يستكمل الكازاخستاني الشاب أمير بيغازين في جديده
"النهر"، ثلاثيته السينمائية التي حملت أسم بطله
"أصلان"، ودارت حكاياتها حول المراهقة وإستحقاقاتها في
أرياف بلاده. فشريطه "دروس هارمونية" (2013) قارب
مهانات يتعرض لها الصبي في مدرسته القروية على يد زميل
ضخم وعصابته، قبل ان يشرع في الأخذ بقصاصه ببطء
ودموية، فيما صور "الملاك الجريح" (2016) يوميات
مجموعة مراهقين، أحدهم هو أصلان، تعبث بهم أقدار عصيّة
من تشظيات عائلية وفقر وعزلات إجتماعية وسوء حظوظ.
للوهلة الأولى، يبدو "النهر" (113 د) وكأنه تجميع
لحكايتيّ عمليه السابقين ضمن مساحة بصرية واحدة، من
حيث ان البِنية العائلية تتحقق هنا كإنقطاع كينوني
متراص، خاضع الى بطريركية ضاغطة، تسيطر على حيواته
وقانونها وتراتبها ونزعاتها، داخل مزرعة "منفية" واقعة
في بريّة جارحة وموحشة وخاوية. تكتسح تلك المفازة
المقفرة حيوات خمسة أشقاء، تتراتب أعمارهم من فتوة،
تسعى الى وراثة سطوة أبوية، الى صغر سن، تداور ضعفها
وسذاجتها في مواجهة طغيان عارم ، وتحاشي مظالمه. هذه
الجدولة ضرورية درامياً لفهم توزيع المساحات التي
يشغلها كل فرد منهم، حيث يمثل واحدهم ثيمة تستكمل
سلالة ملعونة، تتكشف يومياتها عن وفرة من دناءات
وشحناء ومنازعات وإفتراءات.
يصوغ المخرج بيغازين مُقامهم المَقْصِيّ بإعتباره "أرض
حرام"، يتمنَّع على خارج بشري من محاولة إختراقه أو
تقويض تطامناته المريضة. بيداء مفتوحة على أفق لا
محدود، تغوي الى هروب لا يمكن تنفيذه لإن قوّة
إستحواذها وجذبها للبقاء والخنوع غير قابلة للتحايل أو
المناورة. الأخوة، هم قطيع بشري مرتهن الى جغرافية لا
تتغير، ولإنها دهرية فإن روتينها يستمر ضمن دورة
مغلقة، والأكثر شراسة إنها لا تسمح لهم بالإكتشاف.
أشقاء مؤطرون بحيز خبيث، حيث ان نشأتهم ومستقبلها
مرتهنتان بما وضع لهم من واجبات، وعندما تُرتكب معصية
ما فإن مجازاتها حاسمة وعنيفة ولا تخضع لمهادنة. وككل
عائلة، فهناك إشتراطات وإعتبارات، تبدأ مع المشهد
الإفتتاحي المفعم بمنطق فاشي، والمتمثل بخضوع الصبي
أصلان(إداء لافت من زالغاس كلانوف) الى عقوبة شائنة
على يد والده الصارم. السبب، أنه لم يكن حازماً بقدر
كاف لترهيب أخوته، وضمان طاعتهم لإنجاز مهماتهم،
وإستكمالها بمُطلق إستعبادي. يُمثل الأب ببأسه وحسمه
وجهاً للا حقّ. رجل ممسوس بقوانينه التي تُكرر أعمالاً
فردية مثل رعاية ماشية، وصناعة طوب طيني، وإشراف على
حظيرة، وإعتناء بحقل صغير وغيرها، فيما يبقى اللهو
خاضع الى إنضباط جماعي، لا يتعدى حدود مناكفة، ولن يصل
أبداً الى ضرر جسدي، وإن حدث، فالوحيد الذي يقوم به
ويرتهن الى قراره، هو الأب وسياطه، ذلك أن "معسكره"
النائي الذي أشاده، حسب تصريحه في بداية الشريط،
بعيداً عن خط التحضر ومتفادياً نجاساته، إنما أختاره
من أجل حماية عائلته!، في الواقع أن ما صنعه، لا يبتعد
عن معتقل بلا جدران حقيقية، أسواره الشبحية معزّزة
بالخوف والحظر والصدّ.
لن تخرج حكاية الإشقاء، خلال المقاطع الأساسية للفيلم،
عن مسارات روع وإمتثال، في إنتظار نازلة قدرية تقلب
الطغيان وظُلمه. أما الروح الحقيقية لنصّ "النهر"،
فكمنت في بناء "الميزانسين" وخطوط تشكيليته الباهرة
اللذين أضفيا عليه نضارة لا مثيل لها، وقامت على لقطات
ثابتة، أنجزها المخرج بيغازين بنفسه، وحرص على
"تلوينها" بصبغة التراب الذي يحاصر الجميع، تحت فيوض
من ضياء صحراوي شديد الرونق، يضغط على نفوس متناحرة.
الى ذلك، أخضع بيغازين المشهديات الجحيمية للفيلم الى
ظاهرة جمالية ذات فطنة هندسية فيثاغورسية، تمثلت في
إستغلال العدد وتقسيماته للحيّز البصري، وضبط مساحاته
بتناظرات رياضية، إستلفت في الغالب أعمدة مثلثات
وهمية، توزع الأخوة فيها بدقة على أبعادها المتوازية
تارة أو المتقاطعة في أخرى، أو في تواجدهم على نقاط
تستكمل سلاسلها نظرياً. حوَّلت هذه السياسة الشكلية،
غالبية صور "النهر" الى لوحات حسية، تدفع بمشاهدها الى
أقسى حالات الأسى على اليافعين ومرارات تباعدهم عن
جماعيتهم، والعداوات التي تجرفهم بلا رادع، وتقضي على
صباهم وبراءاتهم. ان اليقين الرياضي هنا يتماشى الى حد
بعيد مع فلسفة شريط "النهر"، القائمة على أن الوجود
الإنساني مرتبط، على نحو لا يتزعزع، بحريته. وما
تقاطعات الأرقام وأضلاعها الوهمية في الشريط سوى
إشارات ملّتبسة الى إنها "طرق" مفترضة، يتوجب عليها ان
توصلنا والأبطال الخمس الى صحوة ضميرهم وتقواهم
وطهاراتهم كل حسب وعيه ومقدرته. كان فيثاغورس يشدد على
ان الرياضيات هي "مؤسسة الوجود"، وإن العدد يشير الى
نشوء الكون، ومن هذا الأخير نبع الجسد البشري، وقامت
حقيقة رموز حيواته في الخير والشر. تأتي هذه الحقيقة
الى واجهة الشريط سريعا، لتمتحن سؤالاً عصيّاً حول
"وجود" هؤلاء الصبية، وتختبر مستويات فهمهم الى
المصائب وغلو السلطة والخطايا والنوائب والجحود
والنفاق والغدر. تتفجر الحياة حول الفتيان مع زيارة
صبي مديني قريب الى العائلة. كائن صموت يمتاز بتسريحة
شعره الطويل ونظاراته الشمسية وخوذته وسترته المعدنية
الفضية وجواربه الصفراء الواقية وأحذيته الخفيفة. يأتي
لهم من دون رفيق، أي أنه "واحد"(كرقم). يحتل بعجالة
فضولهم عبر جهاز "آيباد" سحري بنظام تحديد المواقع، ما
مكنه من العثور على البيت المنعزل والقرية القريبة
منه. يكتشف الأشقاء عبره عوالم لم يروها من قبل،
ومشاهد لم يألفوها، تبدأ بلقطات حروب وتقطيع رؤوس،
تخبرهم عن وحشية لا تضارع خارج مجمعهم، وتنتهي بمقاطع
أشرطة بورنوغرافية فاحشة، تحرضهم على إكتشاف ملذات
أجسادهم وفوراتها الحقة. ان ما أتى به هذا الوافد،
وأسمه كانات (إريك تازبيكوف)، هو ثورة عارمة، تحرض
الأخوة على الفلتان، منهم مَنْ يتبادل معه بمدخراته
أوممتلكاته للحصول على "تنازل" زمني، يستحوذون عبره
على لعبة فيديو تحدث ضجيجاً إستفزاياً، أو جهاز غريب
يصدر موسيقى بنبرة واحدة لا تتغير، قبل ان تنشأ بينهم
حالة جزع من حياتهم البائسة والخاضعة الى أوامر وعسف
لا ينتهيان. كل هذا، يهدد موقع الأخ الأكبرأصلان (13
عاما)، ويختبر بطشه عليهم. ترى كيف يخطف إهتمامهم عن
هذا الشيطان الذي وقع كالفجاءة على طمأنينتهم الأزلية؟
أولا، يتوجب عليه تغيّيب هذا الضيف عن المشهد الأسري.
ثانيا: يلّزم عليه إغواءهم بما يتوافر حول محيطهم،
وبما هو أقرب الى أمزجتهم وإهتماماتهم الرعوية. يكمن
الجواب في كشفه عن سر أخفاه عمداً. أنه النهر الذي لم
يعرفوا بوجوده من قبل، ولم يخوضوا في مياهه الفوارة.
وبين دفق أمواجه يغيب الفتى الجديد فجأة، مثلما سبقه
الأب الضاري، لتحدث هزّة ثانية بشأن صدقيتهم. هل غدرت
المياه بالإثنين، أم ان هناك من سهل غرقهما؟. تنال
الأسئلة والظنون منهم جميعاً. يتبادلون الريبة،
ويغرقون بالتوجس، ذلك أنهم خالفوا مقاييس الله.
بفطنة سينمائية، يرفض المخرج بيغازين (ولد عام 1984)
الرضوخ الى المناورة حول الإثارة التي تسبب بها ذلك
الإختفاء أوتفسيره، ليبقى أميناً الى لوحاته وإتزان
مشاهده. فما يجري هو "نموذج أولي للعالم، حيث يمكن
للأفكار المختلفة أن تتجمع وتتصادم"، حسبما قال الى
موقع "سيني أوروبا" السينمائي المتخصص (عدد يوم
2018.9.12). تتشبث كاميرة صاحب "عذراوات" (2007) و"صور
سالبة لألماطي" (2009) بثبوتها وحياديتها، مسجلة عودة
السكون الى العائلة، والجهر بإندحار الأخوة. فالجريمة،
التي لم يقترفوها، تضغط من أجل الإعلان عن نهاية ما.
وكما ان هدير النهر وأمواجه العاتية يصرحان عن نفسيهما
كإشارتين على نسغ تغيير وحراك و"تخريب الى حد ما"،
يكون على القدر ان يكشف أهوال ما جرى بين جدران الدار
الريفي وقاطنيه. وليس هناك أكثر نجاعة لكشف عوراتهم من
عودة صاعقة للصبي الضائع/ المقتول، الذي يصرخ في
وجوههم بتهمة بينة على خيباتهم وجبنهم ورضوخهم للقهر،
معتبراً انهم كائنات مسيرة، عليهم ان يهندسوا ويخططوا
الى إنتفاضتهم المقبلة من أجل "إقتناص" حرية محتملة.