الطلائع ويغنّون لها الاغاني الاشتراكية. ثم يشترك الابن مع احد اصدقائه في مغامرة الفيديو. يسجلان نشرات اخبار وهمية، تشاهدها الام على التلفزيون في غرفتها. عالم المرحلة الشيوعية الذي تهاوى دفعة واحدة، وحلت مكانه رموز الرأسمالية وانماط حياتها، يعاد تأليفه من جديد، كأن شيئا لم يكن. ويصل التوليف الى ذروته حين يعرض الابن لأمه مشاهد عن تحطيم الجدار والعبور بين شطري برلين، وكأنها ثورة قام بها الالمان الغربيون من اجل الاتحاد مع المانيا الشرقية والخلاص من البطالة والفقر عبر الالتحاق بـ"الجنة الاشتراكية". يعاد تأليف التجربة الاشتراكية من اجل الام. الحرية بدل القمع، والتعدد بدل الواحدية، والكلام بدل الصمت. اشتراكية مشتهاة، لم تجد طريقها الى التطبيق، في اطار من الهزل والسخرية والحنين. الابن الذي شارك في التظاهرات التي اسقطت الجدار، يعود الى المرحلة الشيوعية بالحب الكبير لأمه. الحب وحده ينقذ ذاكرة الماضي من التحول ركاما، ويعيد بناء الزمن الاشتراكي كي يكون قريبا من صورته عن نفسه، كحلم وليس ككابوس. لعل احد اجمل مشاهد الفيلم، هو مشهد تظاهرات تحطيم جدار برلين. الصور نفسها التي اعلنت موت الاشتراكية، يعاد تركيبها من اجل ان تعلن العكس. المونتاج لم يتلاعب سوى بالوجهة، مشيرا ليس الى خدعة الصورة فقط، بل الى خدعة التاريخ ايضا. هل التاريخ هش وسريع العطب الى هذا الحد؟ كانت طائرة مروحية تجوب سماء برلين، حاملة النصف الاعلى لتمثال الرجل الذي قاد الاشتراكية الى الانقلاب، واسس لديكتاتورية الحزب التي دمرت الطبقة العاملة، وحطمت الحلم الاشتراكي. لينين يطير فوق برلين، والشعارات يتم استبدالها. بدل الصور الايقونية للقادة الشيوعيين التي كانت تحتل الشوارع، جاءت ايقونات الاستهلاك الرأسمالي: الكولا والهمبرغر والى آخره... المرأة التي شاهدت التمثال الطائر لم تع ِماذا يجري. صدقت افلام الفيديو التي صنعها ابنها وكذبت عينيها. صدقت الام الكذبة، لأنها هي ايضا كذبت على ولديها. في احدى لحظات الفيلم الحميمة تروي المرأة انها كذبت حول هجرة زوجها. الرجل لم يتركها مع طفليها مديرا لهم ظهره. اتفق معها على ان تلحق به، لكنها خافت وترددت: "كان هذا اكبر خطأ في حياتي"، قالت المرأة، وتحدثت عن رسائل الزوج التي اخفتها عن ولديها. لقاء الابن بأبيه، بعد توحيد برلين، لا يحتل سوى مكان هامشي في الفيلم. لن يستطيع الرجل، الذي اعاد بناء حياته وتزوج من جديد وانجب، ان يفعل شيئا امام تدفق الحب الماضوي الذي يؤطّر الفيلم. ولن يكون سوى احد شهود نثر رماد الام فوق سماء برلين، بعد وفاتها. ماتت المرأة سعيدة بوهمها عن انتصار الشيوعية، لم تعرف الحقيقة لأنها حين كذبت اغمضت عينيها، وحين رأت فضلت ان لا ترى. الشيوعية الجميلة التي ولّفها الابن بأفلام الفيديو من اجل امه، تعطي العلاقة بين الام وابنها كثيرا من الحنان، وتقدم معارضة لسيل الكتابات والافلام التي وجدت في سقوط الانظمة الستالينية مناسبة لتصفية الحساب مع توق الانسان الى الحرية، داعية الى عبادة اله المال والقوة الذي لا يرحم. قلنا للينين الوداع، في فيلم، رغم بعض الخلل في ايقاعه، رمّم الحلم بالوهم ومزج الذاكرة بالحب. لكن هل صحيح ان حلم العدالة انطوى، وان على البشرية ان تختار بين بربرية القمع وبربرية الرأسمالية الوحشية؟ عندما انطفأت الشاشة، واضيئت الصالة، شعرت انني استفيق من منام. نظرت الى صديقي الذي وقف الى جانبي، وسمعته يسأل: "شو رأيك"، "اكلناها"، جاوبته. "لا. لا. ما تغلّط هيدا فيلم عن الحب"، قال. "فيلم عن الحب، لكننا اكلناها"، قلت وانا اخرج من قاعة السينما، لأجد شوارع المدينة مكتظة بالناس الخارجين من السوبرماركت. حريدة النهار في 14 ديسمبر 2003 |
خدعة التاريخ بقلم: الياس خوري |
اكتسح الفيلم الكوميدي الالماني „وداعا لينين“
مهرجان جوائز الفيلم الاوروبي في دورته السادسة عشر وحصد ستا من اهم الجوائز
. فقد حصل هذا الفيلم على جوائز افضل فيلم وافضل ممثل للالماني دانيل بروهل
وافضل سيناريو لبرنارد ليشتنبرغ في مسابقة يطلق عليها احيانا „الاوسكار
الاوروبي“.
|