“إنه بالفعل أحد أفضل المهرجانات التي حضرتها. أود أن أشكر فريق المهرجان
بأكمله، أنا ممتنة للجمهور التشيكي المميز الذي يدعم الأفلام بحضوره
واستقباله الحماسي لها، جعلتموني أعود بشعوري لما قبل جائحة كورونا، نحن
بحاجة إلى السينما، ولدعم السينما”. هكذا تحدثت الممثلة الأمريكية “روبن
رايت” بكلمات مؤثرة تكتنفها عاطفة جياشة، وذلك عقب تسلمها الجائزة
التكريمية من الممثل التشيكي الكبير “ييري بارتوشكا” -رئيس مهرجان كارلوفي
فاري- في ختام دورته الـ57 التي امتدت خلال الفترة ما بين ٣٠ يونيو/حزيران
إلى ٨ يوليو/ تموز الجاري.
وقد عرض لها في إطار هذا التكريم فيلمها “العروس الأميرة” (The
Princess Bride)،
لكن كلمتها لم تكن استثناء، بل إن نجم هوليود النيوزيلندي “راسل كرو”
الحائز على عشرات الجوائز منها الأوسكار والغولدن غلوب، تحدث أيضا عن أهمية
المهرجان التشيكي ودقة مواعيده وانضباط منظميه، وذلك أثناء تسلمه جائزة
إنجاز العمر لمساهمته البارزة في السينما العالمية، ليلة الافتتاح الذي
اتسم بالجاذبية مع تقديم رقصة جماعية شيقة للتزلج على الجليد، فوق خشبة
المسرح المغلق بالقاعة الكبرى في فندق ثيرمال.
“راسل كرو”.. إعجاب الجمهور وسياط الصحفيين
رغم كل الإبهار في الإضاءة والرقص، فإن وجود النجم “راسل كرو” جعل جمهور
القاعة يهتز بقوة، مصفقا له بحماس منقطع النظير، خصوصا مع تكريمه بجائزة
تمثال الكرة الكرستالية الشهير، تلقاها من رئيس المهرجان “ييري بارتوشكا”،
وحول ذلك قال “كرو” أثناء الافتتاح: رغم سعادتي بالتكريم وتقديري له، فإنني
هنا من أجل الحفل.
فقد خصصت له إدارة المهرجان إحياء الحفل الغنائي الذي يُقام عادة عقب مراسم
وفيلم الافتتاح، وقد امتد حتى الساعات الأولى من الصباح، فبات يصدح بطل
“المصارع” (The
Gladiator)
بصحبة فرقته الموسيقية التي جذبت مئات الآلاف من الجمهور العادي، وتفاعل
معها بشكل هستيري من شدة البهجة، بينما في اليوم التالي وأثناء المؤتمر
الصحفي تعرض لنقده بعض الصحفيين، مُلمحين إلى أن مسيرته الموسيقية ضعيفة،
ولا تُقارن بإنجازه في فن الأداء، لكنه تجاهل النقد وحوَّل دفة الحديث إلى
شغفه بالموسيقى والغناء من مرحلة مبكرة في حياته.
النجمة المكرمة في فري روبن رايت
قدم “كرو” في مسيرته عددا من الأعمال، منها “عقل جميل” (A
Beautiful Mind)
عام 2001، و”الرجل السندريلا” (Cinderella
Man)
عام 2005، و”المصارع” (The
Gladiator)
عام 2000، وهو الذي نال عنه جائزة الأوسكار، وقد قرر مخرجه بعد 24 عاما أن
يعود لتحقيق جزء ثان منه بعد 24 عاما.
“جوني ديب”.. مزاعم في مقابلة النجم الغائب الحاضر
إذا كانت الجائزة لم تشغل “راسل كرو” على حد زعمه، فإن الأمر اختلف تماما
مع الممثل والمنتج والموسيقي الأمريكي “جوني ديب” الذي تحول إلى ظاهرة فنية
ضخمة قبل عدة سنوات، وله ملايين المعجبين في مختلف أرجاء العالم.
فرغم أنه حائز على ثلاثة ترشيحات لجوائز الأوسكار، وجائزة غولدن غلوب
وجوائز أخرى لا حصر لها، ورغم أنه لم يحضر بجسده في هذه الدورة، فقد كان له
وجود آخر مؤثر وداعم للمهرجان العريق، فقد ظهر بأحد المشاهد السينمائية
الدعائية المصورة خصيصا للمهرجان، بينما تحاوره صحفية تؤكد على أنها من أشد
معجبيه، لكنها مندهشة، لأن جميع النجوم الذين حضروا إلى المهرجان كان
يُكرمون دوما، بينما هو لم يحصل على التكريم عندما حضر للمهرجان قبل عامين.
فيسألها: حقا؟!
ثم بعد فترة صمت مربك، يستخرج لها تمثال الكرة الكريستالية الشهير والمميز
للمهرجان، مدعيا أنه حصل عليه من كارلوفي فاري، فتتأمله الصحفية بدهشة،
تبحث عن اسمه على جسد التمثال، فنكتشف معها أنه قد زيّف الأمر، وكتب اسمه
على تمثال لم يحصل عليه.
“يسعدني أن أقدم لكم فيلما قريبا جدا من قلبي”
بعد غيابها أربع سنوات عن المهرجان، تعود النجمة “باتريشيا كلاركسون” هذا
العام، للمشاركة في لجنة التحكيم الرئيسية، وهي مرشحة للأوسكار، وحاصلة على
غولدن غلوب، وعلى جائزة التمثيل الخاصة في مهرجان صندانس السينمائي، وجائزة
إيمي ثلاث مرات.
راسل كرو أثناء حفله الموسيقي في فاري
وقد قالت للجمهور بمرح أثناء تقديم فيلمها “مونيكا” (Monica):
أفكر في الانتقال إلى كارلوفي فاري لأعيش هنا بينكم، حتى نتمكن من التسكع
معا. يسعدني أن أقدم لكم فيلما قريبا جدا من قلبي، فعندما أفكر في مدى
أهمية موضوع حقوق المتحولين ليس فقط في وطني، أشعر أن وجودكم مهم للغاية
بالنسبة لي، حيث القبول والمغفرة، والأهم من ذلك هو الحب.
يُذكر أن فيلم “مونيكا” يتناول صورة مقربة جدا من حياة امرأة تعود إلى منزل
الأسرة لرعاية والدتها المحتضرة، فنعايش معها صوراً للتخلي والشيخوخة ومدى
القدرة على قبول الآخر، من خلال تفاصيل قصة رقيقة ومؤلمة لعائلة ممزقة.
“إيوان ماكغريغور”.. أبوة تنقل لشاشة السينما
كان من بين التكريمات منح جائزة رئيس المهرجان للممثل الأسكتلندي “إيوان
ماكغريغور” الذي جاء بصحبة عائلته، وعلى الأخص ابنته التي شاركته الاحتفاء
بالجائزة على خشبة المسرح، مثلما تُشاركه بطولة فيلمه الأحدث “أنت تغني
بصوت عال، أنا أغني بصوت أعلى” (You Sing Loud, I Sing Louder)،
وقد عُرض الفيلم وسط احتفاء الجمهور التشيكي الذي بلغ عدد حضوره ١٣٠ ألف
مشاهد هذا العام.
تدور أحداث الفيلم في إطار درامي مليء بالفكاهة وحب الوالدين، حول علاقة أب
وابنته البالغة من العمر عشرين عاما، تجمع بينهما تجربة صعبة بعد سنوات من
الانفصال، إذ يحاولان إعادة تأسيس علاقتهما من خلال التغلب على مشكلة
الإدمان لدى البنت، وذلك خلال رحلتهما من سان دييغو إلى نيو مكسيكو،
ليكتشفا أن لديهما قواسم مشتركة أكثر من مجرد نقطة ضعف للحلويات.
“أليسيا فيكاندر” الممثلة والمنتجة والراقصة السويدية، نالت أيضا تكريما
موازيا مرتين، الأولى بالحصول على جائزة رئيس المهرجان، والثانية بعرض أحدث
أفلامها “فايربراند” (Firebrand)
ليكون فيلم الافتتاح، وهو دراما تاريخية من توقيع المخرج البرازيلي ذي
الأصول الجزائرية كريم عينوز، وقد أنتج عام ٢٠٢٣، ويتناول بشكل مثير
للإعجاب من الناحية الأسلوبية رحلة زواج الملكة “كاثرين بار” و”هنري
الثامن”، كاشفا عن القوة الداخلية للمرأة التي لا تُقهر.
راسل كرو ورئىس المهرجان في افتتاح فاري
تكريمات النجوم وعرض الأفلام.. دعم الصناعة المحلية
صحيح أن منظمي هذا المهرجان العريق يصنعون منه حدثا دوليا بامتياز، بملامح
غير تقليدية على الإطلاق، وبطاقة وتفاصيل متجددة دوما، مثلما فرضوا مكانته
المحترمة والمقدرة بين المهرجانات الكبرى العريقة، لكنهم في ذات الوقت لا
يضعون في صدارة تفكيرهم الجمهور المحلي فقط، بل أيضا السينما المحلية
ونجومهم المحليين.
وهذا يتمثل في أمرين؛ الأول خاص بالتكريمات المحلية، سواء من خلال تقديم
لمسة وفاء للنجوم الراحلين خلال العام، أو عبر التكريمات، ومنها قسم “من
الماضي” الذي يحتفي بشخصية سينمائية تركت بصمتها على الأجيال، ويعرض أبرز
أفلامها أو يعرض أفلاما وثائقية عنها، كما حدث مع مهندس الصوت الكبير “إيفو
شبالج” الذي أعدت عنه ابنته المخرجة “أديلا” فيلما وثائقيا يلقي نظرة على
مسيرته، وإسهاماته في تلك المهنة التي كرس لها حياته بحب وشغف كبيرين، مع
شهادات مهمة من صناع الفن السابع وزملائه.
كذلك، كُرمت الممثلة “دانيلا كولاشوفا” في حفل الختام، وهي إحدى أبرز نجمات
التمثيل هناك، ويصفونها في جمهورية التشيك بالممثلة الأسطورة، ويعتبرونها
شخصية استثنائية في عالم التمثيل السينمائي وفي المسرح التشيكي، فهي ممثلة
عبرت عن جميع مراحل حياتها، فتنقلت بين الأدوار، وراوحت بين المراحل
العمرية المختلفة، انطلقت من مرحلة تمثيلية إلى أخرى، من أدوار الفتاة
الممتلئة بالسذاجة أو العشق إلى أدوار الأمهات ثم الجدات، وقدمت أعمالا
رائعة.
الأمر الثاني أيضا أن صناع المهرجان يفرضون مساحة راسخة للسينما المحلية في
البرمجة، فمثلا بداخل المسابقة الرسمية “الكرة البلورية” التي تضمنت ١١
فيلما، كان هناك فيلمان من الإنتاج التشيكي هما “أبدا لم نكن عصريين” (We
Have Never Been Modern)،
ويتناول إشكالية الازدواجية الجنسية بسبب عيوب خلقية يُولد بها الإنسان،
ومشاكله الطبية وحلوله التي لم تكن معروفة إلا على نطاق محدود جدا حتى بين
الأطباء، في نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، ثم إكساب الأمر تعاطفا
إنسانيا، ومنحه شحنة عاطفية، من خلال طرح آثار ذلك على الإنسان وعائلته
وشريكه في الحياة وعمله ونظرة المجتمع له، فهو في الأغلب كان يتعامل معه
على أنه مسخ، طالما أنه ليس رجلا وليس امرأة.
أما الفيلم الثاني داخل المسابقة فينتمي لأفلام الطريق، وهو منسوج بنزعة
تشاؤمية في إطار من الكوميديا السوداء التي تنهض على الغرائبية، مع توظيف
جماليات بصرية تكاد تكون شحيحة لكنها ساحرة، ويحمل الفيلم عنوان: “إنسان
حساس” (A
Sensitive Person)،
ويدور حول أب يبدو كأنه غريب الأطوار.
إنه ممثل متجول متزوج ولديه ولدان، يُقرر ذات يوم أن يعود بصحبة عائلته
ليستقروا في جمهورية التشيك، وطوال رحلة العودة، يكون الأب وعائلته شاهدا
على عالم يتدهور نظامه وأخلاقه بشكل تدريجي، وذلك عبر تأمله أو احتكاكه
بمجموعة من الشخصيات الغريبة، مثل الناسك وعصابات المخدرات والنساء البغايا
وسائقي الدراجات الذين يسرقون سيارته ويرمونه مع طفله الرضيع وابنه المراهق
على قارعة الطريق.
ألوان مفعمة بالحيوية في أفلام قاتمة.. بصمة تشيكية
من الأمور اللافتة أن عددا غير قليل من صناع الأفلام التشيكية يتعمدون
تناول قضايا نقدية أحيانا بأسلوب قاتم متشائم، لكنهم مع ذلك يُكسبون
اللقطات مساحة لونية صاخبة مفعمة بالحيوية مثل فيلم “إنسان حساس”، ويكون
ذلك عبر الملابس النسائية للمهرج وابنه بعد تعرضهما للسرقة، إضافة إلى
ألوان المكياج، فيكشف التناقض البين بين عالمهم الداخلي والعالم الذي
يعودون إليه.
الأمر ذاته يتكرر مع أحد الأفلام التشيكية القصيرة جدا، ويحمل عنوان
“إلكترا” (Electra)،
وقد عرض ضمن مسابقة “تخيل”، ففي ٢٧ دقيقة وعبر الخيال المتفجر بالألوان
والمرح يلقي الضوء على شعور فتاة تخوض سن البلوغ المبكر، حيث تتعمق المخرجة
“داريا كاشيفا” في الذكريات المؤلمة عبر توظيف جميع درجات اللون الأحادي،
والمزج بين الممثلين الحقيقيين وبين الدُمى الممزقة.
إنه فيلم مرح ومربك عن كيفية إيجاد علاقة مع الجسد. إضافة إلى برمجة أفلام
أخرى ضمن قسم “العروض الخاصة”، ومنها فيلم يتناول رؤية مستقبلية عن قدرة
الإنسان على العودة من الموت، أو بالأحرى أن يكون لديه حرية الاختيار،
والعودة من الموت إلى الحياة وفق شروط محددة.
“شباك خاوية”.. سعي إلى الزواج يبعد العاشق أميالا
فاز العام الماضي الفيلم الإيراني “صيف واعد” (Summer with
Hope)
بالجائزة الكبرى في ختام فعاليات كارلوفي فاري السادس والخمسين، وهذا العام
حصد أيضا الفيلم الإيراني “شباك خاوية” (Empty
Nets)
جائزة لجنة التحكيم الخاصة بالمسابقة الرسمية “الكرة الكريستالية”، وهو
التجربة الأولى في الإخراج الطويل للمخرج بهروز كراميزاد.
يدور الفيلم حول قصة حب تجمع بين فتاة وشاب طُرد للتو من عمله رئيسا
للطهاة، فقط لأنه تصرف بإنسانية، وعارض أمر صاحب المطعم بعدم تقديم وجبة
العشاء للضيوف، لأن صاحب الفرح لم يدفع باقي المبلغ، ثم نتتبع رحلة هذا
الشاب وصعوبة أن يجد عملا كريما حتى يتمكن من التقدم لخطبة حبيبته.
يضطر الشاب للعمل في مهنة الصيد، للاشتراك في مسابقات ضرب عنيف تحت الماء،
يضطر للمغامرة بحياته ونفسه والتورط في أعمال تهريب غير مشروعة، وهي أعمال
سوف تمتصه وتستنزف طاقته وحيويته، لكنه يواصل من أجل جمع المال الكافي
ليفوز بحبيبته، لكنه لم يُدرك أن كل هذه الخطوات كانت تُبعده أميالا عن
الفتاة التي تعلق بها قلبه، فقد أصبح إنسانا آخر دون أن يدري، ليُؤكد
الفيلم أن المواطن الإيراني العادي هو كتلة من الإحباط والحظ السيئ والتخبط
في اتخاذ القرارات اليائسة التي قد تجعله يخسر حتى نفسه.
هذا إلى جانب تخصيص منظمي المهرجان برنامجا كبيرا للاحتفاء بالسينما
الإيرانية في الدورة السابعة والخمسين، جاء تحت عنوان: “ولادة أخرى..
السينما الإيرانية هنا والآن”، وقد ضم تسعة أفلام إيرانية، إضافة لفيلمين
آخرين ضمن قسم “آفاق” بعنوان “لا دببة” (No Bears)،
و”حدود بلا نهاية” (Endless Borders)
من الإنتاج الإيراني الألماني التشيكي المشترك.
“حدود بلا نهاية”.. عاشق مغترب يغيّر المجتمع في أقاصي الوطن
يحكي فيلم “حدود بلا نهاية” عن الحب وسط الصعاب من خلال قصة المدرس أحمد،
وهو يعيش بالمنفى قرب الحدود مع أفغانستان، فيحاول إعادة الاتصال بزوجته
التي انفصل عنها، لكنه ما زال مغرما بها، وهي كذلك. وهناك في المنفى يحاول
أحمد تغيير أفكار الناس، وحماية شاب وقع في غرام فتاة عمرها ١٦ عاما أُرغمت
على الزواج من رجل مسن يحتضر ضد إرادتها، بعد أن باعها أبوها للزوج.
في هدوء وتسلسل درامي سلس بعيد عن التعقيد، تدور الأحداث وسط مناظر جبلية
شاسعة، فنرى محاولات للقتل، للخلاص، للهروب من جنبات ومخارج هذه المناظر
الطبيعية المترامية بلا نهاية، والتي تشعرنا بالرهبة والقلق على أبطال
الفيلم، مع تقديم شكل آخر للهجرة غير الشرعية وأخطار الطريق واجتياز البرك
والمستنقعات المائية الخطرة، وسط طلقات الرصاص المنهمر على الرجال والنساء
الهاربين. كل ذلك في درجات لونية رمادية متعددة في الصحراء، ودرجات لونية
رمادية ممتزجة بالألوان الخضراء القاتمة وسط المستنقعات وأسلاكها الشائكة.
وليس السبب وراء اهتمام المهرجان التشيكي بالسينما الإيرانية، راجعا إلى
حالة المطاردة والسجن الذي يتعرض له صناع الأفلام في إيران فقط، بل لأنه في
تقدير إدارة مهرجان كارلوفي فاري أن السينما الإيرانية أثبتت أنها تنهض
باستمرار، إذ يسعى جيل دؤوب من المخرجين الشباب، إلى صياغة لغتهم
السينمائية الخاصة، لغة مبتكرة وفريدة من نوعها وتتحدث بحرارة كبيرة عن
الحياة، مما جعل “الفيلم الإيراني يشهد ولادة جديدة مستمرة، يولد مرارا
وتكرارا، لأنه لا يهتم فقط بالمحتوى والموضوعات والقضايا الاجتماعية، لكن
أيضا -بشكل أساسي- لأنه يهتم بمنظور المخرج وجوهر الفيلم، الذي لا يخضع
لضغوط الأحداث اليومية”.
“دروس بلاغا”.. دور يُعيد نجمة للتمثيل بعد 30 عاما
كانت جائزة المهرجان الكبرى “الكرة الكريستالية” من نصيب فيلم “دروس بلاغا”
(Blaga’s
Lessons)
للمخرج البلغاري “ستيفان كومانداريف”، وهو ما كان متوقعا منذ العرض الأول
للفيلم بقاعة ثيرمال، والفيلم من إنتاج بلغاري ألماني مشترك، ويدور في إطار
درامي اجتماعي حول امرأة مسنة توفي زوجها، ويجب أن تدفن رماده قبل أن يُكمل
اليوم الأربعين وفق المعتقدات، لكنها غير قادرة على شراء المقبرة، بسبب
انتهازية السمسار، وبسبب تعرضها للسرقة والاحتيال الذي كتبت عنه الصحف،
فأصبحت مثار سخرية الجميع، هنا وعن طريق الصدفة تتورط “بلاغا” في عمل
يُجبرها على التخلي عن مبادئها الأخلاقية بعد أن فقدت كل مدخراتها.
بعد انقطاع 30 عاما، أعاد هذا الدور الممثلة المبدعة “إيلي سكورشيفا”
للتمثيل مرة أخرى، مثلما كان فرصة حقيقة كشفت عن موهبة ممثلة عظيمة تفوقت
في دور استثنائي، لذلك منحتها لجنة التحكيم جائزة أفضل ممثلة، كما أشاد بها
المخرج في كلمته عقب الفوز قائلا: أود أن أُهدي الجائزة لجيل والديّ، لأنهم
الأبطال الحقيقيون لهذا الفيلم، لقد وقعوا ضحايا لاقتصاد السوق في بلغاريا،
وعملية التحول الاستهلاكي، فقد كانت تسرق معظم ممتلكاتهم ومدخراتهم، أيضا
أود أن أشكر زملائي و”إيلي” الممثلة المذهلة.
من زاوية أخرى، ذهبت جائزة أفضل ممثل إلى “هربرت نوردروم” عن دوره في
الكوميديا النفسية الهزلية الإسكندنافية “التنويم” (The Hypnosis)،
وقد صعد الممثل لخشبة المسرح مُعربا عن امتنانه، والتأكيد على أن زميلته في
البطولة هي شريك أساسي في هذا النجاح، قائلا بمرح: أتمنى أن لا تمانعوا أن
أقسم الجائزة، وأرسل نصفها إلى “أستا” شريكتي في التمثيل.
والحقيقة أن الفيلم محمل بطبقات من الدلالات والإدانة للسوق والتلاعب
بالناس، بأسلوب كان يفجر الضحك في قاعة العرض مرات عدة.
“فريمونت”.. أثقال تلاحق المغتربة الأفغانية في المهجر
ذهبت جائزة أفضل إخراج للمخرج “باباك جلالي” عن الفيلم الأمريكي “فريمونت”
(Fremont)،
وهو دراما كوميدية رقيقة جدا وحزينة، تنساب أثناء محاولة اكتشاف الذات،
وبصيص الأمل الذي يأتي عندما لا نتوقعه.
تدور الأحداث معظم الوقت بداخل أماكن مغلقة حول البدايات الجديدة في
الحياة، وذلك في أجواء رمادية قاتمة، من خلال شخصية “دنيا”، وهي مهاجرة
أفغانية تعمل في مصنع بمدينة فريمونت بالولايات المتحدة الأمريكية.
تمكنت “دنيا” من الهرب في حين لا تزال عائلتها عالقة مهددة بسبب هروبها،
لذلك تشعر الفتاة الشابة بعقدة الذنب، تقضي لياليها بصحبة الوحدة والأرق،
ثم تلجأ إلى طبيب نفسي غريب الأطوار، فهل سيكون من الصعب التصالح مع ماضيها
المؤلم، أو مع وجودها الحالي المضطرب؟ وهل وضع اللاجئ مشروط بالموقع
الجغرافي، أم أنه حالة ذهنية؟ تساؤلات نجد إجابات مختلفة عنها بين ثنايا
الفيلم ومشاهده.
“الرقص على حافة البركان”.. وثائقي يتيم يبكي مأساة المبدع اللبناني
عُرض في المهرجان الفيلم اللبناني “الرقص على حافة البركان” للمخرج سيريل
عريس، وهو ثاني تجاربه الوثائقية الطويلة بعد “الأرجوحة”، وهو أيضا الفيلم
الوثائقي الوحيد بالمسابقة الرسمية “الكرة البلورية”، وذلك بعد أن ألغيت
مسابقة الأفلام الوثائقية قبل عامين، فأصبحت الأعمال الوثائقية تشارك
الروائية، وتتنافس معها على الجوائز في جميع المسابقات.
نال الفيلم تنويها خاصا من لجنة التحكيم، وسلمت المنتجة التونسية القديرة
درة بوشوشة -عضو لجنة التحكيم بالمهرجان التشيكي- شهادة التقدير بنفسها
للمخرج اللبناني، واحتضنته طويلا، تعبيرا عن تقديرها وإعجابها بالفيلم
وبأسلوب مخرجه.
أما أحداثه فتدور حول تساؤلات عن دور الفن إزاء المجتمع، منطلقا من تفجير
مرفأ بيروت المُفجع الذي راح ضحيته العشرات، بأسلوب مؤلم، وتتساءل بطلة
الفيلم مونيا عقل وهي تبكي: كيف ولماذا وصلنا لهذا الحال؟
بعد ذلك يتحول فيلم سيريل عريس لتوثيق الصعوبات التي واجهها صُناع فيلم
“كوستا برافا” -الذي أخرجته مونيا عقل، وشارك العام الماضي في مهرجان
البندقية، وكان مرشحا للأوسكار- فيكشف حجم معاناة المواطن اللبناني، ومأساة
المبدع، وكيف يحارب على عدة مستويات لأجل إنجاز فيلم، وفي الوقت نفسه فإن
صناعة الفيلم هي نوع من المقاومة والتشبث بالحياة، فالفيلم يبث طاقة أمل
كبيرة وشعورا بالمقاومة وعدم الاستسلام، وهذه إحدى وأهم مزايا الفيلم.
“ياسوزو ماسومورا”.. تكريم في مئوية رجل السينما اليابانية
بقي أن نشير لأمرين؛ الأول أن الفيلم اللبناني هو الفيلم العربي الوحيد
بالمسابقة الرسمية، وهي المرة الأولى في تاريخ المهرجان التشيكي، بينما
عُرض باقي الأفلام العربية في قسم “آفاق”، ومنها نحو ثلاثة أفلام ذات مستوى
شديد التميز شاركت قطر في إنتاجها، منها: “إنشالله ولد” للأردني أمجد
الرشيد و”كذب أبيض” للمغربية أسماء المدير، و”حيوان” للمغربية الفرنسية
صوفيا علوي.
بالإضافة إلى فيلمين لاثنين من المخرجين غير العرب شاركت قطر في إنتاجهما،
وهما “فقط لو كان بإمكاني السبات” (If Only I Could Hibernate)،
و”سيرة ذاتية” (Autobiography).
والفيلمان أيضا من أجمل الأفلام سينمائيا وفكريا.
الأمر الثاني: هو الضربة الاستباقية التي قام بها مهرجان كارلوفي فاري، إذ
احتفى بأحد عشر فيلما من توقيع المخرج الياباني “ياسوزو ماسومورا”، فأفلامه
صارت تجتذب أتباعا جددا، وأجبرت النقاد والأكاديميين على إعادة تقييم
مكانته داخل الموجة اليابانية الجديدة، وذلك بعد تجاهله الطويل.
وقد أعد هذا البرنامجَ التكريمي الاستعادي المبرمجُ والناقد السينمائي
المصري جوزيف فهيم، وبذلك يكون المهرجان التشيكي قد تجاوز كل المهرجانات،
إذ احتفى مبكرا جدا بالمئوية الأولى لأحد أهم أيقونات السينما اليابانية،
وهذه الاختيارات الفيلمية -وفق رأي الناقد فهيم- تتميز بأنها تعكس تنوعه
الفريد وموهبته في التجريب، وانخراطه القوي مع المشهد السياسي في ذلك
اليوم، فقد كان موقفه المناهض للحرب في المقدمة، ومركزيا في عمله، وهو موقف
أيديولوجي اكتشف في عدد من عناوين الأفلام المختارة للعرض بالبرنامج.
كما وضع جوزيف فهيم يديه على مفاتيح عالم هذا المعلم الأيقونة الذي رسخ
مكانته داخل الموجة الجديدة اليابانية، فتناول أمورا مثل فساد النزعة
الاستهلاكية، وثقافات المشاهير، وأداة التمكين الجنسية عند المرأة، والإرث
الراسخ للإمبريالية والعسكرة اليابانية، وانهيار الهيكل التقليدي للأسرة.
“مثلما تُثبت أعمال ماسومورا أن السينما السائدة يمكن أن تكون جريئة
وسياسية، ولديها الوعي الكامل تماما مثل نظيرتها من سينما آرت هاوس، وفي
هذا تكسير للحواجز بين الفن والتجارة”. |