"إنقاذ
السيد بانكس": ما تفسده الحياة.. تصلحه السينما!
رامي عبد الرازق
في عام 1964 قدمت شركة افلام والت ديزني فيلم"ماري بوبنز"من إخراج
الأنجليزي روبرت ستيفنسون والمأخوذ عن سلسلة روايات الكاتبة
الانجليزية من اصل استرالي ب.ل ترايفيرز وذلك عقب عشرين عاما من
المفاوضات بين والت ديزني والكاتبة الصارمة التي كانت ترفض تحويل
أي من رواياتها إلى فيلم من إنتاج ديزني.
قام ببطولة الفيلم الممثل الأمريكي ديك فان ديكي وقام بدور السيد
بانكس رب الأسرة ديفيد توملينسون وهي الأسرة المكونة من طفلين
اشقياء تأتي المربية الخارقة ماري بوبنز لاعادة تأهيلهم فتدخل في
صراع طريف لتأهيل الأسرة كلهابعد أن حطت عليهم من نافذة المطبخ
طائرة بمظلتها الشهيرة حيث قدمت الشخصية الممثلة جولي اندروز-بطلة
الفيلم الأيقوني صوت الموسيقى 65- والتي حازت بعدها على جائزة
الأوسكار احسن ممثلة عن ادائها لشخصية ماري بوبنز.
أرض الخيال
في الأفيش الخاص بفيلم انقاذ السيد بانكس نرى انعكاس كل من توم
هانكس/ والت ديزني وإيما توماس/ ميس ترايفيز في هيئة ميكي ماوس
بخطوته الشقية وماري بوبنز بمظلتها الشهيرة فالاول هو مبتكر احب
فئران العالم لأطفال القرن العشرين والثانية مبتكرة احد اشهر
شخصيات قصص الأطفال في العالم الغربي.
يكثف إذن الأفيش فكرة انعكاس الواقع على ارض الخيال، ويبرز تيمة
استخلاص الفن من عبرات الحياة وقصور المعاش المحدود في مقابل لا
نهائية الدرامي.
هذا هو المحك الفكري والوجداني الأساسي لفيلم المخرج جون لي هانكوك
والذي يمكن اعتبار السيناريو الذي كتبته كل من كيلي مارسيل وسو
سميث دراسة عملية لفن كتابة الفيلم كما يجب أن تكون.
يبدأ الفيلم برياح الشرق التي تهب بصحبة ابيات شعرية رقيقة يلقيها
تريفيرز جوف والد الفتاة الصغيرة التي سوف تصبح فيما بعد الكاتبة
الشهيرة ب.ل ترايفيرز حاملة إسمه وليس اسمها الأصلي، وفي المشهد
التالي مباشرة نراها وهي تجلس في بيتها الانجليزي العتيق بنفس وضع
الطفلة التي كانت قبل خمسين عاما وكأن تلك الطفلة لا تزال تقبع في
دخلها خاصة والكادر مصور من الزاوية العلوية/ زواية الريح القادمة
من السماء.
لن تذهب هذه الطفلة بعيدا بل ستصبح عبر ذاكرة ميس ترايفيرز وبأسلوب
التداعي الحر جزءا اساسيا من البدن السردي للفيلم، ليس فقط للأحداث
ولكن للفكرة الشعورية ككل، ومن هنا يصبح المونتاج الذي يعتمد على
القطع فقط- دون المزج أو الاظلام- بين عملية مراجعة الكاتبة لنص
السيناريو المأخوذ عن قصص شخصيتها الأشهر وبين طفولتها الغرائبية
مع اب مديون سكير فاشل لكنه خيالي وجامح ومرهف من الدرجة الاولى،
يصبح المونتاج القائم على القطع والانتقال المباشر والمتوالي من
زمن لزمن دون مؤثرات أو فواصل بصرية من أي نوع هو أدق وانسب شكل
سردي للسيناريو فنحن أمام حكاية تعيش في انفاس صاحبتها.. انها لا
تتذكرها بل تحياها كل يوم وكل ساعة. بعضها يأتي نتيجة مواقف آنية
مباشرة مثل عملية تأليف اغنية اثناء كتابة سيناريو فيلم ماري
بوبنز، وبعضها الآخر يأتي ليلا عندما تضع رأسها وحيدة على الوسادة.
الأب والابنة والروح القدس
مستر بانكس هو الأب في روايات ماري بوبنز الشهيرة وعنوان الفيلم
"انقاذ السيد بانكس" يجعلنا نتساءل هل مستر بانكس فقط كما جاء على
لسان والت ديزني عندما اكتشف حقيقة شعور الكاتبة تجاه ابيها الذي
تمثله شخصيات بانكس في روايتها (لقد جاءت المربية ماري لانقاذ
السيد بانكس وليس لإنقاذ الاطفال).
في الحقيقة فان البناء الدرامي للسيناريو من خلال طبيعة العلاقات
التي تنشأ بين ميس ترايفيز وبين مجموعة العمل الخاصة بشركة ديزني
بداية من السائق وصولا إلى والت ديزني نفسه، هذا البناء يجعلنا
امام اكثر من مستر بانكس بل إنه يجعلنا نتجاوز الدلالة المباشرة
للشخصية في مستواها المادي والمعنوي إلى مستوى فلسفي أعمق واكثر
اتساعا.
يفصح السيناريو تدريجيا من خلال احتكاك الكاتبة المباشر بمجموعة
العمل ورغم طباعها القاسية والحادة ظاهريا يفصح لها هي تحديدا ونحن
من بعدها كمتلقين أن علاقتها بأبيها التي افرزت تلك الروايات
الشهيرة لم تكن علاقة استثنائية او خارقة وجدانيا كما كانت تتصور
وكما كانت تدافع عنها باستماتة وعنف متمثلة في رفضها تحويل
الروايات إلى افلام تبتذل وقار الذكرى.
تدرك الكاتبة من خلال لقائها مع والت في ديزني لاند أن ديزني نفسه
يصر على تحويل الروايات لأنه ذات يوم قبل عشرين عاما اعطى وعدا
لابنته الصغيرة بأن تشاهد ماري بوبنز على الشاشة عندما رأها تقرأ
الكتاب لأول مرة وسمعها تضحك وهو لا يريد ان يخذل ابنته التي لم
تعد صغيرة أو يحنث بوعده.
أما السائق رالف الذي قدم دوره بسلاسة وعمق طريفين الممثل باول
جاماتي، فإن الكاتبة تكتشف انه يمنحها ملاحظاته اليومية حول شروق
الشمس في الصباح ليس لتجاذب اطراف الحديث او ابداء الود فقط ولكن
لأن هذا معناه ان ابنته المريضة سوف تخرج من البيت وتجلس في اشعتها
الدافئة حيث لا يتسنى لها ذلك إلا في الأيام الصحوة.
هكذا يمكن ان نكتشف تدريجيا حجم تأثير الحالة الوجدانية التي وجدت
فيها الكاتبة نفسها عند الشروع في مراجعة السيناريو المأخوذ عن
الرواية، والتي تجعلها خطوة خطوة، تتخلى عن جمودها وحدتها وتبدأ في
الاستجابة للعملية الإبداعية التي تخلق من قصصها كائن جديد هو
الفيلم.
انها الروح القدس للفن التي تشرع في الحلول على وجدان ميس ترايفيز
حتى انها تستجيب في احد الأغنيات وتبدأ في الرقص والغناء مع مجموعة
العمل.
البنك والطائرة الورقية
مشهد الرقص والغناء الذي تنفعل فيه الكاتبة وتتخلى لأول مرة عن
وقارها وحدتها يأتي كذروة مرحلية بعد الكثير من المقاومة الحادة
التي تصل إلى حد رمي اوراق السيناريو في الهواء من النافذة في لحظة
يتداخل فيها الماضي مع الحاضر اثناء تأليف اغنية عن مستر بانكس/
الأب تعيد إلى الكاتبة ذكرى اليوم الذي سقط فيه ابوها مغشيا عليه
كخرقة بالية امام الناس من جراء المرض والسكر.
دون ان نعقد مقارنة بين الأغنتين لا يمكن ان نفهم طبيعة التحول
الذي حدث للكاتبة والذي يعتبر الأداة العضوية للتعبير عن الفرضية
التي طرحناها في البداية حول روح الفن التي تصلح خراب الحياة.
الأغنية الاولى كانت تتحدث عن مستر بانكس كمدير بنك مثل الأب تماما
لكنه يبدو من خلالها محتالا منافقا يتظاهر بالتقى الاقتصادي بينما
هو يريد الحصول على كل قرش في جيب من امامه وأولهم ابنته نفسها.
هذه الاغنية هي التي ترفضها الكاتبة تماما لأنها تذكرها بتلك
اللحظة المآساوية التي تعرضت فيها وأسرتها بسبب الأب إلى مهانة
كبيرة يوم أن صعد مخمورا يخطب في اهل البلدة يوم الملاهي ثم سقط
مغشيا عليه وكانت بداية النهاية بالنسبة له.
اما الأغنية الثانية (اغنية الطائرة الورقية) والتي دفعتها للرقص
والغناء فهي التي تعيد فيها مجموعة العمل على الرواية تأسيس صورة
الأب بالشكل الذي يشعر الكاتبة ان هكذا يجب ان تكون ذكراه أو مثلما
تشعر هي تجاهه رغم كل الألم والعذاب الذي تسبب لها فيه.
هذه الأغنية تصبح تميمة التصالح ما بين كل الأباء بانكس في الفيلم
(ترايفيرز الأب وديزني والسائق) وبين كل البنات التي تمثلهن الفتاة
الصغيرة التي كانت تنتظر معجزة تنقذ الأب وحين جاءت المربية مع ريح
الشرق كانت صورة الأب قد بهتت تماما وصار رحيله امرا مفروغا منه.
النتيجة تسبق السبب
يتبع السيناريو في الفيلم تلك الإشارة التي سبق وبلورها المخرج
الفرنسي روبير بريسون في كتابة ملاحظات على السينما توغرافيا قائلا
(أجعل النتيجة تسبق السبب دائما) فهذا اكثر ما يحفز ذهن المتلقي
ويشده من أذنيه الشعوريتين، عندما تصل الكاتبة إلى جناحها الفندقي
في أمريكا قادمة من لندن نجدها تعلن عن استيائها من الاستقبال
الرقيق والطفولي جدا الذي قدمه لها ديزني بانتقاء حبات الكمثرى من
سلة الفواكهة والقائها من النافذة ثم الامساك بدمية ميكي الضخمة
ووضعها كالتلميذ المعاقب ووجهها للحائط.
فيما بعد وخلال مشاهد متفرقة سوف يعيد السيناريو طرح الأسباب التي
ترتبت عليها هذا النتائج السابقة عليها فالفتاة الصغيرة التي هي
الكاتبة وصلها نبأ وفاة والدها بينما كانت تحمل في يدها حبات من
الكمثري له وبالتالي اصبحت الكمثرى مثل اشياء كثيرة تخص سيرة الاب
وذكراه تعيد إليها ألم اللحظة الأولى التي اصطك فيها الخبر بوعيها
اليافع.
وفي مشهد اخر سوف نجدها وقد جفاها النوم تهبط من الفراش دون ان نرى
سوى اقدامها ثم تعود للفراش مرة أخرى ويتسع الكادر لنرى مجسم ميكي
وقد احضتنه في محاولة لمصالحة الطفلة التي بداخلها من أجل ان تنعم
ببعض النوم والراحة من تداعي الذكريات.
هذا على مستوى المشاهد المتفرقة وبالعودة إلى بداية السيناريو فسوف
نجد أن نقطة الهجوم الأساسية على المتلقي هي حالة الرفض المطلق
والتام التي تواجه بها الكاتبة ديزني ومجموعته دون ان نعرف لها
سببا واضحا فهي نتيجة او قرار مطلق التنفيذ ولكن تدريجيا تتكشف
ملامح الأسباب التي دفعتها لذلك.
بل أن السيناريو يقف بنا عند التفاصيل الحياتية التي يصنع منها
الفن فيما بعد مادته الخالدة حيث نتعرف على اصل شخصية المربية ماري
بوبنز في شخص المربية الصارمة التي تأتي إلى منزل اسرة الكاتبة كي
تعتني بالاطفال والأب في مرضه قادمه مع ريح الشرق التي يشير لها
الأب منذ البداية في الأبيات الشعرية التي يلقيها على ابنته وتظل
راسخة في وجدانها.
لا يفوت السيناريو ان يجعل من تفصيله ريح الشرق رابط عضوي بين
بداية السيناريو على لسان الأب في شكل نبؤة شعرية ووسطه على لسان
الأبنة الصغيرة وكأنها تريد للأب ان يتمسك بالامل في الحياة فريح
الشرق هبت وحملت معها المربية الممرضة ونهاية السيناريو ونحن نرى
السهم الحديدي للاتجاهات يحدد ريح الشرق مرة أخرى وكأن نبؤة الأب
تحققت بشكل ما عندما اكتملت صناعة الفيلم عن اسرة السيد بانكس
والمربية التي انقذتهم ماري بوبنز.
ولا شك أن الخطة البصرية للفيلم تأثرت كثيرا بأسلوب النتيجة والسبب
الذي اتبعه السيناريو حتى على مستوى اللقطات المتتابعة فكثيرا ما
نرى نتيجة ما في شكل ردة فعل على وجه شخصية ثم تتبعها اللقطة
التالية لنرى سبب هذه الردة وهو ما يمنح الفيلم ايقاع رشيق وشيق
يضاف إلى حالة تضفير الزمن التي سبق واشرنا إليها فيما يخص الماضي
وحلوله في الحاضر مونتاجيا بأستخدام القطع المباشر دون غيره من
تقنيات المونتاج.
الذروة الأساسية بالنسبة للفيلم شكلا ومضمونا هي تلك اللحظة التي
تجلس فيها الكاتبة كي تشاهد فيلم "ماري بوبنز" في عرضه الأول وفي
ذهنها تتداعى كل تفاصيل سنوات حياتها القليلة مع ابيها بكل ما
حملته من مآسي واخفاقات وتتقاطع اللقطات ما بين فيلم "ماري بوبنز"
على الشاشة من تمثيل وغناء ورقص وبين دموع الكاتبة وبين المحطات
المآساوية من حياتها وهي طفلة صغيرة وكأن السينما او الفيلم أو
الفن في مجمله يمكنه أن يصلح ما فسد من تفاصيل الحياة ويضمد الجراح
ويعيد انتاج الذكريات بشكل افضل مما حدث في الواقع للمرة الأولى.
"إنقاذ السيد بانكس" فيلم يتجاوز في دلالاته مجرد رواية قصة لم ترو
من قبل كما يعلن عنها تريلر الفيلم الدعائي، بل هو توظيف ساحر
ومتقن لقصة قدماها في الواقع ورأسها في الخيال للوصول إلى مضمون
اكثر افقا ورحابة، انه التقاط ذكي ومميز لتيمة هائلة التأثير
أفرزها موقف كان من الممكن أن يظل مجرد سطور في الكتيب الصحفي
لفيلم "ماري بوبنز" ولكن "فقه التقاط الشئ" بتعبير نقاد الأدب خلق
من تلك الواقعة كائنا أخر ليس مجرد فيلما عن فيلم "movies
about movies"
ولكنه عمل مكتمل وخاص لديه من خواص الاستغراق والتأمل ما يدفعنا
لاعادة مشاهدته مرة بعد أخرى لاكتشاف المزيد. |