قال عنهم "هم الكلاب"، عنوان فيلمه الروائي الطويل الثاني (2013).
وفي جديده، يتساءل "لماذا تشم الكلاب مؤخرات بعضها بعضاً أول ما
تلتقي؟". سؤال لن نلقى له إجابة في فيلم المخرج المغربي هشام
العسري "البحر من ورائكم" (عُرض عالمياً للمرة الأولى في الدورة
الأخيرة من "مهرجان دبي السينمائي الدولي")، وهو يعود فيه إلى
الأبيض والأسود كما أول أفلامه الطويلة "النهاية" (2011) الذي جاء
على الصعيد الفني عكس "النهاية" مشكّلاً بداية مدهشة.
للعسري أن يأخذ المشاهد من اللقطة الأولى في الفيلم، فنحن في
"البحر من ورائكم" في بلد لا ألوان فيه، وقد تلوّثت المياه وأصيبت
بـ"البق"، والكاميرا محمولة تلاحق رجلاً من الخلف في طريقه إلى
عراك وقد اجتمع اثنان على ضرب رجل مرمي على الأرض. سيتوقف كل شيء
حين تنكسر زجاجة على الأرض، حينها سينزع أحد المارة سترته ويمسح
بها ما أهرق، ومن ثم يعصرها في فمه في لقطة مقرّبة (كلوز أب).
إنه طارق (مالك أخميس)، من كان يتعرض للضرب، وها هو جالس في مقهى
إلى طاولة وأمامه فنجان وقطرات من دمه تسقط في السائل الذي يحتويه.
ولنقع عليه بعدئذٍ مقيداً إلى قضبان سجن يتعرض للتحقيق. اللقطة
التي ستكون لازمة الفيلم، والمنطلق لحركيته العالية وسرده الخاص
والتنويع في المفردات البصرية التي يوظفها العسري في أسلوبية خاصة،
لها أن تضعنا أمام تهتك كل شيء. وطارق يصرخ بأنه رجل، وهو كذلك وله
شاربان، لكنه يرتدي ثياب الراقصات ويضع المكياج ويرقص على سطح عربة
يجرها "العربي"، اسم حصان والده الذي يطالعنا من البداية وقد حرُنَ
وتوقف عن جرّ العربة.
"طارق
بن زياد محبوس في صندوق سيارة رجل الأمن"
"العربي" الذي ما عاد قادراً على التقدم خطوة واحدة إلى الأمام،
وطارق عاجز عن قتله، وقد أمسى والده محطماً تماماً جراء ذلك، لا
يملك أن يفعل لـ "العربي" سوى أن يمشط شعره بطقم أسنانه.
إنه العبث أيضاً، إذ لا شيء يحدث، وكل ما حدث آتٍ من ماضٍ قريب
وبعيد. ما من ألوان، والمياه ملوثة، وطارق عاجز عن الفرح والحزن
وأي من العواطف، هو الذي لم يبكِ ولديه وقد قتلهما جاره رجل الأمن،
بعد أن قام هذا الأخير بغواية زوجته. وهو عاجز أيضاً عن قتله، كما
أن تشبّهه بالنساء لم يجعل منه مثلياً رغم أنه يُنعت بذلك، وهناك
من هو غارق بحبه.
البحر الذي من ورائنا يقود مباشرة إلى أن العدو من أمامنا، ومنا
وفينا وفي ثنايا كل ما يسرده الفيلم، حيث كل شيء مدمّر ومشوّه،
وبدل الحب يسود إتيان البهائم، و"لورد" عجوز بكامل أناقته وقبعته
العالية، يلاحق طارق. وحين يواجهه هذا الأخير، لا يحظى إلا بغطاءَي
علبة سردين يستخلصهما من القمامة للدفاع عن نفسه، فيتركه ذلك الرجل
ويمضي للتبول في مرحاض متروك في الشارع، فيقوم طارق بحز وريده من
دون أن ينجح في ذلك.
فيلم "البحر من ورائكم" محمّل بالكثير، والحديث عن الأسلوب هو حديث
عن الشكل بالضرورة، من دون اعتبار الشكل وعاءً للمضمون. ففيلم
العسري يدفع للتفسير الوظيفي على اعتبار الشكل والمضمون متلازمين
وفي علاقة تبادلية بينهما. فما من مشهد في الفيلم وإلا ومؤسّس على
بنية بصرية تستوفي عناصرها الجمالية شكلاً ومضموناً، ليجتمع كل ذلك
في بناء سينمائي يتبع الوظيفة التي يؤديها الفيلم في إحالات مسكونة
بالمجازات. كما أن التقطيع المونتاجي يبتر اللقطات ولا يدع للمشهد
أن يتواصل بعد أن يكون قد نجح في صياغة تجربة إدراكية دامغة.
يكشف العسري في "البحر من ورائكم"، من البداية، عن هدف الفيلم
ومساره ولعبته السردية. ويكتفي تماماً بالرهان على المستويات
المتعددة لحركة الكاميرا والاستثمار في المفردات البصرية والممثلين
وتكوين الشخصيات وأزيائها والتنويع في تشكيل مواقع التصوير، بحيث
يكون ناجحاً تماماً بتحميل كل عنصر من عناصر ما نشاهده بالمفاجآت
والاكتشافات. وبالتالي، فإنه لا يحتفظ بمفاجآت للنهاية إلا إذا
اعتبرنا بكاء طارق في النهاية وعودة الألوان جراءها مفاجأة.
"ما
من مشهد في الفيلم وإلا ومؤسّس على بنية بصرية تستوفي عناصرها
الجمالية شكلاً ومضموناً"
ففي فيلمه الأول، "النهاية"، سيمهد كل ما في الفيلم من جرعات عنف
وقتل لنهايته، أي وفاة الملك الحسن الثاني، كما أنه سيجعل "الربيع
العربي" في ثاني أفلامه "هم الكلاب" متصلاً بالماضي ومتشكلاً وفقه
ونحن نكتشف أن "مجهول" (شخصية الفيلم الرئيسة) ليس إلا معتقلاً
لمشاركته في "انتفاضة الخبز" التي كانت تطالب بالإصلاح والتغيير في
المغرب عام 1981.
ستكون "السلطة" معبراً أكيداً لمعاينة كل ما نشاهده في فيلم
"النهاية"، إذ إن أعتى تجليات العنف تأتي من رجل الأمن، بينما
القيود حاضرة على الدوام، والعاشق يعمل في موقف سيارات مدفوع
الأجر، يطبق على العجلات بالقيود، ومعشوقته مقيدة بالسلاسل من قبل
إخوتها الذين يظهرون كما لو أنهم فتية كوبريك في "البرتقالة
الآلية" أو "غانغستر" خارج من رحم "الكوميك"، يقومون بسرقة علب
الحلوى وأتفه الأشياء، ليكون الجميع ضحايا السلطة المطلقة.
"البحر من ورائكم" أقرب إلى فيلم "النهاية" لأن التنويع في السرد
حاضر بقوة مدهشة في كليهما، بينما يقتصر التجريب في "همّ الكلاب"
على الكاميرا المحمولة، ما يجعله محتكماً على أبعاد تسجيلية؛ إذ إن
اكتشاف حياة "مجهول" ستأتي من خلال طاقم تصوير تلفزيوني يتورط في
الكشف عن حياته، وحلّ اللغز الذي يشكله بالنسبة إليهم، وهو يحمل في
يده عجلة دراجة صغيرة خرج ليصلحها ولم يعد.
ليست الإحالة إلى طارق بن زياد في "البحر من ورائكم" فعل حنين إلى
زمن مضى ولن يعود، لا بل هي مساحة للمفارقة، ومجال حيوي لاجتراح كل
ما يتناقض وما تأسس عليه التاريخي بوصفه أسطورياً؛ ولن يكون ظهوره
"التاريخي" إلا وجيزاً، حين يخرج لطارق - النسخة الحديثة من طارق
بن زياد إن صح الوصف - وهو محبوس في صندوق سيارة رجل الأمن. حينها
سيسأله "الصبر"، بينما يشعل طارق أعواد الثقاب ليرى طارق بن زياد
من دون سيف، وليقدّم له أداة من الأدوات التي يحتويها صندوق
السيارة، ليمزق بها "طارق المعاصر" ما يفصل الصندوق عن المقعد
الخلفي، ويخرج من السيارة كما لو أنه يولد من جديد، من دون أن
يتخلى عن سؤاله الجوهري عن الكلاب.. السؤال الذي يبقى متواصلاً
ومتردداً في أرجاء الفيلم.
أنتون كوربين: ورطة الكاميرا بالمخابراتية
برلين ــ زياد عدوان
يبدأ فيلم
A Most Wanted Man
للمخرج الهولندي أنتون كوربين بالالتباس الواضح في عنوانه. يتعمد
كوربين حذف أداة التعريف،
THE،
من العبارة المشهورة "المطلوب الأكثر خطورة"، ويضع مكانها النكرة،
لتصبح كما هي عليه، في إشارة إلى أن أي شخص، في مسرح أحداثه الذي
تشكّله مدينة هامبورغ الألمانية، قد يكون الرجل المطلوب للمخابرات
الأميركية والألمانية، بل والأشد خطورة.
يرصد الفيلم عمليات مخابراتية، إذاً، حيث تجتمع بؤر مخابراتية
عديدة في هامبورغ، المدينة التي سكن فيها الطلاب التسعة عشر الذين
نفذوا هجمات 11 أيلول عام 2001. صحيح أن أكثر من عقد مضى على
العملية، لكن التأهّب لا يزال حاضراً من إمكانية حدوث جريمة
مشابهة.
هكذا، يصبح أي عربي، أو مسلم، أو أجنبي، أو حتى أوروبي، مشكوكاً في
أمره، في هذا الفيلم المقتبس من رواية بالعنوان نفسه للكاتب
البريطاني جون لو كاريه. يضعنا "لو كاريه" هذه المرة أمام ما يشبه
رقعة شطرنج، حيث يقوم الجميع بالمراقبة، وبتحريك الشخصيات الأخرى،
من دون أن يدري المحرّك أن هناك من يحرّكه، فيصبح كل فرد في هذه
الدوامة المخابراتية فاعلاً ومطلوباً وأداة للوصول إلى مبتغى ما.
"أصرّ
المخرج على الاتكاء على حبكة الرواية، أكثر من اهتمامه بتكوين
بناءٍ سردي بصري خاص"
يصل شاب شيشاني كلاجئ غير شرعي إلى هامبورغ. شاب مرهق، بلحية كثّة
وثياب مهترئة. تستضيفه عائلة مسلمة مكوّنة من شاب وأمه مقيمة منذ
سنوات في المدينة. تقوم العائلة بتعريف اللاجئ إلى محامية مختصة
بشؤون اللاجئين. والد الشاب الشيشاني توفي أخيراً، وكان قد أودع
نقوداً في بنك ألماني ليتم تشغيلها في عمليات غسيل الأموال. لكن
ابنه لا يريد هذه الأموال.
في هذا الوقت، يقوم مخبر أميركي (يلعب دوره الممثل الراحل فيليب
سيمور هوفمان) بتعقب رجل أعمال مسلم وصاحب مشاريع خيرية في
المدينة. وصل المخبر إلى هامبورغ بعد أن فشل في عملية مخابراتية في
بيروت، ويسعى الآن في عمليته الثانية إلى إثبات فاعليته
المخابراتية.
وفي الوقت نفسه، يلاحق مخبر ألماني رجل الأعمال المسلم معتقداً أن
الأخير يقوم بتمويل خلايا إرهابية تابعة للقاعدة. وتبدأ لعبة
الاصطياد والتوريط، بكل ما يحيط بحبكة الفيلم من تعتيم وأجواء
الريبة التي تفرضها المخابرات والبنوك وغسيل الأموال وقضايا
"المهاجرين غير الشرعيين". وتزداد لعبة المطاردة تعقيداً عندما
تقوم المخابرات الألمانية والأميركية بتعقب المخبر الأميركي نفسه،
بينما يطلب هذا الأخير من ابن رجل الأعمال المسلم أن يراقب والده
ويقدم تقارير عن تحركاته وأعماله.
رغم إحساسه بالملاحقة والخوف، يقوم المخبر الأميركي بإقناع
المحامية ومدير البنك بأن يوافق الشاب الشيشاني على تحصيل نقود
أبيه والتبرّع بها للمؤسسة الخيرية التي يديرها رجل الأعمال
المسلم، وذلك للتحقّق إن كان رجل الأعمال سيرسل الأموال إلى
"القاعدة".
يوافق الشاب بالفعل، ويقوم رجل الأعمال بما هو متوقّع: يرسل
الأموال إلى مؤسسة ما على "لائحة الإرهاب". وفي الوقت الذي يتوقع
المخبر الأميركي أنه أوقع الجميع في المصيدة، تقوم أجهزة المخابرات
الأخرى باعتقال الجميع وترك المخبر الألماني وحيداً ومحبطاً بعد
تغلّب أجهزة المخابرات عليه وتعدّيها على إنجازه.
غالباً ما يضمن اسم جون لو كاريه نجاحاً مسبقاً للأفلام المقتبسة
عن رواياته، مثل "خياط بنما" (2001، جون بورمان) و"البستاني
المخلص" (2005، فرناندو ميريلس). غير أن الإخلاص لحبكة نصّه في
فيلم المخرج كوربين نقلت الشريط إلى خانة الاستخفاف بمشاهده المحبط
أساساً من مستوى التمثيل الباهت، رغم وجود ممثلين بارعين في
الفيلم، مثل الراحل فيليب سيمور هوفمان، في آخر دور أدّاه قبل
رحيله المفاجئ العام الماضي، وكذلك ويلم دافو (أدّى شخصية مدير
البنك).
رغم وجود هذين الاسمين، أصرّ المخرج على الاتكاء على حبكة جون لو
كاريه المثيرة، أكثر من اهتمامه بتكوين بناءٍ سردي بصري خاص
بشريطه، لتبدو بعض مشاهد الفيلم مضحكة بسذاجتها في بعض الأحيان،
خصوصاً في المشاهد التي جمعت المهاجر بالمحامية.
"أنا نجوم ابنة العاشرة": خطوة خديجة السلامي
صنعاء ـ محمد الشلفي
من باب السينما الروائية أطلّت هذه المرة مخرجة الأفلام الوثائقية
اليمنية خديجة السلامي (1966)، بشريط بعنوان "أنا نجوم ابنة
العاشرة ومطلّقة"، وهو يحكي قصة واقعية عن فتاة يمنية تُدعى نجود،
زوّجها أهلها في سن العاشرة. وقد حصد العمل جائزة أفضل فيلم روائي
في المسابقة الرسمية لجوائز "المُهر العربي"، خلال الدورة الحادية
عشرة من "مهرجان دبي السينمائي الدولي" التي اختُتمت نهاية الشهر
الماضي.
ألهمت قصة نجود الحقيقية الفتيات القاصرات للخلاص من واقع فُرض
عليهن، وأعادت النقاش حول العادات والتقاليد اليمنية وقوانين تحديد
سنّ الزواج، بعد ذهابها شخصياً إلى المحكمة، في العام 2008، لتحقّق
مطلبها بالطلاق من زوج يكبرها بعشرين عاماً، بمساعدة محامية
قابلتها صدفة لدى القاضي. وقد لاقت تفاصيل القصة صدى واسعاً في
وسائل الإعلام العربية والعالمية، كما روتها نجود، بمشاركة
الصحافية الفرنسية دلفين مينوي، في كتاب بعنوان "أنا نجود ابنة
العاشرة ومطلّقة" الذي صدر في العام 2009، وترجم إلى لغات عدة،
بينها العربية. وقد اقتبست المخرجة السلامي فيلمها عنه.
تجدر الإشارة هنا إلى أن قصة بطلة الفيلم، نجوم، تتقاطع مع قصة
خديجة السلامي نفسها التي أُجبرت على الزواج في سن الحادية عشرة من
رجل مسنّ، كما تقول سيرتها المعروفة. وبالتالي، يأتي العمل ليخدم
قضية المُخرجة في الدفاع عن المرأة وقضاياها.
في حديث مع "العربي الجديد"، تقول السلامي: "فكرة الفيلم جاءت بعد
علمي أن مخرجة فرنسية تقدّمت لشراء حقوق كتاب "أنا نجود ابنة
العاشرة ومطلّقة" الذي صدر باللغة الفرنسية، من أجل تحويله إلى
فيلم يصوُّر في المغرب. وبدافع قلقي من طرح الموضوع من وجهة نظر
تجهل بيئة القصة وواقعها، عرضتُ على شركة النشر شراء الحقوق. وبعد
نقاش طويل، اقترحوا عليَّ إشراكهم في إخراج الفيلم وتصويره في
المغرب، وهو ما رفضته لأنه إذا لم يجرِ التصوير في اليمن ومع
ممثلين يمنيين فإن الفيلم سيفقد روحه. اقتنعوا بذلك ونفّذتُ طلبهم
بأن يشاركني في الإنتاج شخص فرنسي. وقد واجهتُ صعوبات كثيرة في
البحث عن تمويل، إلى أن وجدته بعد عامين".
"طُردنا
من بعض المناطق ورحِّب بنا في مناطق أخرى"
كابدت المخرجة السلامي مشقَّات في مراحل أخرى من تصوير الفيلم داخل
بلدها، في ظلّ انعدام إمكانات صناعة السينما في اليمن، ورغبتها في
إنجاز شريط ينافس في المهرجانات العالمية: "كانت تجربة مريرة وصعبة
من البداية حتى النهاية، نظراً إلى المشاكل اليومية الكثيرة التي
اعترضت سبيلنا. فقد طُردنا من بعض المناطق ورحِّب بنا في مناطق
أخرى. وسبّب عدم توفر الكهرباء والديزل في اليمن مشاكل كثيرة،
فضلاً عن الجانب الأمني الذي أعاق صناعة الفيلم. لم تكن لدي رفاهية
المخرج الذي يركّز فقط على الجانب الفني والإبداعي، بل كان عليَّ
البحث عن حلول لجميع المشاكل خلال التصوير، وهو ما شغلني مراراً عن
التركيز على عملي كمخرجة. لكن رغم ذلك أنجزنا الفيلم، وتعلّمتُ
أشياء سأعمل على تفاديها في أفلام قادمة".
وبالعودة إلى أعمالها السابقة التي تجاوزت 25 شريطاً وثائقياً،
لطالما انتُقدت السلامي على تقديمها الجانب السلبي في اليمن.
فالوثائقي "أمينة" الذي اشتهرت به يحكي قصة سجينة يمنية محكومة
بالإعدام، وقد أثّر لاحقاً في تغيير مسار القضية. تلاه "الوحش
الكاسر" بموضوعه الكاشف للفساد الإداري في اليمن، ثم "الصرخة" الذي
سلَّط الضوء على دور المرأة، غالبة ومغلوبة، في ثورة 2011. لكن
المخرجة ترى أن ثمة إيجابيات في أفلامها، تكمن خصوصاً في "كسر حاجز
الخوف الذي تحكّم (وما يزال) ببعض الكتاب والصحافيين، من خلال
تطرّقي إلى موضوعات تعتبر حسّاسة وجريئة داخل مجتمع يفترض به أن
يكون قبلياً ولا يتقبل التغيير. لقد وجدتُ العكس، فالمجتمع اليمني
لديه الرغبة في التغيير والقابلية للتطور والانفتاح والنقاش وتصحيح
أوضاعه السيّئة".
تضيف المخرجة، في محاولة لتخفيف الصورة التي تعكسها أعمالها: "معظم
أفلامي تتّسم بطابع إنساني واجتماعي، لأنه يصبّ في دائرة اهتمامي
ويؤثر بي. البعض الآخر أفلام حول الآثار في اليمن، المعمار،
الطبيعة، الجانب التاريخي، وهي مواضيع أعتبرها مهمة، وأحرص من
خلالها على التعريف ببلدي. اليمن، مثل جميع بلدان العالم، له
ميزاته وعيوبه. هناك ما نفتخر به وما يزعجنا، ويجب على كلّ من لديه
إحساس بالمسؤولية ألا يتردّد بالإصلاح، كلّ في تخصصه".
مع فيلم السلامي الأخير تتقدّم السينما اليمنية، وإن ببطء، خطوةً
إلى الأمام؛ سبقه في ذلك فيلم اليمنية البريطانية سارة إسحاق، "ليس
للكرامة جدران"، الذي رشّح لمسابقة الأوسكار بداية هذا العام. يضاف
إليهما فيلم اليمني البريطاني الآخر بدر بن حرسي، "يوم جديد في
صنعاء القديمة" (2005)، الفائز بجائزة أفضل فيلم عربي في "مهرجان
القاهرة الدولي". تجارب أسهمت مع أفلام أخرى، ازدهرت صناعتها في
الأعوام الأخيرة، في تثبيت دعائم صناعة السينما في اليمن.
وحول هذه النقطة، تقول السلامي: "من خلال تجربتي، أقابل وأتعرّف
إلى الكثير من الشابات والشباب الموهوبين الذين يعملون في هذا
المجال، وهم بحاجة إلى دعم وتشجيع. آمل الكثير من وزيرة الثقافة
الجديدة أروى عثمان التي تدرك جيداً أهمية هذا النوع من الفن
وكيفية دعم الجيل القادم في الابتكار والإبداع".
ذاكرتنا البوليودية
سهى أبو شقرا
تحضر الدراما الهندية اليوم بقوّة على الشاشات العربية، بل صارت
لها قنوات عربية متخصّصة بعرض الأفلام المدبلجة إلى اللغة العربية،
ولم تعد تقتصر على الأفلام فقط، كما كانت علاقة أجيال عربية بها في
الماضي، بل صارت تضمّ مسلسلات.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانتالسينما
الهنديةتساوي
مفردات مثل "بكاء، تفجّع" ومآس إنسانية أوّلها اليتم. ومن تابع تلك
الأفلام ويريد اليوم استعادة علاقته بتلك السينما التي تطوّرت
كثيراً، وباتت تنتج سنوياً أعداداً مضاعفة من الأفلام التي تنتجها
هوليوود، سيجد أنّ قليلها سيجذبه حتى النهاية.
ولكن من الواضح أنّ تلك الصناعة البوليودية تخلَت عن "فواجعها"
والمآسي بشكلها القديم، وصارت تُجاري متطلبات المشاهد من كوميديا
وأكشن وقصص رومانسية قريبة من الواقع.ولا تزال اللوحات الراقصة
سيدة المشاهد في تلك الأفلام، إلى جانب الأزياء التي تضجّ بالألوان
وجمال التصميمات. كما أن اختيار النجوم يعتمد على حضور أجمل
الجميلات في العالم.
ما بقي عالقاً في ذاكرتي عن السينما أيام طفولتي أنّ عيني كانتا
تتورّمان من البكاء على بطل الفيلم الهندي الذي يموت في النهاية.
فوالداي العزيزان كانا من هواة الأفلام الهندية. وحين سألت والدتي
عن سبب اختيارها ووالدي للأفلام الهندية غير المناسبة للصغار، كان
جوابها أنّ الأفلام الهندية مضمونة لا تقبيل فيها ولا احتضان،
كلّها أغانٍ ورقص، أما الدماء التي كانت ترشّ كالنوافير، حتى كنّا
نخالها ستصيبنا برذاذها، فقد كانا يقولان لنا إنها "ربّ البندورة"
وليست دماً حقيقياً.
وإن كنّا نصدّق هذا، إلا أنّ تعاطفنا مع البطل المظلوم كان يحوّل
دموعه التي تجري كالأنهار إلى غصّات عالقة في حناجرنا. كنّا نخجل
من البكاء علناً، فنحبس دموعنا ونؤجلها إلى ساعة خروجنا من الصالة.
ويحدث الانفجار البكائي الكبير عند صعودنا إلى السيارة. وهكذا كنا
نعود إلى البيت بعد كلّ فيلم هندي، واجمين، حزانى، كالخارجين من
جنازة.
في الماضي، لم يكن وارداً لدى غالبية الآباء حضور أفلام الكرتون
كرمى لعيون أطفالهم. فأيّ أبٍ يمكن أن يغادر منزله، في سبعينيات
القرن الماضي، ليشاهد توم أند جيري أو بوباي مثلاً، والتي كانت
تعرض يومياً على التلفزيون. كما أن الجدّية والصرامة في التربية لم
تكن لتتناسب حينها مع "كوميدية" لوريل وهاردي، أو المهابيل
الثلاثة. أما بالنسبة لأفلام شارلي
شابلن الصامتة
لم تكن لتناسب مزاج أبي "المحافظ"، لأن شابلن كان "ثورياً" في
عصره، وكانت أفلامه تصنف على أنها للكبار.
الزمن الأول تحوّل، والسينما اليوم صارت أكثر إبهاراً وضخامة في
الإنتاج. وأفلام الكرتون باتت تضاهي في قصصها وإخراجها أفلام
الدراما والأكشن والكوميديا، وتسجل الأرقام القياسية في
الإيرادات.كما أن أصول التربية الحديثة تلزم الأبوين بمشاركة
أطفالهم متعة الترفيه والتثقيف كذلك. فيشاركان أطفالهما حضور أفلام
الكرتون المشوقة والممتعة.
الأفلام الهندية التي ما زلت أذكرها حتى اليوم هي فيلم "ولدي".
والمشهد الذي تحوّل إلى كابوس يراودني في أحلامي، هو لحظة يدفع
الرجل الشرير الأب العطوف نحو الهاوية، فيعلق الوالد على شجرة تبدأ
جذورها تقتلع من حافة الجرف. أذكر أن المشهد كان طويلاً حتى خُيل
لي أنّ روحي انسحبت بدورها من شدّة خوفي على الأب "البطل" من
الموت، والذي كان ينادي ابنه الباكي وزوجته التي تولول بدورها
هلعاً.
الفيلم الثاني الذي أذكره كان بعنوان "الأخرس"، والزبدة منه تتلخّص
في أن الأب والأم يعيشان على أمل أن يستعيد ولدهما القدرة على
النطق، ولكن قبل نهاية الفيلم بقليل تنجح العملية الجراحية ويصبح
الطفل قادراً على النطق. ولكن ضرورات العمل الفني البوليودي في
حينه حتّمت على كاتب السيناريو أن يدبّر حادثاً مفجعاً للأب، فيفقد
سمعه قبل أن يسمع ولده يناديه "بابا... بابا". وهكذا عدنا يومها
إلى البيت باكين وحزانى على مصير البطل، ونمنا ليلتها، مكدّرين
ومغمومين بسببه.
الفيلم الثالث كان بعنوان "الفيل صديقي" (إنتاج عام 1971)، يحكي
قصة الفيل المحبوب، الذي يعيش معززاً مكرماً من قبل الأب، ومعذباً
من الأم. والمهم أن الفيل في النهاية يضحي بنفسه، ويمر من أمام
صاحبه ليحميه من طلقات نيران أحد الأشرار. فتصيب الرصاصة الفيل في
مقتل، ويموت. كان لموت الفيل أثر مؤلم في نفوسنا الصغيرة، لأننا
أثناء حضورنا للفيلم، ومن شدة تعلقنا بالفيل البطل، تمنينا لو أن
والدي يحضر لنا فيلاً لنربيه في البيت.
لم تكن مراعاة "نفسية" الطفل من الأمور التي تؤخذ بالحسبان في ذلك
الوقت، فالضربة التي لا تقتلك تقويك، ربما كان هو المثل المرجع
الذي يستند إليه الآباء في تربية أبنائهم. وعلى هذا المنوال كانت "نفسياتنا"
تتلقى الضربات تباعاً، وكل ذلك بسبب الأشرار في الأفلام الهندية.
ولكن من الواضح أننا كنا، بين الضربة والأخرى، نتعافى، لأننا كنا
نذهب بكلّ طيب خاطر وبحماس للفيلم التالي، ونحن بكامل استعدادنا
لجرعات الحزن المرتقب، وما سيليها من بكائيات ودموع.
بعض الأفلام الهندية لم نتكبّد عناء ذهابنا إلى صالة السينما
لحضورها، بل كانت هي التي تحضر إلينا. ولا يذهب خيالكم بعيداً، لم
نكن يومها قد اقتنينا جهاز فيديو، حتى جهاز التلفزيون عندنا كان
سابقاً للألوان. لكن إحدى قريباتنا كانت حكواتية من نوع آخر،
اختصاصها سرد قصص الأفلام بكل تفاصيلها، بنبرة تحاكي المشاهد
المصورة. كنا نفرح بزياراتها لنا، لأنها كانت تنقل لنا ما حضرته من
أفلام بكل أمانة وحرفية. وكانت من محبّي الأفلام الهندية، ما جعلنا
نعيش "مآسي" الأبطال، عن بُعد، بكلّ انسجام.
الأفلام الهندية والمسلسلات باتت في متناولنا، فالتلفزيونات تعرضها
باستمرار. وطالما كانت الدراما ولا تزال مرآة للمجتمع، فمن الجيد
أن نرى اختلاف انعكاسات تلك المرآة بين الأمس واليوم. |