فيلم "بتوقيت القاهرة" يتأمل ما جري في تركيبة الشخصية الإنسانية
في مصر علي مدي سنوات ليست طويلة ولكنها نافذة التأثير..
وحتي يبرر التحول الذي طرأ عليَّ شخصياً اختار المخرج ـ المؤلف
أمير رمسيس "35 سنة" نماذج من ذوي الحساسية اليقظة. والأحاسيس
المرهفة إما بسبب ثقافتهم وتجربتهم الحياتية أو بسبب انتمائهم
الاجتماعي والأيدولوجي أو لطبيعة المرحلة السنية التي يعيشون فيها.
"الزمن"
يكتسب أهمية كبيرة في هذه التجربة الجادة والمتميزة ولذا تحتل
"الساعة" مادياً ورمزياً أهمية في دوران الفيلم. فالتوقيت الزمني
له دور لا ينعكس فقط علي الأشخاص وإنما البيئة المحيطة اجتماعياً
وثقافياً من خلال الديكور والموسيقي والحوار علي لسان كل شخصية.
"الساعة
القديمة" التي حرص أحد الشخصيات الرئيسية علي اصطحابها حين يقرر
الخروج عن المنزل هائماً فاقداً للذاكرة تحمل دلالة خاصة وذكريات
لا تنطق بها العقارب ولا يمحوها مرض "الزهايمر" لأنها مخزونة في
أعماق الأحاسيس ووجدان أكبر الأبطال سناً واسمه يحيي شاكر مراد
يؤدي دوره باقتدار واقناع كبير الفنان نور الشريف بأداء يعيده إلي
مكانته المؤثرة علي شاشة السينما.
بناء الحبكة يعتمد علي ثلاثة خيوط متوازية لست شخصيات رئيسية
تتقاطع وتتلاقي وتصل إلي نهايات محتملة وليست بالضرورة حتمية.
الخيط الأول يتابع مشوار "ليلي السماحي" النجمة السينمائية التي
اعتزلت التمثيل منذ فترة واتجهت للعبادة وتستعد للزواج من رجل
متطرف دينياً ويعتبر أحد المضللين بفتاوي من يحملون لقب دعاة
والذين انتشروا في مرحلة بزوغ نجم "الجماعة" ووصولها إلي الحكم مثل
الوباء في وسائل الإعلام.
ومن بين "الفتاوي" المحركة لأحداث الفيلم واحدة هزت حياة الممثلة
المعتزلة. تقول إن الزواج علي الشاشة في فيلم سينمائي يعتبر زواجاً
شرعياً ومُشهَرا وشَهوده الجمهور الذي شاهد الفيلم. وبالتالي فإن
"ليلي السماحي" لن تستطيع الزواج من آخر إلا بعد الطلاق من الممثل
نفسه الذي تزوجته ضمن أحداث الفيلم!!
اذن علي الممثلة القديمة أن تحصل علي الطلاق حتي تعيش حياتها
الجديدة مع الزوج "الإسلامي".. وعليها أن تبحث عنه للحصول علي
وثيقة الطلاق قبل أن يضيع منها العريس اللقطة وبالفعل تذهب لزيارته
في منزله!!
والفتوي ليست من خيال صانع الفيلم وإنما علي ما يبدو ضمن افتكاسات
الدعاة الجدد والتي حركت خياله السينمائي ودفعته إلي تأمل ما جري
في هذا "الزمن" وما كان يجري في زمان آخر وذلك من خلال شخصية أو
شخصيات أخري أصبحت خارج الزمن الحالي وإن احتفظت بإحساسها الشفاف
ازاء زمن مضي..
الشخصية الثانية "سامح كمال" المرتبط بنفس قصة الممثلة. شخصية
النجم القديم سمير صبري الذي اعتزل التمثيل هو أيضاً وكان يشاركها
بطولة الأفلام كشابين حالمين يتزوجان في النهاية ولم يكن يتصور أحد
أن يأتي زمن "الفتاوي" ويعتبرهما زوجين شرعيين.
الطريف أنها تبحث عنه وتجده وتفاجئه بطلب "الطلاق" في مشاهد تصلح
لفيلم من أفلام "العبث"..
يستخدم صانع الفيلم التفاصيل الصغيرة التي نلحظها علي الجدران وفي
الصور داخل بيت النجم المعتزل. بدلالاتها المرتبطة بعصر أكثر
انفتاحاً واحتراماً للفن وللممثل.. قبل أن تصبح عاراً ولعنة يقذف
بها العريس المتأسلم في وجه الممثلة حين يجدها في بيت النجم الذي
اعتبرت "الفتوي" زوجاً شرعياً لها!!
"السينما"
حاضرة بقوة في هذه التجربة ليس فقط في اختيار الشخصيات وإنما علي
شريط الصوت وفي الديكور داخل البيوت وفي اختيار الأغاني الرومانسية
الرقيقة التي ارتبطت برموز فنية تنتمي إلي زمن آخر كان من وجهة نظر
المؤلف ـ المخرج أكثر إنسانية وتحضراً وتسامحاً وانفتاحاً. أحداث
الفيلم لاتخلو من حنين جارف إلي ماكان ولم يعد قائماً.
سامح كمال ميخائيل "سمير صبري" ممثل قديم معتزل عاش الفترة الذهبية
حين كان نجماً سينمائياً يشارك ليلي بطولة الأفلام. وهو الآن يعيش
وحيداً في "سرايا" فخمة خالية من الدفء مع خادمه. يعاني من الملل
والوحدة والاحباط كأب هاجر ابنه ولم يعد في مقدوره أن يزوره.
أيضاً "ليلي" "ميرفت أمين" بدورها أصبحت في حاجة إلي رجل يؤنس
وحدتها.. وهي أم لابنة شابة "سلمي" أيتن عامر سنتعرف عليها لاحقاً
ونتابع علاقتها العاطفية المضطربة مع شاب في مثل عمرها وائل "كريم
قاسم" فالاثنان سلمي ووائل يمثلان عمرهما عاطفياً في زمن تعجز فيه
العواطف وحدها عن الوصول إلي نهاية سعيدة بالزواج.. فيلجآن لأول
مرة إلي شقة صديق "طارق".. له ميول سياسية حسب ما تفهم من الصور
المعلقة علي الجدران.
الثلاثة "سلمي. وائل وطارق" نماذج في زمن اضطربت فيه القيم واختلطت
السياسة بالعاطفة وطغت النزعات المحافظة علي السطح وأثرت بقوة علي
موقف "سلمي" ونظرتها إلي نفسها كأنثي مُحاصرة ذهنياً وقيمياً في
مجتمع يميز بصراحة بين الذكر والأنثي علي أساس النوع
"gender)
ويضع أمام الأنثي خطوطاً حمراء تؤدي بالضرورة إلي اضطراب العلاقة
العاطفية وعدم استهوائها.
"بتوقيت
القاهرة" يطرح إشكاليات عديدة ويعالجها ببساطة ودقة ملاحظة دون
غياب الوازع الفكري الرئيسي ألا وهو طبيعة الزمن الخاص بكل مرحلة
من مراحل التطور ليس فقط علي مستوي التوقيت وإنما علي مستوي
"الثقافة" بشكل رئيسي.. وهنا يلوح بحالة التراجع التي حلت علي
المجتمع بدرجات مختلفة.
ويتجسد ذلك بشكل أكثر عمقاً في الخيط الذي يربط بين حياة "يحيي
شكري مراد" "نور الشريف" الأرمل العجوز المصاب بالزهايمر والذي
يعاني من قسوة ابنه "مراد" الشاب الأصولي المتطرف "عابد عناني"
الذي يعتدي عليه بدوافع "دينية" أمام دهشة وغضب شقيقته أميرة "درة"
الرافضة لسلوكه المتزمت والمتعاطفة مع والدها المريض بالزهايمر.
يدخل علي الخط "حازم" الشاب تاجر المخدرات الصغير "شريف رمزي"
المرح الذي يساير "زمانه" ويستمرئ الربح "الحرام" ويعيش جل حياته
داخل سيارته التي تقطع الطريق بين الإسكندرية والقاهرة حاملاً
"الكيف" لزبائنه ومنهم نجم السينما المعتزل "سامح" وأخريات مثل
امرأة الإسكندرية "كنده علوش" التي تلقي بجوارها معه بعض الضوء علي
حياته وشخصيته.
يلتقط حازم في طريقه "بيحيي مراد" العجوز الهائم الذي يحمل الساعة
القديمة التي أهدتها له زوجته الراحلة وصورة المرأة التي يبحث عنها
أثناء انتظاره توصيلة بعد أن تعطلت سيارته القديمة.
هذه العلاقة بين "حازم" و"يحيي" ترسم رسمات أخري عابرة للأجيال
وللاختلافات علي جسور المشاعر الإنسانية والتعاطف الذي يلقي الفجوة
بين الأجيال أحياناً وقد يتكئ جيل علي الآخر بإحساسه وحدسه فقط حتي
لو غابت الذاكرة.
فعن طريق "حازم" وعمله غير المشروع يعثر "يحيي" العجوز ـ مصادفة ـ
بالمرأة التي في الصورة. والتي أحبها طويلاً وظل يبحث عنها! يجدها
في بيت "سامح" هكذا من دون مقدمات ورب صدفة خير من ألف ميعاد.
نجح المخرج في صنع عمل سينمائي جيد ومتناغم في تعبيره عن ما جري من
تحولات اجتماعية وثقافية من دون مباشرة وإنما من خلال تضفير خيوط
الحكايات المتنوعة التي ربطت بين الشخصيات ومن خلال اللغة البصرية
المختارة بعناية التي صنعت بيئة مناسبة ومنسجمة مع طبيعة الشخصيات
مثلما نجح في رسم الشخصيات كل علي حدة. واخرج من كل ممثل
الانفعالات المناسبة للمواقف المتباينة بما تحمله من أفكار تعكس
الزمن "بتوقيت القاهرة كما عاشوا فيها" وأيضاً من خلال الهيئة
والملابس ولغة الجسد.
واستطاع المخرج بحرفية أن يفصل بين الحكايات بخيوط غير مرئية ثم
يعيد لملمتها في نسيج منقوش بصور من الماضي والحاضر وبورتريهات
متنوعة للكبار والصغار..
وأكثر ما يلفت النظر أنه أوصل الخيوط إلي نهايات سعيدة بأقل قدر من
التكلف وأوصل كل شخصية إلي لحظة "تنوير" خاصة بها من دون مباشرة أو
وعظ.
فالممثلة القديمة "ليلي" التي لعبت شخصيتها بإقناع وتمرس ميرفت
أمين. تدرك خطأها حين استسلمت إلي المفاهيم المضللة دون النظر إلي
قيمتها كفنانة وإنسانة قادرة علي الاستقلال دون ضرورة الارتباط
برجل مُشوه الفكر والعقيدة. وكذلك استعاد الممثل المخضرم "سمير
صبري" المهموم بأثقال الوحدة والملل. استعاد توازنه النفسي بالعثور
علي جزء مهم وعضوي في ماضيه الفني واستعان بخياله في الخلاص من
ورطة الزواج المزعوم بتمثيلية من اخراجه. وعثر الرجل العجوز المريض
بمرض النسيان والتوهان علي حبيبته القديمة التي حمل صورتها طويلاً
ووعت "سلمي" الشابة الصغيرة أن القصة التي جمعتها مع وائل كريم
قاسم هي الحلال بعينه وأن الجيران. وتطفلهم ليسوا جديرين بالالتفات.
نجح أمير رمسيس في بناء الحكايات وفي خلق درامات اجتماعية كاشفة
لرؤاه عن مجتمع أصابه ما أصابه شكلاً ولكنه لم يصل إلي طريق مسدود
رغم التعصب والتحرش الجنسي وانتشار المخدرات.. واستخدم أسلوب أفلام
"الطريق" مرة والحكايات الخرافية
"Fairy tale"
وأفلام "العصابات" والكوميديا وأعاد الأمور إلي نصابها حتي "الساعة
القديمة" لم تتهشم بالكامل في موقعة الضرب التي أسالت دماء حازم
"شريف رمزي" لعلها الجزاء العادل علي خروجه عن القانون..
حرص المخرج علي "هندسة" الأحاسيس باستخدام كل عناصر الفيلم المرئية
والمسموعة للتعبير عنها وبنائها وبدت حاضرة جداً في حالة يحيي الذي
أضاع المرض ذاكرته ولكنه لم يفقد إحساسه بالناس وبمن أحبهم في
ماضيه وحاضره حتي لو نسي أماكن اللقاء معهم وأسماءهم. أحب ابنته
أميرة ولم ينسها. ولم ينس زوجته "نادية" وكذلك حبيبته التي نسي
اسمها واحتفظ بصورتها.
وترجم الممثلون ـ الشباب والكبار ـ شحنات العاطفة بدرجاتها
وألوانها وقوة وقعها بلغة تعبيرية مقنعة أبقت علي حالة التواصل مع
الفيلم أثناء الفرجة. وأعترف شخصياً بأنني تأثرت بأداء نور الشريف.
نظرات عينيه ومستويات أدائه الصوتي وانعكاسات المشاعر الداخلية علي
ملامح وجهه من دون حوار وكان رائعاً فياضاً بالأحاسيس أمام فرصة
اللقاء والحنين إلي معشوقته القديمة وأنا أعني ـ السينما ـ بعد
انقطاع سنوات ومع دور صعب واختيار موفق جداً من قبل مخرج الفيلم..
حتي الأدوار الصغيرة لدرة والشاب الذي لعب شخصية طارق المحب
لجيفارا ورموز الاشتراكية. والذي ظهر في لقطة واحدة.. حتي هذه
الأدوار لم تكن عابرة وإنما في صلب البناء الموضوعي والفني للفيلم. |