بمراجعة من خسرتهم السينما في العام الماضي وجدت نفسي آخذ
تنهيدة طويلة جداً.
هل أنا الوحيد الذي لا يزال يجد أن العجيب حقاً كيف يتحرّك
الممثل على الشاشة بعد موته؟ كل هؤلاء الألوف الذين رحلوا عنّا (ونصفهم
مثلاً ممثلين) بعدما بنى كل واحد صورة، لقطة، مشهد، فصل من فيلم او فيلم
بأكمله، وربما أفلاماً كثيرة. كل واحد وضع حجرة في بناء كبير عمره الآن ١٢٠
سنة. على ذلك، حين تجلس أمام الشاشة الصغيرة لتشاهد فيلماً فيه الساحرة
سعاد حسني او المبهر باستر كيتون او العبقري تشارلي تشابلن او وحش الشاشة
فريد شوقي او أي واحد من هؤلاء الألوف الا يثير عجبك الساذج كيف أنهم لا
زالوا يتحرّكون بعد موتهم؟
السينما هي الوحيدة بين كل ما تم إختراعه وصناعته من إنجازات
تقنية، والوحيدة من بين الفنون جميعاً التي تستطيع أن تعرض لك الحركة كما
قام بها الممثل الذي مات. صوتاً وصورة تراها وتراها وتراها الى الأبد إذا
أردت أما هو، ممثلنا، فلا يعيش لأكثر من الوقت المسموح له على هذه الأرض.
يرحل.
وبالمناسبة، لماذا اعتدنا أن نسمّي السينما أنثى. نقول «خسرتهم
السينما» وليس خسرهم السينما؟ إنها ليست كلمة عربية فلم تأنّثت سريعاً؟ من
أنّثها؟
كذلك ما معنى كلمة مخرج؟ لا هي ترجمة صحيحة عن الفرنسية ولا هي
ترجمة عن الإنكليزية. ما هي؟ أخرج الناس من الصالة او أخرج الفيلم الى
الوجود؟ الثانية هي المقصودة طبعاً لكن لا تزال كلمة أخرج تبدو أقل تعبيراً
عما يقوم بها "المخرج" من عمل. أعتقد أن كلمة «سينمائي» مناسبة أكثر لولا
أن السينمائي قد يكون المنتج وقد يكون مدير التصوير... او كاتب
السيناريو... كل من هؤلاء وغيرهم له الحق في أن يعتبر نفسه سينمائياً، وبأي
لغة. لكن هل هناك كلمة فعلية للمخرج؟ أليس هناك من كلمة عربية؟
أعرف أنني خرجت عن الخط وأن الموضوع هو التنهيدة الطويلة التي
أنتابتني عندما نظرت الى تلك القائمة من موتى السينما في العام الماضي. ليس
كلهم ممثلين، لذلك لا يحلم المرء بأن يشاهد المخرج او كاتب السيناريو او
مدير التصوير او الموسيقار على الشاشة. عليه أن يعيش ذكراهم حين يُشاهد
فيلماً حققه هذا المخرج او كتبه ذلك السيناريست او صوّره ذلك الفنان الصبور
وراء الكاميرا.
أتذكر جيّداً ابتسامة الراحل عبد الحي أديب. كانت دائماً
متوفّرة. عريضة. صادقة. وكانت أبوية. كان يسألني عن أسرتي وعن عملي وحين
يقرأ شيئاً يناقشه وحين يشاهد فيلماً يعجبه يتحدّث فيه وإذا كنت تعلم ما لا
يعلم أنصت إليك بإهتمام وكان يستجلب الإهتمام بدوره حين يتحدّث. لم يكن
عابر سبيل.
كما يعلم القاصي والداني إنغمار برغمن مات. مايكلأنجلو
أنطونيوني مات. الممثلة ديبرا كِر ماتت. الممثل الياباني ميوشي أوميكي مات،
الممثلة جوان أليسون ماتت، مدير التصوير لازلو كوفاكش مات. المخرج
البريطاني ومدير التصوير فردي فرنسيس مات وعشرات غيرهم ماتوا في سنة واحدة.
من سيحل مكان الواحد منهم؟
نعرف من التجربة أن أحداً لم يحل محل صلاح أبو سيف ولا حل أحد
محل محمود المليجي ولا أحد حل مكان محمد السبع او فريد شوقي او توفيق الدقن
او محمد صبيح او سواهم من ممثلي الشر (ولاحقاً الخير بالنسبة لفريد شوقي)
في السينما المصرية. لا أحد حل محل جون واين او بيتي ديفيز او ستيف ماكوين
او روبرت ألتمان او جون كازافيتيس او جاك إيلام او مارلين مونرو.
هذا -ببساطة- لأن أحداً لا يحل محل أحد في العالم سواء هذا
الأحد هو عامل باكستاني في ناطحة سحاب في دبي او رئيس الأمم المتحدة او بين
هذا وذاك في أي مجال في أي مكان وفي أي زمان. لا تعويض لأي منا صالحاً كان
أم لا. لكن في حين أن الممثل يحظى بالخلود على الشاشة فإننا جميعاً نغيب من
دون تسجيل يُذكر.
والناس، يا ناس، تنسى... تحب أن تنسى... تعيش لأن تنسى... تفرح
لكي تنسى... تمشي في طريقها وتنسى. من يذكر من؟ هذا الطفل الذي قتله الجنود
الإسرائيليون؟ أم ذلك الكاتب؟ او ذلك العامل؟ او ذاك الرئيس؟ او ذاك المخرج
او ذاك الإطفائي؟
لعلّه من باب حماية نفسي بدأت أتخيّل نفسي أكثر وأكثر شخصية من
فيلم ضلّت طريقها... زلت قدمها وسقط من الفيلم الى الأرض. أقول لنفسي، لا
وجود لي. أنا شخصية من فيلم أبيض وأسود من الخمسينات لا أكبر ولا أصغر
لأنني لست حيّاً. سقطت من الفيلم الى هذا العالم وبعد الكوما أفقت ووجدت أن
الفيلم الذي سقطت منه اختفى من الوجود. مع ذلك أحاول العودة إليه. أنا لا
أريد هذه الدنيا. آدم عصى ربّه فكتب عليّ -وعلى غيري- الحياة عليها الى
يوم معلوم. لكن أحداً لم يسألني إذا كنت أريد أن أكون عليها. لم لا
أغادرها؟
لم؟
الدنيا حفلة كبيرة مكتظّة... أتعتقد أنه لو تركتها سيستفقدني
أحد؟
لا... لا تخف لا أنوي أن أغادرها... لكن لو وجدت ذلك الفيلم
الذي أنجبني فسأعود اليه ولا مانع عندي أن أبقى فيه... إنه أبدي على الأرض
أكثر مني.
آه ه ه ه ه ه ه ه ه
سينماتك
في 12 يناير 2008