استعادة عمر أميرلاي وفيلمه الرائد 'طوفان في بلاد
البعث'
العرب/ ثائر موسى
بين هزال الوريث ونقمة التوريث كشف السينمائي السوري الراحل عمر
أميرلاي المستور عن 'وهم الحرية'.
بانتظار إخراج جثمان السينمائي السوري الكبير عمر أميرلاي من
الجامع كي نرافقه في رحلته الأرضية الأخيرة، تقدمت مني مذيعة
التلفزيون العربي السوري تطلب مني إجراء مقابلة عن المخرج الراحل.
قلت لمذيعة التلفزيون يا صديقتي ما سأحكيه عن عمر أميرلاي لن
تتحمله الرقابة في التلفزيون السوري، ولن يمكن بثه، فلا داعي
لإضاعة الوقت، لكن تلك المذيعة أقسمت لي بأنه سوف لن يحذف شيء من
أي كلام يقال عن عمر أميرلاي.
كنا حينها في أوائل فبراير من عام 2011، وكان بن علي قد فرّ من
تونس، وفي مصر كان مبارك يواجه الزحف الجماهيري في ميدان التحرير،
ولم تكن قد مرّت إلا أيام قليلة على ما اصطلحت تسميته بـ”غزوة
الجمل”.
تلك الغزوة التي أراد المحرضون عليها أن يقمعوا شبابا تسلحوا
بإرادتهم، وبدعم الناشطين لهم على “الفيسبوك”، ولم تكن تلك
المواجهة بين الجمال و”الفيسبوك” إلا صورة عن العقل المتخلف للحاكم
الطاغية الذي مازال يعيش بعقل الجاهلية وقبائل الصحراء حيث حكم
العائلة وتوريث الابن.
مع ذلك، وفي ظل بعض من نسائم الحرية التي هبت في أوائل عام 2011
فقد انطلى “قسم المذيعة” عليّ، ووافقت على المقابلة التي تحدثت
فيها عن روح عمر التي لا بدّ أن تكون الآن أكثر اطمئنانا، بل
وفرحا، وهي تنظر من عليائها إلى الشعوب العربية التي نزلت إلى
الشوارع، ولن تعود قبل الإطاحة بطغاتها.
لم تكن ثورة الشعب السوري حينها قد بدأت، لكن حتى مجرد الحديث عن
الشعوب وطغاتها لم يكن مقبولا في التلفزيون السوري العتيد، ولم يبق
من مقابلتي إلا كلمات قلتها في البداية عن ريادة عمر أميرلاي في
عالم الفيلم الوثائقي.
وحين رأيت المقابلة مساء على التلفزيون، حمدت الله أن ما فشلت في
تمريره ضمن “وهم الحرية” في ذلك الوقت، كان عمر قد سبقني -كما كان
سباقا دائما- في تمريره ساخرا من الرقابة السورية، وذلك حين صنع
فيلمه الشهير “طوفان في بلاد البعث”، ذلك الفيلم الذي يغوص في
أعماق عقل الاستبداد وميكانيزماته، وفي نفس الوقت يغوص في بحر من
السخرية بهذا العقل “وطقوسه” إن صحّ التعبير.
فها هو د. م. عضو “مجلس الشعب” السوري الذي بلغ من العمر عتيا، وهو
أقدم برلماني في العالم كما يصف نفسه، يغدق في المديح على حافظ
الأسد “القائد الخالد”، والرجل الذي لم تنجب الأمة مثله من قبل..
وها هو عمر أميرلاي يترك له أن “يسرح ويمرح” في مديح “الظل
العالي”، حيث يظن البرلماني العجوز أنه أمام جولة أخرى من جولات
تقديس “الروح المثلى”، فقد اعتاد أمام كاميرات الإعلام السوري على
الإطناب في “عشق القائد” الذي أنعم القدر علينا به، فكنا من
المحظوظين بين شعوب الأرض، إذ أنجبت بلادنا تلك “الطفرة”…
لم يكن “أقدم برلماني في العالم”، ومن قبله الرقابة السورية التي
يجب أن توافق على التصوير، يعلمون كيف سيوظف عمر أميرلاي هذه
“المسخرة” في تعداد مناقب “الراحل الخالد”، وكيف ستكون الصورة
الفيلمية التي لا يتخيلها الرقيب وهو يقرأ السيناريو على الورق،
وكيف أن الفيلم في ناتجه، سيكون مناسبة للسخرية من حزب البعث
وقائده الذي رحل، تاركا وراءه هزال الوريث، ونقمة التوريث.
لم يكتف عمر أميرلاي بطرح ذلك النموذج من الرعيل الأكبر لرجال قضوا
عمرهم في مديح الحزب القائد للدولة والمجتمع، بل أطل بكاميراته على
مدرسة للتعليم الابتدائي في قرية البرلماني العتيد.. مدرسة يصورها
لنا عمر بحنكة لا تخلو من خبث محبب، حيث تتماهى تلك المدرسة في
العديد من لقطاتها مع سجن من وراء نافذة وقضبان، حيث الكوريدورات
معتمة، والشمس تلقي على الأرض ببقعة ضوء تشكل مع قضبان النافذة
انطباعا موحشا لسجن جهنمي يتعلم فيه أولئك التلاميذ.
وتتضاعف السخرية حين نعلم بأن مدير تلك المدرسة ليس إلا ابن شقيق
ذلك البرلماني العجوز، فكأنه قد تسلم العصا كما في سباق التتابع
فوق مضمار الجري، حيث يتتابع المسبحون بحمد القائد ابن القائد،
وكلهم راكضون لاهثون لإظهار الولاء المطلق “لأسود سوريا” وفخر
الأمة.
تتحرك كاميرا عمر من يسار الكادر إلى يمينه، فتعطينا انطباعا كأنها
تكشف المستور، لنرى ذلك المدير الذي يقدم نفسه على أنه أيضا أمين
الحلقة الحزبية في القرية.. “بعثي أصيل” يتحدث عن غرس مبادئ البعث
في الأطفال “كالغرسة في الأرض الطيبة” ليكبر الأطفال على حب الوطن،
وحب “سوريا- بشار حافظ الأسد..”.
مدرسة يصورها بحنكة لا تخلو من خبث محبب، حيث تتماهى المدرسة في
لقطاتها مع سجن من وراء نافذة وقضبان
في كل مرة يدخل التلاميذ إلى صفوفهم ينتابك الشعور بأنهم داخلون
إلى سجنهم، ويوظف عمر القضبان والنوافذ والإضاءة المعتمة ليصعّد من
هذا الشعور، فنصبح شهودا على حبسهم في الأيديولوجيا، والعبودية
وتأليه الفرد.
فها هم ينشدون: (منحيي القائد بشار) وها هي عقولهم تتعرض إلى عسف
منظم من خلال ضمّ كل تلميذ وتلميذة جبريا إلى منظمة طلائع البعث،
حيث ينادي الأستاذ في الصف التلميذة “بالرفيقة” ويطلب منها تعريف
منظمة طلائع البعث، فتقول “الرفيقة”: (إنها منظمة تربوية سياسية،
تضم أطفال الجمهورية العربية السورية في المرحلة الابتدائية، وتعمل
على تربيتهم تربية قومية اشتراكية..).
هي الأيديولوجيا الشمولية تنفث سمومها في عقول الأطفال، حيث يتحدث
“رفيق طليعي”، فيقول إن منظمة طلائع البعث (تنمّي روح الاستعداد
والتضحية من أجل الوطن والحزب والثورة)؟!
هو الطوفان إذا.. طوفان البعث الذي غمر البلاد فدمّر فيها كل أصيل
وحقيقي، واستبدله بالمبتذل والمزيف، تماما كما تمّ استبدال المجرى
الأصلي لنهر الفرات، وتحويله إلى بحيرة غمرت القرى وأغرقت ذكريات
الناس ودفء أيام الطفولة..
هو طوفان الزبد المتمثل بالبعث العقيم في “منطلقاته النظرية” وفي
قيادة خربت البلاد والنفوس على مدى خمسين سنة، وها نحن اليوم نحصد
“ثمرة” الشرّ المستطير لحزب ديكتاتوري وقيادة مجرمة غارقة في دم
السوري.
أحسد عمر أميرلاي أحيانا الذي عايش طوفان الفرات ذاك وطوفان البعث
الشيطاني، لكن القدر كان رؤوفا به حين وفّر عليه معايشة طوفان
الدماء الذي تحياه سوريا اليوم.. تحية لروحك عمر أميرلاي، آملا
أنها في مكان يسوده الحب والهدوء الأبدي، بعيدا عن شرور البعث
وطوفان الدماء.
* مخرج سينمائي سوري |