اللَّعنة متواجدة في كل مقوّمات الشَّريط السادس
للإسباني رودريغو سوروغويّن "الوحوش" (138 د). أنها
نجاسة دنيويَّة تقضم الضَّمائر، وتدمر المروءات،
وتحجَّر على الأُلُفات.
اللَّا بركة التي تحيط بيوميّات فلاحي قرية نائية
ورعاتها القاطنين بين جبال غاليثيا الإسبانيَّة، هي
رسم بيانيّ لأنفس مَرجُومة، تتحصَّن في برّيَّة أخاذة
تتواطأ مع ضغائنهم وعنفهم ومنازعاتهم. خَلْق منزوون مع
بقعتهم، يسايرون قوانينها الطبيعيّة لكنهم يفتقرون الى
تكافل ونخوات ووداعات، ولا يسلكون إستقامة، ويفتنهم
إرتكاب الذُّنوب. ظُلاَمَتهم إنَّهم يواجهون ما
يعتبرونه "غزواً" أجنبيّاً، يسعى الى سرقة أرض،
وإستثمار غلال، وتفتيت نطفة عرقيَّة عريقة الأصول
والعادات والعشرة.
هؤلاء قوم يبدون للغرباء أهل عزائم، ولمَّة عشائريَّة
ومناطقيَّة متوحّدة مع تضاريس غليظة تشبه تجهُّمهم
وشكاساتهم، لكنهم يبطنون شحناء لا تخشى سفك الدّماء.
حجريو القلوب والضَّمائر، يأكل الضَنْك أرواحهم.
يُعْلِن صاحب "الملكوت" (2018) شريعتهم القائمة على
الغلبة والتَّرويض في مفتتح عمله السّجاليّ بفقرة
تقول: "لغرض ضمان حُريَّة حركة خيولهم. يعمد الرجال
ألويتادوريس (مروّضوها من أهل التلال) الى شلّها
بإجسادهم من أجل قطع أعرافها ووضع علامة تمييزها عن
بعض"، قبل أن يعرض واحداً من أكثر المفتتحات
السينمائيَّة ضراوة(يضاهي شبيهه في بداية فيلم
الدنماركي لارس فون ترير "أنتي كرايست" (2009)،
مصوَّراً بحركة بطيئة تصاحبها موسيقى بطوليّة، ومنجزاً
بلقطة قريبة لكاميرا محمولة، تتابع مجموعة من الشّباب
وهم ينقضون على حصان، يحيطون رأسه بأذرعهم وأبدانهم،
ساعين الى طرحه أرضاً. يركّز مدير التصوير أليخاندرو
دي بابلو في لقطة ختاميَّة جارحة على خَطْم الحيوان،
محاطاً بعضدين عنيدين، معلناً هزيمته ورضوخه. نسمع
أنفاسه الصَّاخبة وكأنَّها لعنات عن غلبة وحوش على
وحوش.
تعود هذه اللقطة/ الرَّمز ثانية في فقرة خشنة (الدقيقة
88)، يمارس فيها شقيقان إسبانيَّان سَاسَهم على رأس
رجل فرنسي عملاق وإخضاعه الى ميتة رخيصة، منفّذين
جريمة يشهدها الرَّب من دون أن يغيث المغلوب، ويطمر
جثَّته تراب أرض إختارها الوافد ملجأ من دون أن تزفر
حسرة واحدة عليه. يداور ملصق الفيلم بفطنة فنّية نادرة
ما وقع لذلك الحصان، جاعلاً هذه المرَّة من فم الرَّجل
الذبيحة، وهو يبحث عن خلاص مستحيل من إغتيال محتوم،
مركزاً دراميَّاً للقطة ذات ألوان ثقيلة وسينوغرافيا
مركبة وهمجيَّة، تجعل من ذراعي المعتدين المستحكمين
برأسه، إستعارة مباشرة لمرارات إنسانيَّة تنتشر بيننا
اليوم بسبب القساوات وهوسها، الموت ورخص إقترافه. مجاز
لئيم تُبطِنه عادة محليَّة تساوي بين رجل وبهيمة. تدمغ
الأوّل بشارة فناء، وتخصّ الثانية بعلامة تباين وهويّة
قبل الذبح.
*******
تستند حكاية الفرنسيّين أنتوان (حضور قويّ من دوني
ميونشيه) وزوجته أولغا (مارينا فوا) الى وقائع
حقيقيَّة جرت ما بين الأعوام 2010 الى 2014 في قرية
صغيرة شبه مهجورة تدعى سانتوالا تابعة الى منطقة بيتين
في عمق ريف غاليثيا. شخصان عاديَّان يقرّران الإستقرار
في وطن مستعار، والتَّواصل مع الطبيعة، والعيش من
زراعة محاصيل عضويَّة وتسليعها في سوق شعبيّ، مع هوس
أخر يطال ممتلكات مهجورة، يجتهدان في إعادة تأهيلها
وإسكانها "لأنني أفعلها من أجل الناس"، يقول الرجل
الحماسيّ. أنَّه سلوك إفتداء يبدو بالنسبة للسكّان
المحليّين وكأنه إعتداء منظَّم وغامض الدوافع. نتعرَّف
الى بعضهم في الحانة الوحيدة حيث تتردَّد كلمة
"الفرنسي" بصيغة متَّهم. في مشهد طويل يتكرر في الحيز
ورواده. يكون شان (إداء مقتدر من لويس ثاهيرا) الأكثر
عدائيَّة ضد بلاد نابليون الذي يستعير عنه نعته
الإسبان "قوم من الأغبياء"، قبل أن يردَّ الصَّاع بوصف
فرنسا "بلاد متوحّشين. قطعوا أخر رأس أدميّ هناك
بالمقصلة عام 1977".
رجل بملامح وحش يُراكم نقمته بمؤامرة جماعيَّة. يزاحم
الجميع في النَّيل من الغريب الفرنسي متهماً إياه:
"تريد أنَّ تحتل القرية، وأنَّ تحولها الى منتجع
للسياح الإجانب". لاحقا حين تتعقَّد الأمور، وتأخذ
منحى الأذى، لن يتوانى في التَّهديد وتسميم خزّان
المياة وتدمير محاصيل جاره وزوجته. هذه الأخيرة
تتوقَّع التَّفهم والتَّريث من رجلها الذي يشبه بجسده
الضَّخم غولاً برّياً، بيد أنَّ سياسته في المهادنة
تجعله عرضة للشَّك بجبنه وتفاديه الصدام. المدهش أنَّ
الثنائيّ سوروغويّن/ دي بابلو يحافظان على وضع
الكاميرا تماما بمستوى نظره، أيّ ضمن "زاوية بشرية" لن
تضخّم تّعْضَله أو تتفاخر بقامته المديدة، إنما تجعله
إنساناً شديد العاديّة والبساطة، أقرب الى لا بطل
مخبول بحلم عائليّ كبير هو الإستقرار وسط البرّيَّة.
علَّة أنتوان في إختياره وطناً يرفضه، ومستقرّاً لا
يتحمَّل سكنه، ومأوى لا يرحّب بمبادراته.
*******
رجل وامرأة أوروبيّان يكرههم أهل بقعة هي إمتداد الى
ما يمكن تسميته بـ"لعنة بروكسل" التي حرّكت غرباء،
وسهلت من "إستعمارهم" لأراضي الغير. هكذا يرى شان، وهو
نموذج لكائن مجحف ورجعيّ يؤمن بالتَّسلط والقصاص
والإزاحة، في مساكنة غريبين لا ينتميان الى عروق هذه
الأرض. هما بالنسبة اليه غدر جاء من الشّمال كي "يسرق
قوتنا وينافسنا على مواردنا". في حين يقف شقيقه الأصغر
لورينزو (دييغو أنيدو) في موقع الغاشم المنتظر الى
إشارة مداهمة كي يُفرج عن خلل عقليّ، أصابه إثر حادث
تعرّض له وهو غِرّ مع حصان جامح.
مستوطنان/ وافدان/ مغتربان/ نازحان، أيّ يكن مسمَّاهما
أو وصفهما، فأنَّ هذا "الوطن المكتسب" لن يقبل أنَّ
يكونا من رعاياه، أو يستفيدا من خيراته، أو يستمتعا
بهدوء جباله وشعابها وبهاء وديانه وخمائلها. لن
ترفضهما الأرض بل أنَّ شياطينها تخطّط الى ترويضهما
ومنع إندماجهما ومن ثم "إلغاءهما"، خصوصا بعد
ممانعتهما مشروع شركة إنتاج طاقة من الرياح، تسعى الى
نشر توربينات هوائيَّة عملاقة في الجوار، وهو صدى
سينمائيّ الى صراع السَّيدة الإيسلندية هالا ضد كارتل
صناعة الألمنيوم وتلويثها للبيئة في كوميديا مواطنها
بينديكت إيرلنغسون "امرأة في حالة حرب" (2018)، بيد
أنَّ (الصراع) يأخذ في "الوحوش" مديات تتعلَّق
بعذريَّة أرض، يقول عنها البطل "إنّها بيتي"، ورفض
إجتياح تمدين أنانيّ من شأنه أنَّ يُفسد قطعة من
"الجنَّة الإيبيريَّة" وناسها وديموغرافيتها. تثير
ممانعة الزّوجين حفيظة الشَّقيقين، وبالذات شان الذي
أمل أن يحقق ربحاً ماليّاً بصفقة سريعة، تُسهل مغادرة
الريف والحصول على فرصة حياة أفضل له ولإسرته، أو
"أنَّ نتدبَّر أمورنا" حسب وصفه.
*******
تكمن المعضلة في نصّ المخرج سوروغويّن باِلتباس
العدالة ونسبيَّتها. فهي لدى أنتوان إقرار حريَّة،
لهذا يحاجج غريمه الإسباني شان بقول مُتبصّر بشأنها:
"هل تظنّ أنَّ وجودي هنا نزوة. كلا. هو بالنسبة لي كلّ
شيء". عليه، ينتصر شّريط "الوحوش" الى وضوح شخصياته
ومواقفهم. عمل سينمائي بلا تشويق أو إنقلابات دراميّة
أو صدمات. يحوي تفاصيل صغيرة، ويراكم اللَّعنات
وتعصّباتها ضمن مخطَّط ديالكتيكيّ متصاعد، يتبنَّى
تصوّراً إجتماعيّاً مأزوماً، يدفع بطرفيّ النزاع نحو
مواجهة غير متكافئة. مخطَّط يُعرّف بشخصيّاته دفعة
واحدة في مشهد جماعيّ. تدور الكاميرا حولهم كي نستمع
الى أرائهم ومواقفهم وإنحيازاتهم. ثلَّة من ريفيّين،
بعضهم يناصر الباغي وأخّر يصمت والقليل يُجاهر. تعي
سرائر الجميع أنَّ هناك فاجعة تترسَّم وتتحيون. لا أحد
منهم يتجاسرعلى منع فورة دمّ، أو يجمع شجاعته كي
يُنجَّي أرواحاً يطاردها الكره والبغضاء. في مشهد
فريد، يقف أنتوان أمام المراوح الهوائية العملاقة،
وكأنه يواجه طوطماً رأسماليّاً غادراً لا يرحم مفازات
بكر، أو سكّان تماهوا مع طقوسها الربَّانيَّة. الحاسم
أنَّ هذه التوربينات القميئة الشَّبيهة بهياكل
شيطانيّة، وتدور أذرعها الى اللَّا نهاية، جاءت لتبقى
وتغيّر وتنتهك.
******* |