يمكن أن نصف فيلم
(ذلك
المكان المهجور
That Abandoned Place)
لمخرجته
وكاتبته السعودية جيجي حزيمة بأنه فيلم دراما نفسية
فلسفية
A philosophical psychological drama film
فهو يغوص بمشاهده خلال 75 دقيقة
في الحب والسعادة والمعاناة في أقسى حالاتها الشعورية
ومنذ المشهد الأول يضعنا الفيلم في أجواء شاحبة وبياض
الفراغ الموحي بالخواء المكاني والروحي، وامرأة يحيط
بها هذا البياض الضبابي، تتحرك برتابة وتقف أمام
المرآة، تتحسس وجهها، ربما لأن سنوات عمرها أخذت تنحو
تجاه الاربعينات وما يحمله العمر في تلك السنوات من
قلق التقدم في العمر والأسئلة الملحة: من أنا، وماذا
انجزت، وما هذه الحياة التي أعيشها؟
تجري مكالمة مع زوجها السابق (كصديق أو حبيب راحل) ويدور حديث
هاديء مشحون بالأسى، تبث لوعتها بعد محاولة انتحار فاشلة أو
غير جادة، فإرادة الحياة المتطلعة نحو الأفضل لا زالت تسيطر
على هذه السيدة الملتاعة.
جيجي حزيمة تنتهج في فيلمها هذا تقنيات واساليب "السينما
الشعرية"، التي يقول عنها المخرج الروسي اندريه تاركوفسكي
"إنها السينما التي تبتعد بجسارة في صورها عما هو مادي متماسك،
كما يتجلى في الحياة الواقعية"، والسينما الشعرية عادة تلد
رموزا، ومجازات ومظاهر أخرى، أي أشياء لا علاقة لها باللغة
الطبيعية في السينما. وهذا ما حققته حزيمة بإنسيابية وتمكن.
فثمة تصعيد للشعور وتعميقه، إذ يصبح المتفرج فعالا أكثر، ويصبح
مشاركا في اكتشاف الحياة بالاستجابة العاطفية المباشرة التي
يستمدها الفيلم من الأفكار التجريدية التي ربطتها في سردية
فيلمها، عبر بطلتها التي تروي عنها، ولهذا نجدها وقد تأنت في
ابتكار مجازاتها.
هذه المشاهد الافتتاحية البطيئة الفاترة والوجوم المخيم على
المكان وعلى ملامح وجه هذه السيدة الشابة، ربما تذكرنا بأفلام
إنجمار بيرجمان القاتمة والعميقة والبطيئة في آن، في ثلاثية
"صمت الرب"، الى حد ما، رغم أنه ليس هناك أية اقتباس منه أو
حتى تقارب فكري أو مضموني، لكنه توازي فلسفي نفسي وسرد سينمائي
متأني بميزانسين يعتني بالكادر واللقطة والأحجام، وكما كان
هناك، في ثلاثية الصمت، توق لإله صامت، هنا في "المكان
المهجور" توق من نوع أخر امراة في منتصف العمر(الممثلة جيني
هوتون في دور "ابريل") ترنو الى وجود وحياة حسية ارقى من تلك
التي عاشتها وكابدتها.. حياة تتحقق فيها معادلاتها الوجودية
كذات وروح وجسد.. هي بمعنى آخر تتوق الى حياة متكاملة تتقاسمها
مع شريكها المحب، "آرتم" (الممثل جيمس بارينتي).
حب مشتهى وحياة منشودة
بشكل أو بآخر الفيلم يروي قصة حب. حب مشتهى، منسجم ومظطرب
لروحين تحابا بدفق مشاعر جارفة. ثم بنهاية ومصير غير متوقع.
ربما فشل الحب في إلتقاء الروحين دفع بـ"إبريل" للتخلص من
حياتها السئيمة، ومن ثم أرادت أن تنتصر للحياة بالبحث عن حياة
مكتملة: حب، زواج. انسجام وكل شيء ممكن بعد ذلك.
ثمة سؤال يلوح في عقلية المشاهد: هل عدم الحب والزواج لإمرأة
أربعينية يسبب لها كل هذه الاضطرابات الوجدانة والوجودية؟ هذا
لا يتفهمه إلا امرأة كابدت ذات اللوعة. الوعي بالذات بحساسية
مفرطة لمن فاتهن قطار الزواج..هكذا الأمر ببساطة. لكن الفيلم
عبر هذه اللوعة بسرد عميق وأداء متمكن من البطلة عبرت عنها
بوجه جامد وجسد ملتهب.
نتماهى مع قصة امرأة كاتبة روائية تبحث عن معنى اعمق للحياة
والسعادة من خلال الزواج من حبيب حقيقي، امرأة وعت الى نفسها
بعد محاولة انتحار فاشلة حاولت فيها التخلص من حياتها ولم يكن
الموت هو المخلص لأنها أدركت أو ربما لم تدرك بأن إرادة وغريزة
الحياة أقوى لديها من طلب الموت.
إذن نحن أمام شخصية محورية واحدة، هي هذه المرأة، ولقاءات
عابرة قليلة مع شخصيات متناقضة (صديقتها، عشيقها، معلمتها،
زوجها السابق..) لتجري معهم حوارات وأحاديث عميقة ومبهمة وصعبة
الفبم احيانا، لا ندرك معانيها إلا بالتفكير الغائر في العمق
والتخيل لما ترمي إليه وهي تناقشهم وتبوح إليهم، في بناء سردي
متريث وبطيء ومدروس بحيث يكون مملاً لكي يدخلنا في جوف الملل
والضجر الذي تعيشه إبريل، وذلك ضمن مونتاج محترف يستشعر
التماهي مع الصورة ودلالاتها التعبيرية والرمزية..سرد متقشف
بعيداً عن المؤثرات الصوتية الموسيقية، برموز خاطفة وموحية،
وغموض طفيف يكتنف أسألتها المحيرة.
أسئلة وقلق الوحدة
(لو توقفت عن التساؤل لتوقفت عن الاكتشاف).. هكذا تهمس "إبريل"
لمعلمتها وصديقتها.. لكن خلجات دواخلها و عقلها ووجدانها يؤدي
بها الى الذهان والهلاوس المكبوتة.. شوشرة داخلية جامحة ومعذبة
تعصف بها.
مرة أخرى نجد أنفسنا أمام امراة، تعاني كثيرا من الوحدة
والخوف، حتى من رغباتها الجنسية الطبيعية الملحة والتي تتفجر
عند أي امراة طبيعية محرومة من اشباعها وتفتقدها وتبقى قابعة
في سرير مهجور من شيرك ومن عشيق كما تتمناه، فتمرض بحمى
رغباتها في كوابيس مضنية.
التأخر في الزواج لأي امرأة، يؤدي الى زعزعة ثقتها في نفسها؛
كما يحدث في بعض الحالات التي تركز فيها المرأة على الزواج فقط
في مرحلة من عمرها، وتهمل تعليمها وإثبات ذاتها وتعجز عن تكوين
شخصية ناجحة في المجتمع، لكن المرأة الناجحة لا تفقد الثقة في
نفسها... هكذا حاولت معلمة "إبريل" ان تشرح لها الفارق بأن
تكون ذاتاً ناجحة حتى لو لم يتحقق الزواج، أو طال انتظار البحث
عن شريك يتقاسم معها الحياة، بحيث تخلق لديها الوعي بالذات
المستقلة وتاثيرات الحياة، لا الوعي بالذات من منظور ضيق ناتج
عن ضغوط نفسية.
مثل هذا التكوين الانساني لأنثى واعية بكينونتها، من الصعب أن
ترضى بفتات الحياة، أو بالحياة الفاترة الخالية من القيم
والمعاني الشعورية والروحية والحسية.
هل الخلاص في الانتحار؟
قد نتسائل: ماذا يمنع شخصا يعاني من ازدواجية الشخصية أو من
مرض الفصام، او من القلق المزمن من أن توسوس له هلوساته
بالانتحار أو إيذاء نفسه أو غيره مثلما فعل "نورمان بيتس" في
فيلم "مريض نفسي"
(A psychopath)
أو الدكتور "جون ناش" في فيلم "عقل جميل"
(A Beautiful Mind)
تلك الحساسية الفنية التي نفذ بها الكاتبة
والمخرجة الفيلم، في كل مشهد من مشاهده، وفي كل لقطة، وفي كل
حوار، يحملها تصوير متقن وكادرات نابضة دائما. تشي بملكات
مخرجة متمكنة تعرف كيف توظف أدواتها الاخراجية، وقبل ذلك تعرف
كيف تسن ريشة قلمها لتكتب ما هو مبدع ومثير وراسخ وأيضاً حقيقي
كاضافة فنية حقيقية.
درس عملي في السيكودراما
قد يجول بالبال أن الفيلم يمثل درساً علاجياً تطبيقياً بحسب
منهج السيكودراماً، فمن خلال الحوارات بين البطلة والأشخاص في
محيطها، وأيضاً من خلال البوح والصوت الداخلي الذي نسمعه وكأنه
يمثل صوت البطلة، نقف على أنه من المعقول جداً أن يمثل الفيلم
حالة عملية يمكن أن توضع تحت المجهر ويتم تحليلها، لا سيما أن
في السيكودراما يتم استخدام أساليب لمحاولة اكتشاف العالم
الخاص بحالة وهذا لكى يتم مساعدة الشخص المأزوم للتعبير عن
مشاعره المكبوتة.
يبقى أن نفكر في أن المكان المهجور الذي قصدته الكاتبة
والمخرجة جيجي حزامة، ربما، أنه مكان مجازي تعني به الروح
المهجورة والجسد المهجور والحياة الخاوية.