»الصورة دايما
حلوة« في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة..
مايخص منها الأفلام..
أو مخرجيها.. والجمهور وبالتأكيد منظمي المهرجان الذين
يعملون بروح فدائية عالية تليق باسم مدينة المقاومة الباسلة .. »الكتيبة«
الفنية التي يرأسها »علي أبو شادي« تعمل في صمت، بعيدا عن أي ضجيج إعلامي..
ومهرجان الإسماعيلية هو المهرجان الوحيد للأفلام التسجيلية والقصيرة في
المنطقة
العربية والشرق الأوسط وأصبح ينافس بل ويتفوق علي مهرجانات أخري مثل »لايبزج«
و»كليرمون فيران« وهو تجمع ثقافي فني جاد وممتع يعيش فيه الجميع في حالة من
»حب
السينما«..
هذه السينما التي تحمل في طياتها رؤي كثيرة وليست بعيدة عن
هموم
البشر في كل مكان.. وتعبيرا صادقا عن واقعهم وترجمة لأحلامهم واستشرافا
لمستقبلهم.
وعلي مدي مايزيد علي العشر سنوات وأنا أتابع عن قرب هذا النشاط
الثقافي الهام الذي يعد أهم ما نجح فيه هو تكوين وتشكيل جمهور
جديد من الشباب
وأفراد الأسرة باتوا يحرصون علي متابعة هذه الأفلام التي كنا نطلق عليها من
شدة
تجاهلها بـ »اليتيمة«.. إن في دول العالم أجمع يقف الفيلم التسجيلي
والروائي
القصير جنبا إلي جنب بجوار الفيلم الروائي الطويل..
واليوم يجب أن نذكر أن
القنوات الفضائية أصبحت تمثل مخرجا لعرض هذه الأفلام التي كانت لاتشاهد إلا
في
المهرجانات.
في الافتتاح الذي عرض به الفيلم التسجيلي »ينابيع الشمس«
الذي أخرجه »جون فيني«
منذ أربعين عاما ويعتبر وثيقة تاريخية
جغرافية ثقافية »لنهر
النيل«، هذا الفيلم أو بمعني أدق هذه الوثيقة التي عرضها المهرجان من
قبل منذ عدة سنوات ستظل أجمل وأروع ما صور عن نهر النيل
واختياره في الافتتاح هذا
العام كان مواكبا لتكريم مصوره الراحل الكبير »حسن التلمساني«.
< < <
الأفلام الروائية والتسجيلية هي »كنوز«
حقيقية وثروة فنية كبيرة لواقع
الحياة والنفس البشرية.. وتسجيل لنبض واقع تاريخي وجغرافي،
الكم الهائل الذي
عرض في المهرجان يشبه
»وجبة غنية دسمة« بعضها يحمل جرعة »ألم وأخري تحاول
أن تفرح القلب«..
من بين الأفلام التي تثير الشجن »رحلة المكان«
فيلم
تسجيلي قصير لمخرجته
»ندي دوماني« وهي أيضا منتجته وتعمل في الأصل صحفية ويعد
هذا الفيلم هو أول تجاربها الإخراجية..
وفيه تقدم حنين واشتياق أربعة مثقفين
عراقيين غادروا وطنهم وإن لم »يغادرهم«
وبقي عالقا في القلب والعقل..
والذاكرة.. يحلمون بالعودة..
في أحاديثهم حنين لمتعة يومية لحياة في الوطن..
بعضهم حمل طعاما معه في الغربة والآخر حمل رائحة الياسمين التي اشتهر بها
العراق
فزرعها في حدائقه أو علي نوافذ منازله..
يعود ببصره وبذاكرته إلي أيام كانت
العراق تعيش في محافل ثقافية متعددة..
حتي من كان منهم ضد
»صدام« فإنه لم يكن
أبدا ليرضي بما حدث لوطنه ولصدام نفسه بأيدي الأمريكان..
إن العراق سيظل باقيا،
ببقاء أبنائه واستمرار روافده الإنسانية والثقافية..
وإن كانت سنوات الحرب
الطويلة أهلكت واستهلكت الناس وأصابتهم بأبشع الأمراض وهي حقيقة مؤسفة
يعاني منها
أطفال وشباب العراق..
لكن ذلك لايعني أبدا أن الجسد المنهك سوف يفقد قدراته علي
الاستمرار والإبداع.
لقد شدني هذا الفيلم إلي ذكري أليمة مازالت عالقة في
الذهن محفورة في الوجدان لم تضع مرارتها رغم مرور سنوات..
وهي زيارة للعراق في
أول أو ثاني طائرة بعد فك الحصار مع مجموعة من الفنانين
والصحفيين المصريين.
ما
رأيته وقتها من أحوال الأطفال في المستشفيات أمضيت شهورا طويلة لا أستطيع
النوم
بسببها.. وعندما زرنا أحد الملاجئ التي قامت أمريكا بضربها ثم الاعتذار
عنها
وجدنا وشاهدنا في السقف أشلاءأطفال ونساء ورجال عجائز بلغ
عددهم 400 شخص..
كانوا يحتمون في هذا الملجأ من القنابل، إن الحنين والاشتياق لوطن..
صورته
مطبوعة في القلب والعقل ولاتغيب عن العين..
وهو مانجحت
»ندي دوماني« في أن
تنقله لنا بكل صدق.. وهذا هو أهم مايميز الفيلم التسجيلي سواء كان طويلا أم
قصيرا.
من »العراق« أرض الفرات .. بلد الرافدين إلي غزة..
الصورة لم
تكن بها فروق كثيرة..
حيث تطابق الواقع في الكثير من تفاصيله الأليمة المرة..
ربما هذا هو ماجعل من هذه الفتاة النحيلة ضئيلة الجسد التي عندما تراها
لاتملك إلا
احتضانها واعتبارها بمثابة الابنة لك..
هي »أسماء
بسيسو« التي ولدت بالأردن
والتقيت بها للمرة الأولي في مهرجان وهران بالجزائر منذ عدة أشهر.
أسماء قدمت
فيلمها »أنا غزة« في فيلم تسجيلي مدته اثنتان وأربعون دقيقة روت فيها مآسي
كثيرة لم نشاهدها في نشرات الأخبار
رغم وحشية الصورة ودمويتها بها..
لكن أسماء
كانت تفتش في فيلمها عن الجراح النفسية للأطفال والأرامل
والشيوخ العجائز نساء
ورجالا.. عن البشر ومعاناتهم وكيف أن استمرار الحياة بالنسبة لهم يتطلب شجاعة
متناهية لاتقل أبدا عن شجاعة من يحمل السلاح ويواجه العدو وجها
لوجه..
لأنهم
يواجهون آثار التدمير ورؤية الموت ومواجهته في كل لحظة وهم عزل لايملكون
إلا الحق
في الحياة والتمسك بوطن تحاول إسرائيل بشتي الطرق أن تضيع معالمه.. إن »البنية التحتية«
التي تدمرها إسرائيل كي تجعل الحياة مستحيلة في القطاع تزيد من
رغبة أبنائه في استمرارية المقاومة من أجل الحياة والحفاظ علي
كرامة وطن.
إن
أفلام مهرجان الإسماعيلية كانت بمثابة
»غسيل بصري« للعين.. وزاد للعقل يثريه
ويظل عالقا بالذاكرة.
آخر ساعة المصرية في
28/10/2009 |