الثورة الكردية الصامتة في (روج آفا) بعيون أسبانية
عدنان حسين أحمد
ضمن قائمة الأفلام الوثائقية التي عرضها مهرجان لندن للفيلم الكردي
في دورته الثامنة التي لما تزل مستمرة بشكل من الأشكال حيث يعرض
المهرجان شهرياً بعض الأفلام بالتعاون مع بعض الجامعات البريطانية
وبعض المؤسسات الكردية الفاعلة في المشهد الثقافي والسينمائي على
وجه التحديد. وفي هذا المقال سنقدّم قراءة موسعة لفيلم "الثورة
الصامتة" للمُخرجَين الإسبانيَين ديفيد مسوغير وأوريول غراسيا الذي
عُرض عرضاً عالمياً أولاً في المهرجان المذكور الذي يرأسه ويفعِّل
أنشطته المتنوعة الأستاذ عطا مفتي.
لم تحظَ الثورة السورية باهتمام كبير من قِبل المخرجين السوريين أو
العرب ولم تأخذ حقها من الرصد والتوثيق بسبب قساوة الحرب ووحشيتها
وخطورتها على طاقم العمل السينمائي برمته سواء أكان سورياً أم
عربياً أم أوروبياً. لذلك لجأ بعض المخرجين الأجانب ومنهم
الأسبانيَان ديفيد مسوغير وأوريول غراسيا إلى مدينة عفرين التي تقع
شمال غربي حلب ضمن إقليم كردستان السوري الذي يُطلقون عليه اسم
"Rojava"
ويعني بالكردية "الغرب"، فكردستان مقسّمة إلى كردستان شرقية
وغربية، وشمالية وجنوبية. وقد وقع اختيار المُخرجَين الأسبانيَين
على مدينة عفرين تحديداً لأنها آمنة أسوة ببقية مدن الإقليم الكردي
وقراه المتناثرة وسط طبيعة مُشجرة خلاّبة.
رصانة السرد
لم تنبثق رصانة السرد من فراغ فلقد بنى المخرجان فيلمهما الموسوم
بـ "الثورة الصامتة" على قصة سينمائية قوامها الحبكة القصصية
المتقنة، والسرد السلس الناجم عن أسئلة ذكية تستهدف إجابات محددة
أفضت جميعها إلى النتائج والخلاصات التي يريدها المخرجان اللذان
كتبا السيناريو كما وضع أوريول غراسيا لمساته على التصوير أيضاً.
إنَ انتقاءهما للشخصيات التي لم يسبق لها أن مثّلت من قَبل كان
دقيقاً إلى درجة أن الطالبة الصغيرة والمغنية شيرين باكو كانت
مفوّهة جداً ولم تتلكأ على مدار الإطلالات الثلاث وهي تسرد حكايتها
وتتحدث عن أحلامها الشخصية وتطلعاتها المستقبلية من دون أن تنسى
ذكر أفراد عائلتها الذين تشتتوا في المنافي العربية والأوروبية.
قد لا يستطيع كاتب السيناريو أو المخرج أن يؤثث قصته السينمائية
جيداً لذلك يلجأ إلى ملء الفراغات بواسطة "الفويس أوفر"، تماماً
كما حصل في هذا الفيلم، إذ أطل السارد المُحترف كولن مورغان سبع
مرّات على مدار الفيلم الذي بلغت مدته خمسين دقيقة حيث أحاط
المتلقي بمعلومات شافية وافية رسمت له طبيعة المشهد السياسي
والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والعسكري.
يمكن القول إن هناك عشر شخصيات رئيسة ساردة إذا أضفنا إليها صوت
الراوي "الفويس أوفر" وهي إيبو سيدو، علي علي، كولزار، شيرين باكو،
جودي عفرين، مصطفى رشواليك، أبو محمد، روش، وسينام محمد، وهناك
أيضاً شخصيات ثانوية قد لا تقل أهمية عن الشخصيات الرئيسة لكن
أدوارها محددة وظهورها خاطف ولا يتكرر أكثر من مرة كما هو الحال في
مشد زيارة قبور الشهداء في القامشلي، عاصمة الإقليم، أو في مشهد
التدريب العسكري للفتيات، أو في الاحتفال بمناسبة نوروز في ظل غياب
السلطة الحكومية القامعة وما إلى ذلك من مشاهد كثيرة لا يمكن حصرها
جميعاً في مقال واحد.
مستويات السرد
لا شك في أن مستويات السرد تختلف من شخصية إلى أخرى، خصوصاً إذا
أخذنا بنظر الاعتبار أن هذا الفيلم يزدحم بالثيمات الرئيسة
والفرعية لعل أبرزها الطفولة، الصبا، الشباب، المرأة، الإعلام
المرئي، القائد أوجلان، السياسة، التهجير القسري، اللغة الكردية،
الحكم الذاتي، الأحزاب الكردية، الغناء، الموسيقى، الأناشيد
الوطنية، الدبكات، الاحتفال بنوروز وبعض المناسبات الوطنية، هذا
إضافة إلى التحرر من ربقة الجلاد وحكومته المستبدة التي تفتك
بشعبها يومياً أمام أنظار العالم البليد الذي لم يحرِّك ساكناً حتى
الآن.
يستهل المخرجان فيلمهما بمشهد أُسَري حميم على الرغم من أن الأبوين
ينهمكان في إعداد البندقية ذلك لأن كولزار تريد أن تذهب لتأدية
واجبها عند حاجز التفتيش في مدخل المدينة فلقد انتمت إلى وحدات
الحماية الشعبية بعد أن أمضت سبعة وعشرين يوماً في دورة تدريبية
قصيرة أهلّتها لهذه المهمة التي لا تخلو من بعض المخاطر على الرغم
من الهدوء الذي يخيّم على إقليم كردستان السوري برمته. لقد أسند
المخرجان هذا الدور إلى كولزار، الأم التي تعتني بثلاثة أولاد صغار
ولا تجد ضيراً في أن تتركهم في المنزل كي تقضي بعض الساعات عند
نقطة التفتيش. هذا الاهتمام بالمرأة سيتكرر على مدار الفيلم بدءاً
بالصبية الصغيرة، والفتاة اليافعة، مروراً بالمرأة الناضجة،
وانتهاءً بالسيدة الطاعنة في السن، بل أننا كمشاهدين لم نعرف حتى
اسم زوج كولزار الذي يبدو أن المخرجَين قد غيّباه عمداً كي يوحيا
للمشاهد بأنهما مهتمان بالأنثى على وجه التحديد أكثر من الذكر. لقد
التقينا بالتلميذة والمغنية الصغيرة شيرين التي لا تكتفي بالغناء
الوطني فقط، وإنما تشرح واقع الحال الذي تمرّ فيه أسرتها المشتتة
حيث تعيش أختها في العراق، بينما يدرس أخواها في ألمانيا، أما
أبوها فقد هاجر إلى السعودية بهدف تأمين الرزق الحلال.
الحضور السياسي
السرد السياسي له حصته في هذا الفيلم فثمة شخصيات سياسية عديدة
أبرزها إيبو سيدو، مصطفى رشواليك وسينام محمد وكلهم أعضاء في حزب
الاتحاد الديمقراطي. وقد طرح ثلاثتهم آراءً مهمة بصدد القضية
الكردية في سوريا. فقد تعرّض إيبو سيدو إلى التعذيب والإهانة
والإذلال واتهموه بأنه صديق لأعداء السلطة الحاكمة بدمشق، وأنه
إرهابي فخلعوا ملابسه ورشقوه بالماء البارد فردّ عليهم بأنه وطني
ومجرد شخص كردي لا غير. أما تمنياته لهذا الإقليم فلم تتعدَ
الديمقراطية والعيش من دون تفرقة أو تمييز بغض النظر عن النظر عن
العرق واللون والديانة والطائفة. فالعدالة هي همهم الرئيسي
والمساواة هي هاجسه الأول والأخير.
لا يختلف مصطفى رشواليك كثيراً عن إيبو سيدو فهو كمنتمٍ لحزبٍ
ديمقراطي يدعم الثورة السلمية لكنه يخشى من السلطة المستبدة أن
تقمع أصواتهم، فهو يريد للمثقفين أن يقودوا الجماهير الكردية، ولا
يتمنى أن يُترك زمام الأمور للسلفيين، أو للمجموعات المتطرفة، أو
للأحزاب والمنظمات الدينية التي لا تتماشى مع روح العصر. وعلى
الرغم من هامش الحرية الذي تحقق خلال سنة كاملة إلا أنه ما يزال
ينظر إلى أن الثورة لم تحقق شيئاً للمواطنين العاديين الذين هاجر
بعضهم ولا يزال بعضهم الآخر مرابطاً ضمن حدود الوطن المستباح من
قِبل القوات الحكومية من جهة والمتطرفين والجماعات المسلحة من جهة
أخرى. يدعو رشواليك إلى التعاون والتنسيق بين مسعود البارزاني
ومراد كارايلان بغية تأسيس اللجنة العليا الكردية كي تتفاوض
أطرافها المتعددة بصوت واحد مع المعارضة السورية وتحقق في خاتمة
المطاف الانتصار لشعبها الكردي في سورية.
مثلما حضرت الطفلة الفنانة، والمرأة المقاتلة، حضرت المرأة
السياسية بقوة فسينام محمد التي تنتمي للاتحاد الديمقراطي أيضاً
انتقدت الأطراف المتحاربة كلها واصطفت إلى جانب الأمهات الأتراك
والأمهات الكرديات اللواتي فُجعن بأبنائهن مُذكرةً إيانا بالمثل
الإنجليزي الذي يفضل حدوث المعارك على طاولة المفاوضات وليس على
جبهات القتال لأن الثمن، في الحالة الثانية، سيكون باهضاً
ومأساوياً في آنٍ معا.
اللغة الكردية لها حصتها في هذا الفيلم وقد جسّد هذا الهاجس
المعلِّم (علي علي) الحاصل على شهادة جامعية في الصيدلة لكنه فضّل
تعليم الأطفال متطوعاً، إذ يعتقد أنه يقدم خدمة كبيرة لمجتمعه
وللأطفال الكرد على وجه التحديد. فعلى مدى خمسين عاماً كانت اللغة
الكردية ممنوعة حتى أنه لم يكن يتقن القراءة والكتابة باللغة
الكردية لأنه لم يدْرسها بشكل منهجي لذلك انتظم في أحد الصفوف وبدأ
يدْرس على يد معلّم أصغر منه سناً، ثم تطور رويداً رويداً إلى أن
أصبح معلماً متمكناً من تدريس اللغة الكردية للأطفال الصغار. وهو
يعتقد في قرارة نفسه أنه لا يعادي أحداً، وكل الذي يطالب به هو
حقوقه المشروعة لا غير.
الهجرة القسرية
مثل غالبية الأسر الكردية تعرضت أسرة علي إلى القمع والاضطهاد
فهاجر ثمانية من أولاده إلى كندا، واثنان إلى ألمانيا، ولولا قسوة
النظام الحاكم لما شهدت هذه العائلة هجرة جماعية بحيث بدأ الوالدان
يشعران بعزلة مقيتة. وكل الذي يتمناه علي هو أن يخدم أبناء شعبه
إلى أن يموت لكنه لا يريد للغته أن تموت معه.
تجسدت فكرة الهجرة القسرية في شخصية أبي محمد الذي نزح من مدينة
حلب واستقر في قرية مجاورة لكن هذه القرية لم تسلم هي الأخرى من
القصف فغادرها متجهاً إلى عفرين، المدينة الآمنة التي ساعده الناس
فيها كرداً وعرباً وكانوا طيبين معه إلى درجة كبيرة.
أما معاناة الإعلام المرئي الكردي فقد تمثلت بجودي عفرين الذي يعمل
لمصلحة تلفزيون "روناهي" الذي قدّم بثاً تجريبياً على مدى ثلاثة
أشهر قبل أن ينطلق في بثه الاحترافي الدائم، وتحدث عن الصعوبات
التي كان يواجهها الإعلامي الكردي وهو يعمل خلسة بغية الحصول على
الأخبار والمعلومات. وبما أن الشعب الكردي لم يعهد سماع اللغة
الكردية من قبل بسبب قمع النظام السوري لهم فقد اندهشوا حينما
شاهدوا قناة "روناهي" تبث بالكردية حتى أن العديد قد انخرط بالبكاء
حينما سمع اللغة الكردية تنساب من شاشة التلفاز.
ربما تكون الشخصية التاسعة "روش" هي الأكثر سلمية ذلك لأنه قائد
وحدات الحماية الشعبية لكنه لم يهاجم الثُكنات العسكرية في المنطقة
وإنما انتظر انسحاب وحدات الجيش والشرطة والعناصر الأمنية التابعة
للنظام الاستبدادي وحلّ محلها من دون أن يحرق العلم السوري أو يتلف
التجهيزات التي خلفتها الوحدات العسكرية والأمنية. وجدير ذكره أن
وحدات الحماية الشعبية لا تقتصر على كرد عفرين حسب وإنما تمتد إلى
العرب والتركمان والآشوريين والشركس إضافة إلى تواجد المسيحيين
والإيزيديين وبعض الطوائف الأخرى الصغيرة.
عبدالله أوجلان
يحتل القائد الكردي عبدالله أوجلان مساحة كبيرة من هذا الفيلم حيث
رأينا كولزار وهي تشرح لزوجها عن سيرة حياة أوجلان وأبيه الصامت
دائماً، وأمه ذات الشخصية القوية.
لقد بلغ تعلّق الأكراد في إقليم روج آفا بأوجلان إلى حد الهتاف
بصوتٍ عال (أن لا حياة من دون أوجلان) وهذا يعني أن شعبيته طاغية
جداً في غرب كردستان وأن شهرته وقيادته قد تجاوزت شمالي كردستان
إلى جنوبيها وغربيّها في آنٍ معاً. وربما هو متواجد بذات القوة في
شرقي كردستان أيضاً لأن الأكراد وكل الشرفاء في العالم يتعاطفون
معه بوصفه مقاتلاً من أجل الحرية وحق تقرير المصير، فهو ليس قائداً
محلياً، وإنما هو قائد لمشروع كردستان الكبرى وإن كانت هذه القيادة
لا تلقى ترحيباً كبيراً من منافسه القوي السيد مسعود البارزاني
الذي أنجز حكمه الذاتي من جهة، وحقق دولته الفيدرالية ضمن الحدود
العراقية المتعارف عليها، وهو قريب جداً من إعلان دولته
الكونفيدرالية التي تسبق إعلان الدولة الكردية المستقلة أرضاً
وشعباً وحكومة.
لا يكتفي الفيلم بإطلالاته على بعض العادات والتقاليد الكردية لذلك
توقف المخرجان عند عيد نوروز والاحتفالات التي تُقام بهذه المناسبة
الرمزية لما تنطوي عليه من مقاومة للظلم والاستبداد والتعسّف وقد
انتهى الفيلم بمشاهد الألعاب النارية التي تتفجّر في سماء روج آفا.
تحتاج إطلالات الراوي (الفويس أوفر) إلى مقال منفرد وذلك لأهميتها
في رفد الفيلم بالكثير من المعلومات عن أكراد سوريا ودورهم في هذه
الثورة الصامتة التي تذكِّرنا بأسلوب المهاتما غاندي الذي طرد
الاحتلال البريطاني بثورته السلمية وقاد سفينة الهند إلى برّ
الأمان.
لابد من الإشادة بدور أوريول غراسيا كمدير للتصوير، وبعلي رضا
أوزكان على موسيقاه المعبِّرة المنبثقة من روحية الشعب الكردي
وفرحه الباذخ الموزّع في عموم كردستان. أما الرؤية الإخراجية
لصانعي الفيلم فقد كانت متفردة وأنتجت فيلماً وثائقياً هو أقرب
التحفة الفنية منه إلى فيلم وثائقي عابر. |