(1)
غطست في ذلك النهر البارد القادم من الشمال سريعاً وعريضاً لم
أكن أفكّر الا في أفلام هنري هاثاواي وجون فورد وراوول وولش وجورج شرمان
التي صوّرت في المكان نفسه قبل الثلاثينات وما بعد. كيف عرفت أنه المكان
نفسه؟ نظرة الى الجبال الحمراء في الخلفية تؤكد لك ذلك. أنها تطل من أعلى
النهر بصمت مهيب. صخور حمراء التربة عملاقة تسدد النظر الى ما تحتها وتسبّح
الخالق فوقها. تعيش كل يوم من مئات ألوف السنين صامتة. أنظر إليها
وأفكّر... هل يا ترى إبتسمت تلك الجبال حين كان جون فورد يصوّر فيها أفلامه
الوسترن؟
أستطيع أن أرى الممثل بن جونسون، أحد الوجوه الدائمة في فريق
فورد وهو ينطلق على جواده أمام ذلك الجدار الصخري الشاهق متقدّماً القافلة
في
The Wagon Masterفجأة
الهنود يبرزون له من وراء الجبل. يتوقّف بن جونسون ويرتد بحصانه سريعاً
ليحذّر القافلة من التقدّم. الطريقة التي تصرّف فيها فوق حصانه أكّدت أنه
كان فارساً أيضاً وليس ممثلاً. وهو أكّد لي حين قابلته في »كان« جالساً
بقبّعته العريضة في مقهى الكارلتون أن نعم... كل مشاهد الجياد كانت لي.
أعرف الكثير عن الجياد... لديّ مزرعة.
دعاني وزوجتي لأن نزره، لكننا لم نفعل. ومات مع من ماتوا من
الممثلين والمخرجين والكتّاب والمصوّرين والمصوّتين والمولِّفين والمنتجين
والموسيقيين ومصممي المناظر والديكور والملابس ومصففي الشعر وكل ذلك الجيش
من المجهولين الذين عاشوا وماتوا بينما نحرص نحن على أن الحياة هي التمادي
في الأمن والإستقرار.
(2)
آن الأوان لأن يطالب السينمائيون والجمهور على حد سواء بقيام
الحكومات العربية بمساندة السينما مساندة فاعلة.
أما هذا، وأما أن نطوي كل الملفّات ونكتفي بإستقبال السينما
الواردة من الخارج (أميركية غالباً) ونتحوّل الى لوكسمبورغ- لا حتى
لوكمسبورغ فيها إنتاجات سينمائية مدعومة. نتحوّل الى بنغلادش- لا حتى
بنغلاديش تنتج أفلاماً مدعومة. نتحوّل الى كينيا او موزمبيق او بوليڤيا.
ما حاجتنا الى السينما إذا كانت الحكومات لا تمد يدها
لمساعدتها كأي صناعة او كأي ثقافة أخرى؟ وما حاجتنا إليها إذا كان
السينمائي العربي محاصراً بالغث والرديء واللامبالاة او مشتركاً في الغث
والرديء واللامبالاة؟ ثم ما حاجتنا إليها إذا ما كان التطرّف ينظر اليها
نظرة من مارس كل الموبقات والخطايا وأحد دعاته يقف على شاشة التلفزيون
ليقبض أجراً لقاء كلمة متخلّفة تدعو لتحريم كل الفنون؟
إذا ما قامت الحكومات العربية، كل في بلدها طبعاً إذ أخاف أن
أحلم بأكثر من ذلك، بمساعدة السينما ماديّاً ومنحها التأييد الكافي لكي
تنطلق مع كل ما يتطلّبه ذلك التأييد من حرية واستقلالية مسؤولة، فسوف نعرف
أول الطرق لتقديم العالم العربي كسينما جديدة تواصل ما حققته أفلام عربية
من الخمسينات من شأن بفضل جهود أحياناً ما كانت فردية وأحياناً ما كانت
مدعومة من قبل المؤسسات السينمائية التي شهدتها بعض الدول.
لكن الحكومات العربية لن تدعم. بعضها يخاف من السينما ومن
الحريّة, وبعضها لم يستسغ بعد أهميّتها القصوى في عالم اليوم وكيف أن عقول
البشر تتغذّى وتتغيّر تبعاً لما يرونه على الشاشة الكبيرة. وهل لاحظت أن
هناك صناديق دعم ومؤسسات وجمعيات حكومية خاصّة بالمسرح وبالكتاب وبالرقص
التعبيري لكن ليس هناك شيء له علاقة بالسينما؟
غريب. كنت أعتقد أنني الوحيد الذي أحب المناطق غير الآهلة في
هذا العالم. أعتقد أن الوضع العربي بأسره هو الذي في مكان غير آهل. في مكان
معاد للطبيعة. لحركة الحياة. للتقدم. للعمران. لبناء العقل السليم. لدحض
إفتراءات الغرب عن الإسلام. هل هناك من يعتقد أن دخض إفتراءات الغرب عن
الإسلام مهمّة دينية؟ او دينية محضة؟
إذا ما واجهوها علماء الدين تحوّل الأمر الى صراع أديان لا
يخرج عن نطاق أنت تقول وأنا أقول. لكن إذا ما اشتركت فيها الفنون والثقافة
تحوّلت الى حوار حضاري نستطيع عبره، بالتأكيد تسجيل نقاط أعلى من فتاوى
اولئك الذين قبضوا أموالاً باهظة وسافروا الى الدنمارك لمقابلة رئيس
الوزراء الدنماركي لإقناعه بتسليم مواطنيه الذين رسموا الكرتون الى المحكمة
ولتقديم الوجه الناصع للإسلام. نعم ذهبوا وجلسوا في الفندق وقبل عودتهم
جالوا واشتروا بعض الحاجيات لا ريب.
(3)
أول ما باشرت السينما إنتشارها في أواخر القرن التاسع عشر
ومطلع القرن العشرين، حوربت من قبل متطرّفين مسيحيين. في موسكو تم تحطيم
دار للسينما. في باريس تم إشعال دار للسينما. في إيطاليا أوقفت العروض لبعض
حين. لكن كلها سنوات قصيرة وانتهت. أما سنواتنا فهي، ما شاء الله، مديدة.
نحن نؤمن بالوقت. لا نصل في الوقت المحدد لمواعيدنا، ولا نرد على الرسائل
التي تصلنا ولا نلتزم بإتفاقياتنا ومواعيد تنفيذها لكننا نؤمن بالوقت
السرمدي. نحن قابعون في أماكننا لأن الزمن معنا. يقول لي رجل مسن ذات مرّة:
لو طبقّت السماء على الأرض، فلسطين عربية وستبقى عربية. كلام جميل لكن ماذا
عن ضحايا كل يوم؟
في العام 1947 بعث مراسل بريطاني تقريراً تم نشره في كتاب
سينمائي كان دار نشر »بنغوين« الشهيرة تصدره كل عام يتحدّث فيه عن الشركات
السينمائية في فلسطين. وقد لاحظ أن هناك نحو سبع شركات إنتاج سينمائية
عربية وإثنا عشر شركة إنتاج سينمائية يملكها يهود. الشركات العربية لم تنتج
شيئاً بل اعتمدت على استيراد الأفلام المصرية واليهودية لم تعتمد على
الإستيراد بل معظمها صوّر أفلاماً تدعو لقيام الدولة وتروّج لفكرة صهيون
وتتحدّث عن الشتات اليهودي الذي لابد أن يتّخذ من فلسطين دولة له.
الا تشعر
معي بالأسى؟
أقول لك تعال نطوي ملف السينما. نحن لسنا أهلاً لها. لكني أقول
ذلك بنصف إيمان او أقل. إنه فقط الطريقة التي نفكّر بها والطريقة التي
نرتاح فيها للسهل عوض ركوب الصعاب. ما الحياة يا صديقي إذا كانت راحة
وإنتظار وعمل شاق من أوّل النهار الى آخره لقاء حلم أسروي؟ أجرأ أن أطلب
منك أن تنتزع هذه النظرة من البال. وأذكّرك بما ورد في فيلم
From Here
to Eternity
حين قال لانكاستر ما معناه: كل رجل عليه أن يشق طريقه.
من لا يفعل لا طريق له.
وطريقك ليس أن تكتفي بالسيارة والأولاد والزوجة الحنون. أنت
متمرّد في طبيعتك. إحتفظ بقدر من ذلك وأنت تسبر غور الحياة.
أجعل نفسك مختلفاً عن السائد. الأمر لا يحتاج الى إحصائية:
ثمانون بالمئة من العالم راضون بأن يتم تسييرهم. تقليديون وملتزمون
ومسيّرون غالباً كقطيع. العشرون بالمئة الأخرون هم على نوعين: عشرة بالمئة
تقوم بذلك التسيير والإبتزاز والإستغلال وعشرة بالمئة هم من السابحين عكس
هذا التيّار. تعال أسبح معي.
سينماتك في 14
يونيو 2008
|