أول فيلم روائي طويل في السينما الخليجية
«بس
يا بحر».. علامة فارقة
إبراهيم الملا
من ماء إلى ماء، ومن موجة صغيرة وغامضة، إلى موجة هائلة تحدّد مسار
عمر وقدر، كانت هذه المسافة المتحركة التي امتزج فيها التعب
بالبهجة، وتداخل فيها الكدّ مع لذة الاكتشاف، هي ذات المسافة التي
قطعها الفنان والكاتب المسرحي والسيناريست الإماراتي عبدالرحمن
الصالح منذ خمسين عاماً، حين غادر بلدته الساحلية الحميمة
(خورفكان) والمحاصرة بالجبال وقلق العيش ورغبة الترحال، غادر
الصالح أرض العسل والضباب، ذاهلا بطفولته وذكرياته المتشكلة للتوّ،
ومتجهاً إلى الكويت، تحرسه الأدعية وتلك الآمال الملونة التي
ادخرها له والده وعائلته الصغيرة، الباحثة عن فرصة جديدة للعيش في
مكان مقبل على ازدهار اقتصادي يضمن لأبناء المنطقة فرصاً ذهبية
للعمل ومزاولة المهن المختلفة في بلد واعد وطامح للتغيير، ويتلمّس
عصراً مختلفاً هو الآخر ومنفتحاً على الحداثة وتطوير منظومة البناء
والتعليم والفنون، كتوظيف عمراني وإنساني وثقافي مطلوب بعد اكتشاف
النفط في الكويت مبكراً مقارنة بالدول المجاورة.
وهناك قرب السواحل الضاجّة بالنهمات والمواويل، والمحتشدة بأفراح
الغاصة وعذاباتهم وأخيلتهم الهائمة، قدم عبدالرحمن الصالح بعد
اندماجه وتفاعله وعشقه للوسط الثقافي والفني في الكويت، واحدة من
أهم الأعمال السينمائية الريادية المؤثرة والحاضرة إلى اليوم وهو
فيلم : «بس يا بحر» من إخراج وإنتاج الفنان الكويتي خالد الصديق،
الذي شارك أيضا في كتابة السيناريو مع كل من الصالح والفنان سعد
الفرج، والسينارسيت المصري ولاء صلاح الدين، وبعد عرضه الأول في
عام 1971م تحول الفيلم إلى علامة فارقة في تاريخ السينما الخليجية
كأول فيلم روائي طويل يعرض في صالات السينما بالمنطقة، ويشهد
مشاركة نخبة من الممثلين الكويتيين المميزين أمثال سعد الفرج في
دور أبو مساعد، ومحمد المنصور في دور مساعد، وحياة الفهد في دور أم
مساعد، وغيرهم من الممثلين الذين يقفون لأول مرة أمام الكاميرا
السينمائية، توالت نجاحات الفيلم بعد فوزه بالعديد من الجوائز
المهمة أثناء مشاركته بالمهرجانات العربية والعالمية في دمشق
وطهران وفينيسيا وشيكاغو ونال ترشيحاً لافتاً ضمن قائمة أفضل فيلم
أجنبي في حفل جوائز الأوسكار عام 1972.
استغرق تصوير الفيلم سنتين كاملتين بين عامي 1969 و 1970 ، وهو
أيضاً أول فيلم على مستوى العالم العربي يتضمن لقطات مصورة تحت
الماء، وبتفحص المقاييس التقنية والإنتاجية في تلك الحقبة وفي
منطقة الخليج بالذات، فإن ظهور فيلم (بس يا بحر) يعتبر إنجازاً
ومعجزة فنية يندر تكرارها.
استلهم عبدالرحمن الصالح قصة وحوارات الفيلم من وحي التجربة
الحياتية والمهنية الثرية التي عاشها والده الذي كان بحاراً في
الأصل، وكذلك من وحي الحكايات والقصص التي خبرها البحارة الكويتيون
القدامى أثناء رحلاتهم الطويلة بحثاً عن اللؤلؤ، وجاء الفيلم
معبراً عن هذه الدراما الإنسانية والنفسية المتلاطمة وسط الواقع
الاجتماعي الصعب في تلك الأزمنة البعيدة، واقع امتحن الخصوصية
المكانية والمعرفية والتراثية المتقاطعة وبعمق مع طبيعة البحر
ذاته، وما يتضمنه من ملحمة صارخة بين ضفتي الميلاد والفناء، والفقر
والغنى، والموت والحياة... نعرض هنا المشاهد الأربعة الأولى من
سيناريو فيلم «بس يا بحر».
بس يا بحر
سيناريو: عبدالرحمن الصالح
خارجي / نهار
لقطة عامة للبحر تظهر فيها مجموعة من الصيادين وهم يغزلون شباكهم
على الساحل وأصوات تلاطم الأمواج طاغية على المشهد.
أحد الصيادين ( أبو إبراهيم) موجهاً كلامه لرفيقه ( أبو مساعد)
الجالس بعيداً عن الصيادين : انت ما تقولي إش قاعد تتطالع ؟
يرد علي رفيقه (أبو مساعد) ــ الفنان سعد الفرج ــ وعليه ملامح حزن
: اللي اطالعه ما تشوفه إنت،
أبو إبراهيم : عيزت وأنا أطالع، ماني شايف شي.
أبو مساعد : يا أبو إبراهيم أنا أطالع هاي المويه، شوفها كيف تبتسم
لي، لأني عارف أسرارها وخفاياها.
أبو إبراهيم مستغرباً : هاه ؟
أبو مساعد : قصدي إن ورا كل ها السكوت والابتسامة في طمع وبخل
وعناد
أبو إبراهيم : بس يا بو مساعد ، البحر كل أهل الكويت عايشين من
وراه، إنت وأنا وغيري وغيرك، والبحر كريم.
أبو مساعد (وملامح الانكسار بادية عليه) : كريم للضعيف والصبور،
انت تنتظر ساعات وساعات بشبكتك هاذي، يا الله تعطيك سمجة ولا
اسمجتين، أما الناس اللي مثلي، اللي يلقط وياخذ بيده اللي يبي،
يعانده البحر ويصارعه ويحطمه، حتى ما يخذ منه كل شي.
***
تظهر تترات الفيلم وأسماء المشاركين فيه من ممثلين وتقنيين مع صوت
إيقاعات بحرية متواصلة
***
عودة لمشهد البداية
أبو مساعد يشير للأمواج الهائجة في البحر، ويقول للصيادين المحيطين
به : شوفو ، شوفو.
مشهد (3 )
داخلي / نهار
مساعد ــ الفنان محمد المنصور ــ يخرج دلو الماء من البئر في منزل
متواضع ويخاطب أمه : يمّه، قلتي حق أبوي ؟
الأم ــ الفنانة حياة الفهد ــ وهي منشغلة بتنظيف أواني المنزل :
قلتله، لكن ما رضى
يرمي (مساعد) الدلو في البئر بعنف وغضب ويقول لأمه : يا يمّه، أنا
لازم أروح الغوص، ما يصير أقعد، الناس قاعدة إتعيب عليّ وإتعايرني
الأم : لكن أبوك قال لا، وإنته تعرف رايه
مساعد : أبوي لازم يغير رايه
يعود (مساعد) لهدوئه ويملأ الدلو مرة أخرى ويسكبه في وعاء تستخدمه
والدته ويقول لها: يمّه نحن مب لازم انعيش على زفارة الناس.
الأم : يا وليدي، حنا بخير، والحمد لله، مو إحنا بحاجه.
مساعد ــ متسائلا ــ: الخير اللي إتقولين عنه، مب هو من اللقمة
اللي إتيبينها إلنا من شغلج عند الناس ؟
يرمي (مساعد) الدلو في البئر وبغضب مضاعف هذه المرة ويقول : لين
متى وإحنا بنتم على هاي الحالة.
الأم ــ بصوت عال ــ : وشو تبيني أسوي، إذا أبوك عايب وما يقدر
يشتغل
مساعد : عشان جذي أبا أدش الغوص
صوت طرق على الباب
مساعد : زين، زين
الأم : منهو
مساعد : رفيجي بدر
ويكمل : تبين ماي ولا بس
الأم : لا .. بس
مساعد يحمل غترته متجهاً نحو الباب ويقول لأمه : رايحين البحر
الأم : مع السلامة يا وليدي.
مشهد 4
خارجي / نهار
(مساعد) يطلّ بوجهه متلصصاً وحذراً في إحدى السكيك في الحي، وأطفال
يعبرون قربه، يمشي خائفاً ومسرعاً في الأزقة الضيقة بين البيوت
الطينية، ثم يتوقف عند أحد المنازل ويرمي بحجر على نافذته العلوية
ومنادياً : نورة ، نورة
تفتح نورة النافذة وترد عليه بصوت خفيض : أهلا مساعد، شلونك ؟
يرد مساعد : زين، أمس ما شفتج ؟
نورة : أبوي ما طلع من البيت أمس
مساعد وهو يراقب الطريق : إلّا ما قلتلج، أمس رحت حق النوخذه.
نورة ــ مندهشة ــ وهي ممسكة بقضبان النافذة : إش قلت مساعد ؟
مساعد ــ متسائلا ــ : علامج ؟ إشفيج ؟ قلتلج رحت حق النوخذه
نورة : يعني عزّمت تروح الغوص ؟
يأتي رجل على حماره ويقطع حديثهما، يتفاجأ به مساعد ويرمي بنفسه
على الأرض
الرجل : أوه مساعد، سلامات، عسى ما شرّ
مساعد : ما فيني شي، بس صبعي طقته لجمه.
نورة متخفية وراء النافذة، تراقب المشهد
يهرب حمار الرجل، فيسرع الرجل لمطاردته ويغادر المكان .
يضحك مساعد ويعود لمخاطبة نورة قائلا : نورة
ترد عليه : قلتلي بتروح الغوص ؟
مساعد : عشان أقدر أيمّع مهرج ونتزوّج
نورة : وتخليني بروحي ؟
مساعد : برد لج، ما أقدر أخلّيج بروحج
نورة : الله يخليك يا مساعد، لا تروح
مساعد : لازم أروح، أنا مجبور
نورة : أبغيك تقعد إهني ، علشان أقدر أشوفك.
مساعد : أنا معاج، وإنتي معاي بقلبي، أحبج، أحبج يا نورة
نورة : لكن إمبيّن يا مساعد إنك تحب البحر أكثر مني، علشان جذي
عزّمت إتروح، مو جذي؟
مساعد: إنتي إتعرفين شو ممكن أنحصله من البحر، بعدين لازم أروح، إش
قلتي يا نورة ؟ موافقة ؟
لقطة مقربة على وجه نورة وهي تقول لمساعد : ما أدري، ما أدري ، بس
أنا خايفة
مساعد: إش منه خايفة ؟ هذا حالنا وحال أهلنا، الكويت كلها جذي،
مالنا بد من السفر والغوص.
يظهر شخص من بعيد وكأنه يراقبهما
مساعد : جنه في واحد ياي
نورة : يالله يالله أنا خايفة
مساعد : ليش نخاف
نورة وهي تحاول أن تداري وجهها: أنا خايفة
مساعد : إتخافين من الناس؟ ليش إتخافين، ما علينا منهم
مساعد ــ مستدركاً ــ : جنه أبوي اللي ياي
ينتابه الخوف ويقول لنورة : مع السلامة ، مع السلامة نورة
ــ قطع ــ
نرى مساعد وهو يجري هارباً وسط الحواري الضيقة ويدخل إلى منزله
لاهثاً. |