هناك قلة من السينمائيين ممن يملكون بأساً درامياً في
مقاربة عوالم المراهقين، وإنقلابات قناعاتهم،
وإكتشافاتهم للعالم والإيمان والجنس وحجج الحياة
والطموح والخسارات. قلة من هؤلاء المخرجين يملكون
دراية الوقوف عند مسافة محسوبة من مواضيع فتية يواجهون
عالم كبار سن تتضخم لديهم أناتهم وتآمراتهم
وأنانياتهم. بالغون لا يلتفتون الى تلك الإنقلابات
الحاسمة التي تعصف بإبنائهم وشخصياتهم، ويغضون الطرف
عن مطالباتهم الكتومة بإعادة الإعتبار الى شؤونهم
وأولوياتها، وفي مقدمتها حريتهم التي تعرقلها إرادات
متعددة الرؤوس، وتصر على "ضبط" إيقاعاتهم النارية
والمتفجرة والخارجة عن العرف العام. تعد دومينغا
سوتومايور أحدى أفضل مخرجي جيلها ممن خطوا منهجاً
شجاعاً ومغايراً في موضوع "النشأة وبلوغ سن الرشد"، إذ
جعلت من أبطالها الصغار أُضحيات إجتماعية لعائلات
تتفكك، وعداءات تُستحكم من دون ان يدركوا خلفياتها أو
دوافعها أو أغراضها. في باكورتها الروائية "من الخميس
وحتى الأحد"(2012)، الحائز على جائزة النمر الذهبي في
مهرجان روتردام السينمائي، والجائزة الكبرى في مهرجان
"نيوهورايزن"(آفاق جديدة) في بولندا(2012)، حافظت
المخرجة التشيلية، على خط درامي قارب ثيمات النضج،
وإستحقاقات ولوج عالم البالغين، عبر رؤية ملّتبسة
لبطلتها الفتية ذات الأعوام العشرة لوسيا(سانتي
أهومادا)، والشاهدة على حالة عداء بين والديها،
وإنهيار علاقتهما الزوجية.
ما تفعله سوتومايور، التي ولدت في سنتياغو دي تشيلي في
العام1985، هنا ليست محاكمة سريعة لحالة، بل إقتراب
حصيف وبالغ العمق لتغيير حاسم، ولكن شديد البطء، يخترق
ظنون الصبية، ويكسر في دواخلها إيمان هش بشأن مستقبلهم
جميعاً، كوحدة أسرية ووجدانية تأسست على حب، قبل ان
يتحول هذا الأخير الى بغض ثنائي، لا خلاص منه سوى
بفراق غريمين. يستدعي هذا النصّ النبيه، إرتباكات
بطلته بإعتبارها ضحية أسرار وأكاذيب لإفراد من طبقة
متوسطة، بيد ان صغر سنها لن يسمح لها من تخمين كل
التفاصيل. أن الحسرة التي تضرب كيانها، قائمة على
مراقبتها لمشاحنات كضيمة، لا حيلة بين يديها لوقفه أو
محاولة رأب صدعه. يجري الشقاق داخل سيارة، يقودها الأب
فرناندو بتهور، نحو ضواحي سانتياغو لقضاء سفرة وسط
الطبيعة، وفي كل فقرة من هذه الرحلة، يتم الإشارة الى
خراب متعاظم، فتارة تتجلى في سرقة الأب لحبات فاكهه
تتدلى على سور بستان، وأخرى عبر إجتماع لئيم الأحاسيس
مع فتاتين بوهيميتين، وثالثة عبر حصار نفسي يعانون منه
في فندق كئيب، ورابعة عبر تنازع يشتعل أواره بين
فرناندو وآنا وسط موقع تخييم مترب. ان سلوكيات هذا
الرباعي البشري، والتي تذهب نحو مهانات وتجريحات
معيبة، تكرس ضمن بابها النفسي، عزلة لوسيا التي تصورها
مخرجة "الجزيرة"(2013) و"مار"(2015) و"ألعاب
الفيديو"(2008)، و"تحت" (2007) و"سيسنا" (2005)،
بلقطات مضببة من وجهة نظر الصبية، حيث تختفي ـ ضمن
إطارها ـ ملامح والديها، وكأن بها تُعلن رفضها
لمصابهما. ضمن حالة التعسُّر هذه، والتي يكتنفها
القليل من البهجة، تدرك بوضوح أن لا خيار أمامها، في
يوم من الأيام، سوى التخلي عن رعاية أبويها، والإنتصار
الى إستقلاليتها وحياتها الجديدة.
هذه العناصر، تتكثف بقوّة درامية في الشريط الروائي
الثالث لسوتومايور "فات الأوان للغاية كي نموت
يافعين"، المعروض ضمن المسابقة الرسمية للأفلام
الروائية الطويلة في مهرجان الجونة السينمائي(20 ـ 28
أيلول/ سبتمبر 2018)، لكنها إختارت هنا توريات مسيَّسة
ذات فطنة عالية الدراما، إمتازت بتركيبة متداخلة وذات
إيقاع داخلي موتور، ضمنها يتقاطع حشد كبير من 33
شخصية، يتجمعون في أحراش جبلية، تقع عند حواف مدينة
بلا أسم، للإحتفال بعام جديد. لكن ما تبدو كيوتوبيا
برّية، تتحول الى منفى جماعي إختياري مليء بالتجريح
الشخصي والأذيَّة الذاتية. انه صيف العام 1990، وجيل
ما بعد سقوط ديكتاتورية بينوشيه وطغمته العسكرية
اليمينية، يحاول ان يجد معاني حريته الجديدة، ويتلمس
بإرتباك مستقبله الغامض. يتجلى هذا الجيل في كيان
الصبية ذات الأعوام الستة عشر صوفيا(إداء قوي من
داميان هيرنانديز)، التي تمتاز بشخصية ذات شكيمة،
لكنها مخترقة بمراهقتها الحائرة بين المناكفات العقيمة
للكبار من حولها، وإحساسها بغربتها عن أقرانها(المتمثل
بإصرارها المتواصل والمرضي على تدخين السجائر)، خصوصا
لوكا الذي تصدّ غرامه بلؤم ولا هوادة. تنتقم صوفيا من
عزلتها العائلية، وغياب والدتها التي تعيش مع رجل أخر،
حينما تسمح للمصور الشاب العابث إغناثيو بقطف بكارتها،
لترغم نفسها على فقدان براءتها، ودخول عالم الراشدين
عنوة. هل هذه خطيئة جماعية وعامة أم زلّة فتاة لن
تلتفت بجدية الى حماقتها وهشاشتها الداخلية؟. في
المقطع الختامي لهذا النصّ، الفائز بجائزة الفهد
الذهبي لأفضل مخرج في مهرجان لوكارنو السينمائي(2018)،
نشهد الجواب الحاسم على هذا السؤال، عبر نيران حرائق
هائلة تلتهم ملكيتهم الطارئة لفردوس كاذب، وتُعلن
بقسوة عن علاقات غير متزّنة بين أجيال متضاربة العواطف
والإلتزامات والإنتماءات، مثلما تُحذر من تهديد ضمني
لحكمة الطفولة وسرقة طهارتها، ومن خلل يصيب موازين
نشأتها الطبيعية ونموها.