«التحرير»
تنشر مذكرات تحية كاريوكا..
«الحلقة الثالثة عشرة»
أعدها للنشر: محمد توفيق
·
كاريوكا: سمعتُ راقصتين تتفقان على ضربى.. فضربت إحداهما بحذاء
كعبه معدنى!
·
أدركت تحية أنها خُلقت لكى تكون راقصة.. قالت لها سعاد محاسن هذا
وهى لا تزال فى الرابعة من عمرها.. وقالت لها بديعة مصابنى هذا وهى
تخطو فوق خشبة المسرح خطوتها الأولى
·
كانت بديعة تعرف كل شىء عن تحية وكانت تعلم أنها أبدا لا تحنث بهذا
القَسم.. فصدقت أنها «تعض» البنت!
العثور على مذكرات كاريوكا أشبه بالحصول على كنز، فمذكرات تحية
كاريوكا لا تعكس فقط قصة حياة أشهر راقصة عرفتها مصر، لكنها تعكس
صورة لحال البسطاء والحكومات فى مصر طوال ما يزيد على نصف قرن من
الزمن.
ولدت قبل 14 يومًا فقط من قيام ثورة 1919، وعاشت أجواء حرب 1948
ووقفت إلى جوار الفدائيين وساعدت فى نقل الأسلحة إليهم، وحين رأت
أن ثورة يوليو انحرفت عن مسارها انتقدتها، ودفعت الثمن، ودخلت
السجن.
لكن الأجمل والأهم والأمتع هو أن تقرأ هذه المذكرات بقلم العم صالح
مرسى الأديب الذى جعل من الجاسوسية أدبًا وفنًا.
فتحية إلى «كاريوكا» بنت البلد المصرية الصميمة، الخالصة،
المُخلصة، الشُجاعة، الجدعة، وتحية إلى المبدع الرائع الراحل صالح
مرسى، فكلاهما لم يرحل عن القلب والذاكرة رغم رحيلهما عن الدنيا.
فى تلك الليلة لم تنم تحية، ظلت ساهرةً حتى الصباح، ظلت مؤرقة، وقد
انهال على رأسها الماضى والحاضر فى ركام من التهاويل بلا نهاية..
وإذا كان القدر قد ارتضى أن يختطف أباها وهى طفلة، وأن يرزقها بأخ
له مثل قلب أحمد النيدانى، وإذا كان القدر قد ارتضى أن يفرق بينها
وبين فاطمة الزهراء، وإذا كان ابتلاها بمثل هذا الحاضر الذى تتحطم
فيه الآمال قبل أن تولد فلماذا ولمن تعيش إذن وماذا هى فاعلة؟!
فى تلك الليلة، وقبل أن يطلع الفجر، كانت تحية قد قررت أن تأخذ
موقفًا من هذا كله، كان عليها أن تحمى نفسها، مهما كانت النتائج.
الحقيقة الأولى التى أدركتها بالغريزة، دون علم أو تفلسف، أنها
خلقت لكى تكون راقصة.. قالت لها سعاد محاسن هذا وهى لا تزال فى
الرابعة من عمرها، وقالت لها بديعة مصابنى هذا وهى تخطو فوق خشبة
المسرح خطوتها الأولى عندما كان «آيدى» يدربها على رقصات المجاميع،
وقال لها الجمهور هذا عندما صعدت إلى خشبة المسرح لترقص عشر دقائق،
فإذا به يستعيد رقصتها لنصف ساعة كاملة.. وأخيرًا قال لها جسدها
وساقاها ووجدانها هذا، وهى تسبح فوق خشبة المسرح على أنغام
الموسيقى.
إنها راقصة.. إنها راقصة!
ولكى تصبح راقصة لا بد لها من مكان، ولكى يصبح لها مكان عليها أن
تحارب من أجله، أن تنتزعه بأظافرها، وعليها، منذ اليوم، أن لا تدع
مخلوقًا يقف فى طريقها، حتى ولو كان هذا المخلوق هو بديعة مصابنى
نفسها!
>>
كان اليوم التالى هو يوم ثلاثاء.. وكانت بديعة تقدم فى هذا اليوم
«حفل ماتينيه» للسيدات فقط، وطوال اليوم حاولت جينا وتيتى وجمالات
أن يرفهن عن تحية دون جدوى، ولم تفلح معها ضحكات البنات طوال
اليوم، وعندما حان وقت الماتينيه، صعدت تحية إلى المسرح لتؤدى تلك
الرقصات التى كانت تتقنها بالتدريب والمران، كانت ترتدى حذاء له
كعب من الألمنيوم «يطرقع» كلما خطت خطوة، وكانت تؤدى رقصة اشتهرت
فى ذلك الزمان شهرة واسعة هى رقصة «الكلاكيت»، وعندما انتهى
الماتينيه، أسرعت البنات فى استبدال ملابسهن ليقمن بجولة الصعلكة
التى تعودن عليها فى تلك الأيام حتى يحين موعد السواريه.. كان
الوقت صيفًا، وكانت بديعة تقدم عروضها فى كازينو الكوبرى، مكان
فندق شيراتون الآن، وكان الجو شديد الحرارة، ولم تكن عند تحية رغبة
فى الخروج أو الصعلكة.
«أنا
تعبانة ومش عاوزه أنزل البلد!»
لم تكن تريد أن تخرج، أو تحدث أحدًا، ونظرت البنات إلى بعضهن البعض
فى صمت، ثم قررن أن يتركنها لحالها، وسرعان ما خلت الكواليس من
الجميع وتحية جالسة بملابس الرقص التى لم تغيرها فى مكانها من
الغرفة لا تبرحه، ثم وصلتها أصوات ضاحكة ساخرة تقترب من الغرفة.
كانت الأصوات لراقصتين فى الغرفة هما «سارة» و«كريمة».. ولقد كانت
هاتان الراقصتان من أنصار حورية محمد، وكانتا فى ذلك الوقت تضحكان
لما حدث، ولم تكن إحداهما تعلم أن تحية على بعد خطوات منهما، وقد
شاهدتا الشلة تغادر الكازينو منذ لحظات، وكانت كريمة تقول:
«تيجى
نرنها علقة!»
ضحكت سارة، وهى تقول:
«بس
لازم نعملها والكازينو فاضى!»
«ولو
حد سألنا نقول ماحصلش»
وانطلقت الفتاتان فى الضحك!
ولا أحد يعرف إن كانت سارة وكريمة كانتا تعنيان حقا ما تقولانه،
فربما كان الأمر كله هذرًا أو نوعًا من الهذر، غير أن دماء تحية
كانت تغلى، نهضت من مكانها، وقد اشتد بها الغضب، ومضت سارة فى
طريقها، ودخلت كريمة إلى الغرفة المجاورة لتستبدل ملابسها.. وتحركت
تحية لتغادر غرفتها، وقد بيّتت فى نفسها أمرًا!
وكانت كريمة مثل جانيت حبيب، من ذلك النوع الأبيض البشرة إلى حد
لافت للنظر، وكانت جالسة أمام المرآة تصفف شعرها عندما التفتت نحو
الباب لترى تحية واقفة، والغضب يتطاير من عينيها كالشرر!
دون كلمة.. خطت تحية إلى الغرفة، وأغلقت الباب خلفها، ودون كلمة،
خلعت الحذاء ذا الكعب المعدنى، وتقدمت من كريمة حتى أصبحت على بعد
خطوة منها، وكانت كريمة مذعورة، واشتد بها الذعر عندما قالت تحية:
بقى أنتِ عاوزة ترنينى علقة؟
وقبل أن تفيق كريمة، كان الكعب المعدنى ينهال على جسد كريمة فى
ضربات متلاحقة، ولقد كانت الفتاة، مثل تحية، لا تزال ترتدى ملابس
الكلاكيت العارية الظهر، وسرعان ما تعالى صراخ كريمة، ووصل صراخها
إلى الذين بقوا من الناس فى الكواليس، وتجمع العمال واقتحموا
الغرفة، وراحوا يفرقون بين الفتاتين، ووصل الصراخ إلى غرفة بديعة
فجاءت مهرولة، لكنها عندما وصلت، كانت كريمة قد تمالكت نفسها مع
وجود الناس، وبدأت تهاجم تحية وتجذب شعرها الذى كان قد استطال
كثيرًا، وما أن رأت بديعة هذا المشهد، حتى غلى الدم فى عروقها،
وظنت أن كريمة هى المعتدية، فانهالت عليها صفعًا هى الأخرى!
>>
فى هذا اليوم ولدت تحية محمد من جديد.
فى هذا اليوم أيقنت أن الإنسان إن لم يدافع عن نفسه فلن يدافع عنه
أحد.
عادت إلى غرفتها، وقد بردت نارها، واستكانت نفسها تمامًا.. جلست
أمام المرآة، وهى تشعر بالرضا عن نفسها، وبالرغبة فى مغادرة
الكازينو والصعلكة مع البنات فى الشارع.. كانت الأصوات تأتيها من
الخارج واضحة، عندما سمعت قدمى بديعة تقتربان من الغرفة لم تهتم
ولم تهتز، وعندما وقفت الأستاذة بالباب كان فى عينيها تساؤل:
«أنت
عضيتى كريمة يا تحية؟!»
التفتت تحية نحو بديعة، وقد أيقنت أن الكعب المعدنى قد ترك آثارًا
حمراء على جسد كريمة.
«أبدا..
هى اللى كانت عاوزه تضربنى»!
كان الموقف بالنسبة لبديعة محيرًا للغاية، وكانت البقع الحمراء
التى انتشرت على لحمها شديدة الوضوح، وإذا كانت بديعة تميل إلى
تصديق تحية، إلا أنها، زيادة فى التأكد، طلبت منها أن تقسم على ذلك!
«ورحمة
أبويا ما عضتها!»
كانت بديعة تعرف كل شىء عن تحية، وكانت تعلم أنها، أبدًا، لا تحنث
بهذا القسم.. فصدقتها!
ومضى الوقت سريعًا، وعادت البنات من جولة الصعلكة، وانتشر الخبر فى
الغرفة، وإذا كانت تحية تستطيع أن تفعل هذا، وإذا كانت بمثل هذه
القوة وهذا الاستبياع، فمن الأفضل أن يبتعد عنها ويتجنبها هؤلاء
الذين تعودوا أن «يلقحوا» عليها الكلمات!
ولقد كانت بديعة تفكر فى غرفتها، فى سبب تلك البقع الحمراء التى
تملأ جسد كريمة.. كانت واثقة أن تحية لم تكذب.
ولم يمض نصف ساعة حتى عرفت.. كان على تحية، قبل رفع الستار عن
السواريه، أن تصعد سلمًا يؤدى إلى المسرح، وكان السلم يجاور نافذة
فى غرفة بديعة.. وبينما تحية تصعد هذا السلم، كان صوت الكعب
المعدنى «يطرقع» بوضوح، ويصل إلى أذنى المدام، فتخمن الأمر، ثم
تعرف ما حدث، ثم تصبح موقنة منه، فتندفع إلى النافذة التى تطل على
السلم، وتصيح فى تحية:
«أنا
عرفت يا كلبة إيه اللى عمل البقع الحمرا دى»!
ولم تنطق تحية بكلمة.. فصاحت بديعة فى غضب:
«غرامة
خمسين قرش لكل واحدة منكم!»
وتوقفت تحية فوق الدرج صامتة، كانت تعلم أنها لو تراجعت مرة، فلن
تستطيع أن ترفع رأسها أبدًا، وكانت تعلم أنها شقت لنفسها طريقًا
عليها أن تسير فيه إلى النهاية.. قالت:
«مش
حاشتغل، إذا خصمتى مليم واحد مش شغالة»!
كانت هذه هى المرة الثانية التى تواجه فيها بديعة، وعندما راحت
المدام تبرطم وتسب وتلعن وتهدر، أيقنت تحية أنها تراجعت عن قرارها،
فصعدت إلى المسرح لتؤدى رقصاتها، وكانت تبتسم!
وفى تلك الليلة، أيقن كل من فى المسرح، أن الاقتراب من هذه البنت
معناه أنها سوف تأخذ بحقها كاملًا، بالذراع لا اللسان فقط.. فتجنب
الجميع الاحتكاك بها، وحملوا لها ذلك الاحترام الغامض الذى التصق
بشخصيتها وذاتها حتى اليوم، خوفًا منها فى البداية، ومحبة فيها حتى
آخر العمر!
رغم كل شىء، عادت تحية إلى مرحها، وانغمست فى حياتها مع تيتى
اليونانية، وجينا الإيطالية وجمالات بنت البلد الشقراء ذات العيون
الزرقاء، وكانت قد تركت بديعة، وعاشت معهن فى أحد البنسيونات فى
شارع عماد الدين.
ورغم الثورات المتتالية التى كانت تصبها المدام على دماغ العيال
والبنات لوقوع بعضهم البعض فى الحب، فإن العيال لم يكفوا عن الحب
أبدًا، وكانت ببا إبراهيم غارقة فى تلك الأيام لشوشتها فى حب فريد
الأطرش.. وبينما كانت شلة البنات تدفع كل يوم ثلاثاء قرشين للشخص
الواحد، نظير أكلة العدس بالمواسير، كانت ببا إبراهيم تجلب لفريد
كل أنواع الشقانق والمقانق، وكان فريد فى أيام الماتينيه يأكل
دجاجًا وحمامًا وأرزًا ولحمًا مشويًّا، وذات يوم وقعت عينا تحية
على لفة الطعام التى جاءت بها ببا إبراهيم، وعندما فتحتها، وجدت
بها حمامًا، ولم تستطع المقاومة، فسرعان ما أبلغت الشلة، وهجمن على
الحمام فأكلنه كله، ووضعن العظام وسط اللفافة، وتركنها حيث كانت!
وعندما عادت ببا إبراهيم وفريد من الخارج، وعندما اكتشفا ما حدث،
وطالعتهما أنقاض الحمام الباقية، ثارت ببا ثورة عارمة، لكن فريد لم
يفتح فمه، فلقد كان اشتراكه معها فى الثورة دليلًا على حب لا يريد
للمدام أن تعرفه.. وعندما علمت بديعة بالأمر أيقنت من الذى فعل
هذا، ولم يكن ممكنًا أن يفعل هذا سوى بنت الأبالسة مع شلتها..
وحكمت بديعة على كل منهن بغرامة عشرة قروش، لم تدفع إحداهن منها
مليمًا! |