ذات مرة في دمشق دخل بي الناقد الراحل حسّان أبو
غنيمة منزل الممثلة فتنة او الممثلة إغراء او بيتيهما معاً.
كنت في زيارة ولم أجد نفسي الا وأنا أتبعه الى بيت واحدة منهما.
ومن لا يعرف من هي فتنة ولا من هي إغراء، هما ممثلتان شقيقتان لعبتا في
السينما السورية أدوار
....
فتنية وإغراء (ببساطة).
أعتقد إن فتنة او إغراء سلّمت عليّ
ثم دخلت غرفة أخرى يتبعها الصديق الراحل، رحمه الله، وفجأة تعالى الصوت.
هي تعرض
شيئاً وهو يرفض.
أعتقد أنها كانت تريد أن تدفع له مالاً لقاء شيء كتبه وأعجبت به-
لكنه رفض وحسّان لا يستطيع أحد الشك بنزاهته.
وما لبث
أن خرجنا من عندها وكانت هذه أول وآخر مرّة أشاهد فيها فتنة (او هل كانت إغراء؟).
لكن «السنكري» الذي كان له دكّان في
بيروت أصغر من كابينة الطائرة أيامها كان معجباً
أيما إعجاب بفتنة وإغراء وكنت كلما زرته
-بداعي إنه قريب ولو بعيد لي-
يصيح به: «هلق راحوا من هون...
يا ليتك
سبقت بنص دقيقة».
وكان
دائماً يقصد فتنية وإغراء على أساس أنهما جاءتا من دمشق الى
بيروت وحرصتا على زيارته في ذلك الحيّز من الدكان الذي لا يكاد يكفي له
وحده.
كنت أتطلّع الى صورهما على جدار الدكّان وأدرك أن الصبي
المسكين إنما يعيش وهماً.
لكن الصبي لم يكن ناقداً ولا أدري ما حدث له بعد ذلك.
لكن هذا الراوي أصبح ناقداً نزيهاً آخر مثل حسّان أبو غنيمة والحمد لله
وعليه ديون كثيرة وإيراد
يرتفع ويهبط حسب الموسم ومثل مياه البحر حين تتمنى لو أنها تغرق السفينة
وتحوّل من عليها الى ولائم للأسماك.
لقد إكتشفت
-متأخّراً-
أن
التعويض المعنوي للنقص الناتج عن محدودية أجور النقّاد في
العالم العربي، لا يشتري سندويش فلافل.
طبعاً هو
مهم وكبير في حالات أخرى خصوصاً عندما تجلس ومجموعة كبيرة من الذين
يشاركونك حب القيمة على حب المادة-
لكننا في عالم إذا ما عطست تدفع ثمنها.
وبعض الصحف والمجلات تدفع لكتّاب يهود من نيويورك معروفين بولائهم لإسرائيل
أكثر ما تدفعه لكاتب سياسي عربي، وأضعاف أضعاف ما تدفعه لكاتب ثقافي.
لماذا؟
لأن الجهل متفشيّاً في الجماجم والعظام أصبحت أنفاقاً خاوية لا يمكن
الإعتماد عليها.
أما
القلوب فهي مولعة بأشياء أخرى منها الأبدية، والحس بالمسؤولية تجاه جيل
الغد من القرّاء متوقّف على ما إذا كان هذا الجيل سينفع حث شركات الإعلان
على الإعلان في الصحيفة.
أول ما بدأت أفكر في
هذه الطريقة، وكان ذلك قبل خمس سنوات، كنت أنتظر دوري لمقابلة نيكول كدمان-
ما غيرها.
الذي دخل جناحها في الفندق قبلي كان يابانياً والصحافية التي تنتظر دورها
بعدي كانت أميركية ستبيع المقابلة للنيويورك تايمز.
أما أنا فلن أبيع المقابلة لأني
أقبض أجراً واحداً بمقابلة مع كيدمان او من دونها.
وحتى لو عرضتها في المزاد العلني فإن أقصى ما تستطيع أن تأتي به من سعر لن
يتجاوز الـ 500 دولار.
أما سعر
مقابلة مع نجم او نجمة
في صحيفة يابانية فيتراوح ما بين
1500 و2500 دولار، وفي صحيفة من وزن نيويورك تايمز فقد يصل الى 5000 دولار.
لماذا هذا يا أصدقائي النقاد....
خصوصاً المتقاتلين على شاشات الإنترنت؟ لأننا مجموعة غير متآخية لم نكوّن رابطة ولا جمعية ولم نسع لحماية أنفسنا
من المتسرّبين الى هذه المهنة كما النمل الى الأوكار.
هذا السبب ليس وحيداً...
لديك الوضع النشري في العالم العربي الذي يقسّم الصحافيين الى قسمين: كتّاب
سياسة وهؤلاء دائماً «من عظام الرقبة» (اي لا يمكن الإستغناء عنهم ويتقاضون
أضعاف ما
يتقاضاه الناقد فهم او لم
يفهم) وكتّاب كل شيء آخر، وهؤلاء تشتري لهم الصحف عادة «طرّاحات» صالحة
للتزلّج لأنه في يوم من الأيام سيطلب من كل منهم التزلّج من داخل الى خارج
المبنى الذي يعمل فيه.
معظم النقاد الذين أعرفهم نزهاء وشرفاء ولا
يتقاضون لقاء ما يكتبون عنه.
ذهبت تلك
الأيام التي كان فيها ذلك «الموديل» سائداً على أي حال.
من
سيدفع لمن يريد أن يقبض؟ منتج الفيلم
التجاري
او موزّعه.
سينجح الفيلم، في إعتقاده على الأقل، وليس بحاجة الى أن يدفع قرشاً واحداً
لترويجه.
او منتج
فيلم جاد؟ تجده بحاجة الى القرش أكثر من الصحافي.
لكن هناك درجة مثالية من النزاهة وأخرى أقل.
ربما هناك
ناقداً لا يتقاضى فلوساً لقاء كلمته، لكنه يقايضها بتقرّب شديد لبعض
الواصلين في سلم السلطات لكي يضمن رقيّه المادي غير المباشر.
أقول ذلك
دون أن أقصد النيل من أحد...
لكنها
سيرة وانفتحت.
المؤكد أن الناقد (من يصلح تسميته بناقد)
إنسان لا يعرف الا أن يكون شريفاً لأن لا خيار لديه.
فهو لو كان يفهم في النقود لاشتغل شيئاً آخر عدا النقد.
سينماتك
في 22 سبتمبر 2007