فيلم «أمل» للفرنسي بوريس لوجكين.. حين يغدو الأمل حادّاً كسكّين
ايمان حميدان (باريس)
ليس صدفة ان يحمل الفيلم الروائي الأول للمخرج الوثائقي الفرنسي
بوريس لوجكين (1969) الذي يحكي قصة المهاجرين الأفريقيين وتجربة
عبورهم غير الشرعية من أفريقيا الى أوروبا عنوان «أمل»
Hope.
ذلك أنه رغم كآبته التي لا حدود لها لا يفتقد في نهايته الى نافذة
نور ولو ضئيلة، نحو أمل يتطلع اليه المهاجرون الحالمون بحياة بعيدة
عن الفقر والعنف والحروب.
إلا أن نافذة النور تلك تقع في نهاية نفق طويل ومعتم يجتازه
الحالمون بأوروبا ويتعرضون في رحلتهم تلك الى أبشع أنواع القهر
والابتزاز المادي والعاطفي والجنسي هذا إن كان حظهم جيداً
واستطاعوا خلال رحلتهم تلك البقاء على قيد الحياة. وقد يسأل
المشاهد لماذا يقوم مخرج اشتهر بأفلامه الوثائقية باللحاق بحيوات
اولئك الناس الذين تركوا أوطانهم واستقروا في غيتوات مؤقتة على
طريق رحلتهم نحو أوروبا التي قد تأخذ سنوات طويلة من أعمارهم. قد
يجد السؤال اجوبة له إنْ تعرفنا على مشوار بوريس لوجكين الحياتي
اللافت هو أيضا، اذ درس في البوليتكنيك وهي من اهم الكليات
الفرنسية في باريس ثم درس الفلسفة ومارس مهنة تعليم الفلسفة الا
انه فجأة ترك عالمه الاكاديمي واتجه نحو الافلام الوثائقية بعد
رحلة قام بها الى فييتنام عام 2001. تلك الرحلة غيرت حياته كما
يصفها. بعد اخراج عدد ضئيل من الافلام الوثائقية بدأ بوكين
الاربعيني مشواره الاخراجي في فيلمه الروائي الاول «الامل» ليحكي
قصة شابة نيجيرية اسمها هوب (امل) (النيجيرية انديورانس نيوتن)
وشاب كاميروني اسمه ليونارد (جوستين وانغ) التقيا في رحلة الهجرة
غير القانونية والسرية واشتركا في طريق قاسية وفي حلم واحد الا وهو
الوصول الى اوروبا. تلك الرحلة التي تجبر المهاجر التخلي عن
إنسانيته كي يستمر على قيد الحياة، تربط الاثنين بحب يبدو من
المستحيل الاستمرار فيه.
مجموعة من الشباب الكاميرونيين في بلدة صغيرة من الصحراء
الجزائرية... يقررون السير والانتقال بشتى وسائل الانتقال الى
المغرب ويحلمون بالوصول الى اوروبا عبر اسبانيا. بينهم صبية
نيجيرية اسمها أمل حاولت قدر الامكان التخفي بملابس شاب الا انها
اكتُشفت وحاول احدهم التحرش بها وجوبه بعنف من بقية المجموعة. لم
يشاؤا التحرش بها صحيح ولكنها صارت خارج المجموعة منذ اكتشافهم
انها امرأة. ليس هذا فحسب بل كونها تنتمي أيضاً الى بلد آخر هو
نيجيريا وليس الكاميرون. على الحدود المغربية الجزائرية توقفت
الشاحنة التي كانت تقلهم. أُنزلوا جميعاً وتم اغتصاب هوب من قبل
حرس الحدود. اراد الكاميرونيون تركها خلفهم على الطريق وتابعوا
سيرهم، الا ان ليونارد شاب من المجموعة عاد لاصطحابها فيما كانت
جالسة على قارعة الطريق تتمنى الموت لنفسها بعد اغتصابها. ليونارد
الشاب الخجول لم يتبع الشرط الاول للهجرة غير الشرعية ألا وهو: في
مغامرة الرحلة لا مكان يتسع لغيرك! عاد اليها ليساعدها على متابعة
السير، يقاسمها الماء الذي يحمله... ساعدها على النهوض حين تقع من
شدة الإعياء، ومتابعة السير في الصحراء تحت الشمس الحارقة. مع
الوقت، غدت هوب بمثابة مصير مبهم للشاب ليونارد. مصير لم يختره إلا
أنه قبله وبدأ الاعتياد عليه.
الشابة هوب والكاميروني ليونارد ارتبطا ببعضهما عبر حب نما ببطء
وسط قساوة تجربة تقف دائماً على حافة الموت. رحلة الانتقال من بلد
الى آخر كي يصلا الى مليلة ومنها في زورق مطاطي صغير الى الشواطئ
الاسبانية لا يقل قساوة عن طريق الجلجلة. لكن يخسر ليونارد حياته
ويصل الى اسبانيا جثة تحتضنها ذراعي هوب الحامل. ها قد وصلت الى
اوروبا لكن بعد أن قطعت عهداً للمافيا على ان تدفع مبلغاً كبيراً
لن تحصل عليه ان لم تتخل عن طفلها بعد الولادة لبيعه. هكذا يغدو
الأمل حادَّاً كسكين.
شخصيات حقيقية لم تمثل قبلاً
تتداخل قصص الشخصيات بحيواتهم الحقيقية. قد يكون هذا التأثير الذي
تركته حرفية المخرج في العمل لسنوات في الافلام الوثائقية فأراد في
فيلمه الروائي الاول ان يقدم اناسا حقيقيين عاشوا تجربة الهجرة غير
الشرعية، عانوا منها وما زالوا يعانون حتى اليوم من نتائجها.
الممثلون لا اوراق لديهم تماماً كما يصورهم الفيلم. هم في الواقع
مهاجرون من دون اوراق ينتظرون اليوم الذي سيكون باستطاعتهم العبور
الى اوروبا.
بحث المخرج عمن يلعب أدوار شخصيات فيلمه ووجدهم في غيتوات
المهاجرين في المغرب. المهم انهم تقريباً عاشوا في الواقع ما قاموا
بتمثيله فأتت تعابير وجوههم وردات فعلهم عفوية وليست بعيدة عما
عاشوه وخبروه. اثناء بحثه عن أشخاص للعب الأدوار الرئيسية، لم يجد
المخرج أي امرأة مهاجرة بطريقة غير شرعية نجت من الاغتصاب او من
الدعارة. النيجيرية انديورانس نيوتن التي لعبت دور هوب، هي فعلا
مهاجرة غير شرعية وصلت الى المغرب منذ 4 سنوات وهي تعمل أي شيء في
المغرب وتحلم باليوم الذي ستصل فيه الى اوروبا. كذلك الامر بالنسبة
للكاميروني جوستين وانغ الذي لعب دور ليونارد الكاميروني في
الفيلم. بعد ان استفاد من اموال الفيلم قرر جوستين العودة الى
الكاميرون ثم دخول المغرب بأوراق حقيقية وبإجازة سفر شرعية. يريد
ان يبدأ بعمل صغير يبيع فيه المنتوجات الافريقية في المغرب. أما
انديورانس فقد أرسلت المال الذي حصلت عليه في الفيلم الى اهلها في
نيجيريا. وما تزال تحلم بالوصول الى اوروبا ولا تريد التخلي عن هذا
الحلم. تلك الغيتوات الافريقية هنا وهناك في المغرب وفي بقع عديدة
من صحارى شمال افريقيا، حيث المهاجرون الذين تركوا وراءهم عائلات
تعتمد على ما يبعثونه لهم من مال ولو قليل لسد رمق افراد العائلة
وحمايتها من الموت جوعاً.
قد يقضي المهاجر عمره بانتظار ذلك اليوم، ذلك ان الهجرة نفسها
تحتاج الى كثير من المال يدفعه المهاجر للمافيات المنظمة. في
الفيلم اضطرت هوب ان تعمل في الدعارة لتجمع المال مع ليونار
ليستطيعا الهرب معاً باتجاه اوروبا. الا ان المافيات غالباً ما
تتدخل وتصادر المال وعلى المهاجر أن يبدأ من الصفر من اجل السفر.
يبدأون من الصفر ولا يفقدون الامل في جو سيزيفي قاهر.
الهجرة عبر الوسائل غير الشرعية هي بحد ذاتها موضوع حداثي يحاكي
البلدان الاوروبية خاصة والعالم الجديد من استراليا الى كندا الى
الولايات المتحدة الاميركية. أن تنتقل من مسقط الرأس حيث الفقر
والعنف وانسداد الافق الى اماكن أخرى تبدو لمن يطلب الهجرة شعاع
حياة جديدة ومغايرة.
الهجرة غير الشرعية كما يحلو للغرب تسميتها تميت الآلاف سنوياً إما
في عرض البحر أو لأسباب عديدة يقدم فيلم الأمل بعضها. الطريق التي
يبدأها من اراد الهجرة غير الشرعية قاسية الى حد لا يتخيله عقل،
كثير منهم يقتلون لأنهم لم يستطيعوا أن يتحملوا أو أن يتلاءموا مع
شروط الطريق القاسية وأقصد هنا شروط العلاقات البشرية التي تفرض
على المهاجر الخضوع لمافيات الهجرة التي تعذب وتقتل وتزور العملة
ووثائق السفر، الى جانب التجارة بأي شيء من الأعضاء البشرية الى
الاطفال الى تجارة الدعارة وتشغيل الفتيات المسلوبات الارادة وبيع
أطفالهن. والعنف الذي يواجهه المهاجر غالباً ما يكون على أيدي
اولاد بلده الذين هاجروا قبله وعاشوا تجربة العنف تلك واعتادوا
عليها.
فيلم «أمل» هو عن الهجرة الافريقية الا ان في الماضي القريب ذهب
المئات ان لم نقل الآلاف من الآسيويين والعرب في عرض البحر وهم
يحاولون الوصول الى الشواطئ الاوروبية أو الى استراليا، وليس بعيدا
في الزمن غرق الباخرة التي كانت تحمل مئات العائلات السورية
والفلسطينية والعراقية في محاولة منها للنجاة من اتون الوحشية التي
تضرب البلاد العربية منذ سنوات. ونرى تلازم هذا النوع من الهجرات
مع التشديد في قوانين الهجرة في البلدان الاوروبية وفرض قوانين
جديدة كل فترة زمنية يموت خلالها عدد كبير من فقراء العالم
الهاربون من الحرب او الفقر او العنف القبلي والمجازر المتنقلة.
قد تبدو للقارئ المقارنة بين مهاجري افريقيا وبين خادمات البيوت
الافريقيات وخاصة الاثيوبيات غريبة بعض الشيء. الا انها ليست كذلك.
أولئك النسوة اللواتي يأتين الى لبنان والعالم العربي فيما يتركن
وراءهن عائلة وأطفالاً. اولئك ايضا يضطررن الى التوقيع على صكوك
ديون عليهن دفعها لمافيات التجارة بالعمالة الاسيوية التي توزع
ادوارها بين البلد المصدِّر والبلد الذي يستقبل. لا ارى أي فرق على
الصعيد الانساني بين تلك الجهات التي تسهل سفر العاملات وأولئك
الذين يسهلون الهجرات غير الشرعية. القسوة والنذالة شعار اساسي أما
المال فهو الإله الوحيد.
التابو في السينما العربية مثل معركة متعددة الجبهات
سليمان الحقيوي
تفرض السياقات الثقافية والاجتماعية المتغيرة في العالم العربي، أن
يلتفت السينمائي، إلى كل القضايا، التي من شأنها، انتشال المجتمع
العربي من وضعه المتردي، لأن للسينما قدرتها السحرية الكبيرة على
النفاذ إلى العقول وتغيير الأفكار ونشرها، إن هي تمتعت بالقدر
الكافي من الحرية، وتجربة السينما الغربية دليل على قدرة الفن
السابع على تغيير حياة الناس.
لكن حتى وان كان للسينما العربية الحق في استقاء مواضيعها من
الواقع والتاريخ العربيين، فهي عاجزة اليوم عن تناول التيمات التي
تقع داخل حدود سياج النظام القيمي والأخلاقي في المجتمع، وتوسيع
دائرة اشتغالها، ولا يحق للمخرج العربي تحريك الكاميرا في أي اتجاه
شاء، لأن معجم الرقابة العربي، كثيرا ما يستخدم كلمات المنع
والتحريم ضد كل عمل تناول موضوعا جريئا عن الثالوث المقدس. غير أن
السينمائي العربي استطاع، أن يشاكس القوانين، ويكسر القيود، خصوصا
في السينما المصرية، عبر تراكم كبير تناول قضايا الدين والسياسة
والجنس، كفيلم (غرباء، إنتاج 1973) لسعد عرفه، و(بحب السيما 2004)
لأسامة فوزي، عن زوج أرثوذوكسي وزوجة بروتيستانية، و(حمام
الملاطيلي 1973) لصلاح أبو سيف عن المثلية الجنسية، و(سيدة الأقمار
السوداء 1971) لسمير خوري الذي عرض مشاهد جنسية في تجربة جريئة
لمخرجه، وهناك فيلم (المهاجر إنتاج العام 1994) الذي حاكى فيه يوسف
شاهين قصة النبي يوسف.. وهناك أعمال سبقت وتلت هذه الأعمال، وكلها
حاولت تكسير جدار الصمت، والاقتراب من مواضيع محرمة، طرحت من
خلالها أسئلة تخلخل الفهم الجامد لهذه القضايا ومساءلة منطلقات
المنع، وكشفت تناقض المجتمع إزاء ما يعتقد وما يريد. ولم تسلم هذه
الأعمال من موجات النقد المعتادة، حيث تعرضت للمنع والرفض.
الثالوث المقدس
وما يلاحظ اليوم أن المساحات التي كسبتها السينما في الماضي عبر
حربها مع تصوير الثالوث المقدس، هي مهددة اليوم بفقدانها، متأثرة
بالردة الفكرية التي يعانيها المجتمع العربي، وترديد مقولات المنع
والتحريم.. فإذا كانت السينما قد وجدت طرقا ووسائل فنية متحايلة
أحيانا وغير معلنة أحيانا أخرى للتمكن من تابو الجنس والسياسة، فهي
اليوم عاجزة عن فعل الشيء نفسه أمام التابو العتيد الدين.
بل يبدو وبخلاف سنة التطور، أن الاقتراب من مواضيع دينية سينمائيا،
أمر صار فيه مخاطرة كبرى، ومغامرة محفوفة، تجعل المخرج تحديدا
والسينمائي عامة، يتردد كثيرا قبل خوض تجربة داخل حدود الدين، فمن
ناحية أولى فمنع الفيلم من العرض يحرمه من استرجاع تكاليف إنتاجه،
خصوصا في ظروف الإنتاج الصعبة التي تعاني منها السينما العربية،
ومن ناحية ثانية هناك عنف موجه لمن يشتغل على قصص عن الدين، بل
الأمر تحوّل إلى خوف من تبعات هذا العنف في ظل موجة التطرف الديني
التي يعرفها المجتمع العربي.
فالسينما الآن تخسر معركتها ضد تابو الدين في أكثر من مناسبة، بل
أصبحت المواضيع المرتبطة بالدين، خصوصا الموغلة في البحث عن أحقية
الصورة في التطرق لقضايا دينية من قبيل تصوير الأنبياء، والرسل،
والصحابة، خطوطا لا يمكن حتى مناقشتها، بل حتى الأفلام الغربية
التي تتناول ظاهرة مشابهة محكوم عليها بالمنع، وهنا نستحضر فيلم
«نوح» لدارين أرنوفسكي، وفيلم «الخروج: آلهة وملوك»، لريدلي سكوت،
حيث منع العملان معا من العرض في القاعات العربية. ووصل الحد إلى
تهديد الممثلين المغربيين سعيد باي، ورفيق بوبكر بالقتل والحرق بعد
مشاركتهما في الفيلم الأميركي (ابن الله لكريستوفر سبينسر). وهذه
تطورات خطيرة في مسيرة السينما والفن العربيين، تخالف سنة التطور
التي يسير العالم وفقها، كيف تصبح السينما الآن مضطهدة، في عصر
التكنولوجيا والصورة، بعدما تنفست في الماضي في جو أكثر تحررا من
اليوم؟
احتشام
وقد وجدت السينما لنفسها منافذ عدة لتناول قضايا عن الجسد، فهناك
أفلام تقدم مشاهد جريئة، لكنها حتما لم تصل إلى نفس جرأة سينما
الماضي، سينما الزمن الجميل، فالسينما اليوم تقدم قصصها باحتشام،
وسط مسمى رقابي جديد «السينما النظيفة». على الأقل السينما في
الماضي لم تكن تناقش قضاياها في مستويات دنيا كهذا المعيار الغريب
الذي ظهر بداية الألفية الجديدة، وينظر إلى الفن وكأنه قطعة قماش
عليها أن تكون بيضاء غير متسخة، وعلى السينما إن أرادت أن تكون
نظيفة ألا تقدم مشاهد وصور عري وقبل ولباس مثير، حتى وإن كان لذلك
ما يبرره دراميا. رغم ذلك استطاعت السينما أن تقدم مشاهد عن الجنس
باحتراز فني كبير، ودائما كانت السينما المصرية هي المرجع الأول،
والسباقة إلى تقديم أفلام جريئة. ثم هناك التجربة المغربية التي
عرفت في عهد نور الدين الصايل، تحولا جذريا في اختراق تابو الجنس
وتقديمه، فالرجل كان يرى أن السينما لها كل الحق في تقديم الصور
والمشاهد التي تشاء، وعرفت فترة ترؤسه للمركز السينمائي المغربي
تقديم الكثير من الأعمال السينمائية كسميرة في الضيعة، والمنسيون،
وحجاب الحب، ولحظة ظلام، ومارووك.. لكن رغم توجه الصايل المتحرر،
لم تكن أغلب هذه الأعمال السينمائية قوية فنيا، وكانت مشاهد الجنس
فيها، متكلفة، وقصصها مفككة، تفتقر إلى البناء الدرامي المحكم
والتصور الفني الذي يجعل منها أفلاما سينمائية حقيقة، فالجسد هنا
مجرد آلية سلوكية ومؤثر يهدف الى تحريك استجابة الجمهور وشباك
التذاكر !!. لكن وكما يقول غودار: «حتى أفلام البورنو تحتاج إلى
قصة». فالعديد من الأفلام التي تناولت قضايا كانت في الماضي القريب
من المسكوت عنه في المغرب، تفتقد إلى رؤية إخراجية عبقرية، خصوصا،
وأن الالتجاء فيها إلى الجنس والمشاهد المرتبطة به، هو توجه
براغماتي موجه بغرض التسويق للفيلم، أو بهدف قطف ثمار الضجة
الإعلامية التي تثار حوله وحول مخرجه. هذه الأفلام تحرج النقاد
أحيانا خصوصا المؤمنين منهم بحرية التعبير.
أما السياسة فتبقى السينما المصرية هي فقط، التي حققت فيها تراكما
كبيرا، من خلال العقود الأخيرة، سواء أفلام خالصة لموضوع سياسي أو
اجتماعي، أو تقديم لمحات متفرقة في العديد من الأعمال. وتغيب
السياسة عن أغلب التجارب السينمائية في العالم العربي، في ظل تحكم
الحكومات العربية في تمويل السينما.
على السينمائيين العرب أن يستشعروا الخطر، الذي يهدد الفن السابع
في العالم العربي، إنها معركة مفروضة، علينا خوضها من أجل التغيير،
من أجل المجتمع، من أجل السينما نفسها.
(ناقد سينمائي من المغرب)
من يصنع المحرمات.. الاعتراف الممنوع
محمد شعير
الدين والجنس والسياسة، الثالوث المحرم في الثقافة العربية.. هل لا
يزال محرماً؟ ربما، وربما أضيف إليها تابوهات أخرى، كالكتابة عن
الأديان والطوائف الأخرى، وربما الكتابة عن أعداء الأمة، كأن تكتب
عن رحلة إلى الكيان المحتل، فتجد نفسك خارج ما يسمى بالجماعة
الثقافية، خارج الإجماع الثقافي المتوهم. بإمكاننا أن نضيف إلى هذه
القائمة من المحرمات أشياء أخرى كثيرة.. لكن التأمل بعمق في
الموضوع يجعلنا نيقن أن المحرمات القديمة لم تعد كذلك... بإمكانك
أن تكتب في كل شيء.. أن تقول كل شيء. سواء بلغة مجازية أو بلغة
صادمة.. الفضاءات مفتوحة لتجاوز كل الأسوار.. مطلوب منك فقط أن
تتحمل نتيجة ما تقول او تكتب!
هل لدى المثقف العربي استعداد لكي يقول كل شيء؟ من يضع المحرمات
له.. هل يضعها لنفسه.. أم أن هناك سلطة تضع قوائم «المرغوب
والمسموح»؟
الثورات العربية اربكت الجميع، تحديدا المثقفين، الذين اكتشفوا
فجأة أنهم يعيشون في كهف افلاطون، هم أبناء سلطة العمى، المثقف لم
يكن سوى ذلك الابن البار الذي يسير بنفسه نحو «الأسلاك الشائكة»
ولكنه غير مسموح له أن يتجاوزها، ولكنه أيضا لم يحاول المغامرة من
أجل تجاوزها. المجال أصبح مفتوحا، ليس أمام المثقف سوى أن يقول ما
يشاء وقت ما يشاء.. وأسئلة الغرف المغلقة لم يعد طرحها عملا محفوفا
بالمخاطر، لأن المثقف الجديد ابن التعدد والانفتاح على العالم لم
تعد تعنيه قداسات متوهمة، أو أسطورية قديمة، تجاوزها الزمن.
بعد أيام قليلة من تنحي مبارك عن السلطة، كانت إحدى الحافلات
المتجهة من شارع «الهرم» إلى «وسط القاهرة، تحمل بين ركابها بعض
السلفيين، أدار السائق أغنية عاطفية.. أحد السلفيين اعترض وطلب غلق
الكاسيت، السائق أوقف سيارته، وأمر الراكب السلفي بالنزول صائحاً
فيه: «قضينا 30 سنة في قمع مبارك.. مش حتيجوا انتو كمان
تقهرونا..». صحيح جرت في النهر أمواج كثيرة، وصلت جماعات الإسلام
السياسي إلى السلطة، وتركتها.. لكن عاماً واحداً في السلطة كان
كفيلا لهد أحد تابوهات الثقافة العربية، ليس الدين بمعناه الروحي،
ولكن بمعناه السياسي.. أصبح كل شيء قابلا للنقاش، للكتابة، للجدل..
أحيانا بنية صادقة، وأحيانا أخرى للاستهلاك الإعلامي، المحلي أو
الغربي.. التابو الوحيد لدى المثقف العربي ـــ الآن ـــ هو أن يكتب
عن ذاته، يكتب نفسه، لا الآخرين، لا أن يخوض معارك التابوهات
القديمة.
كلامان
منذ سنوات سألت الروائي خيري شلبي عن سيرته الذاتية.. قال سيكتبها
وستفوق في جرأتها «ألف ليلة وليلة». مضت سنوات أخرى وأعدت السؤال.
لكن الاجابة اختلفت: «لدي أبناء كبار الآن..!» من هنا يمكن أن يقول
يوسف إدريس إن الحرية الممنوحة للكاتب العربي لا تكفي كاتباً
واحداً كي يبدع» أو أن يقول توفيق الحكيم عن الأزمة التي حدثت
عندما نشر نصا مطولا في الأهرام بعنوان «رسالة إلى الله» أنه «لا
يستطيع أن يكتب 5% مما يريد كتابته».. ليس فقط بسبب السلطة وإنما
بسبب المجتمع.. وهكذا أيضا يمكن أن يمنع مثقف مثل رمسيس عوض إعادة
نشر مذكرات شقيقه لويس عوض معتبراً انه تجاوز في شأن الأسرة. إذن
المرات القليلة الي كتب فيها البعض اعترافاتهم بصراحة وجرأة، أو
حاولوا أن يمسوا ذلك الثالوث المحرم: الدين والجنس والسياسة تعرضوا
لعواصف من الانتقادات الحادة. لم يغفر الأزهر حتى الآن لطه حسين
نقده اللاذع لشيوخ الأزهر، وللتعليم الأزهري في سيرته «الأيام» كما
لم يغفر بعض المشتغلين بالسياسة ما قاله نجيب محفوظ لرجاء النقاش
عن حرب الاستنزاف، ولم يغفر له الأخلاقيون حديثه عن حياة الصعلكة
التي عاشها في شبابه، كما لم تغفر العائلة ما كتبه لويس عوض عنها
في مذاكراته «أوراق العمر». لم تكن اعترافاتهم «تبريرا» أو
«تفسيرا».. كانت اقترابا من الحقيقة وتعبيرا عن «قلق» ونقد للذات
لا يكترث بتصورات الآخرين أو ردود افعالهم.
لم تعرف الثقافة العربية إذن كتابة الاعترافات كما عرفتها الثقافة
الغربية، المناخ الثقافي لا يسمح دائما أن يقول الإنسان ما يريد،
ويضطر ان يفصح عن رأيه في حديث مجالس يختلف كثيرا عما يكتبه
ويعلنه، يصبح للمثقف العربي «كلامان»: كلام للورق وكلام عليه. ولكن
لماذا غابت ثقافة الاعترافات فى الثقافة العربية، بأشكالها
المختلفة (سيرة ذاتية، رسائل..)؟
هل يتعلق الأمر بطقس الاعتراف في الكنيسة/ الغرب وغيابه عن الثقافة
الإسلامية؟
الاعتراف هو سر من أسرار الكنيسة السبعة، لا توبة أو غفران إلا به،
ظل هذا الطقس مسيطراً حتى في المجتمعات العلمانية. بينما الثقافة
العربية هي ثقافة «الستر والحجب». قد لا يكون ذلك هو السبب الوحيد
لغياب «الاعترافات» إذ يرصد تينتز رووكي في كتابه (في طفولتي..
دراسة في السيرة الذاتية العربية): «إن حرية التعبير مكبلة في دول
العالم العربي كلها، والسلطة والمؤسسات شديدة الحساسية بالنسبة
للنقد الصريح وللتمثلات الأخلاقية للواقع. من هنا أصبحت السرية
والرقابة الذاتية إستراتيجية طبيعية للبقاء بالنسبة للكتاب على
اختلافهم». وربما لا تزال الثقافة العربية أسيرة النظرة التقليدية
لمفهوم الكتابة بأشكالها المحدودة (رواية، وقصة.. وقصيدة) بينما لا
تعطى مساحة للأعمال الأخرى، مثل الرسائل وتعتبرها هامشية.
وهو الأمر الذي أشار إليه مرارا الشاعر أدونيس: الشعوب العربية
منشطرة الشخصية ولذلك فلا نجد لدينا من ضمن أنواع الأدب العربي ما
يُعرف باسم أدب الاعترافات لأن العربي توجد في مخيلته ثقافة راسخة
تؤكد أنه يولد ويكبر ويموت معصومًا من الخطأ، وأن المخطئ دائمًا هو
الآخر.».. معتبراً أن: «الثقافة العربية السائدة هي ثقافة لا تعلم
إلا الكذب والنفاق والرياء، فإذا كانت الرقابة في المجتمع العربي
جزءاً عضوياً من الثقافة العربية وليست فقط رقابة أهل السلطة،
فرقابة أهل السلطة جزء من الرقابة الاجتماعية والسياسية، فأنا لا
أستطيع أن أقول كل ما أفكر فيه وإذا قلته في قاعة كهذه لا أستطيع
أن أقوله كله، وهذا يؤكد أن الثقافة العربية لا معنى لها فهي ثقافة
وظيفية لا ثقافة بحث واكتشاف، كلنا موظفون في ثقافة سائدة». كتابة
الرسائل، باعتبارها شكلا آخر من أشكال البوح والاعتراف، أمر نادر
أيضا في الثقافة العربية، مهمل، وقد رصد لويس عوض منذ الستينيات
هذا الإهمال في كتابه «مقالات في النقد والأدب» معتبرا أننا في
الأدب العربي:
لا نحفل إلا بالأبحاث المنظمة في النقد الأدبي، أو فلسفة الفن، ولا
نقيم وزنا كبيرا لخطابات الأدباء والفنانين أو مذكراتهم أو خواطرهم
المتفرقة في الأدب والفن، وقلما نبذل مجهودا لجمع رسائل أديب أو
فنان ونشرها بعد تحقيقها، برغم أهمية ما يرد في هذه الرسائل من
آراء تلقي أضواء على الأدب والحياة. ولعل سبب ذلك أننا لا نسمي
شيئا نقدا إلا إذا قال صاحبه في عنوانه، هذا نقد فاقرأوه، أو لعل
سببه نظرتنا إلى الرسائل والمذكرات على أنها أوراق شخصية لا يجوز
هتك حرمتها.
ويضيف عوض لو أننا استطعنا جمع خطابات شوقي أو ناجي أو حافظ
إبراهيم أو أي عظيم من عظمائنا الراحلين «لاستطعنا أن ندرس عصره
وعلاقاته وفنه وفكره من خلال خطاباته كما ندرسها من خلال انتاجه
الرسمي».
كتابة الرسائل أيضا كما السيرة الذاتية استثناء الثقافة العربية،
أعني الرسائل التي يمكن اعتبارها: «الأرض المثالية التي يركض
الكاتب عليها، كطفل حافي القدمين، ويمارس فيها طفولته بكل ما فيها
من براءة وحرارة وصدق، إنها اللحظات الصافية التي يشعر فيها الكاتب
أنه غير مراقب وغير خاضع للإقامة الجبرية»، حسب وصف الشاعر نزار
قباني في كتابه «100 رسالة حب». استثناءات قليلة تركت رسائل للنشر
مثل جبران لمي زيادة، أنور المعداوي لفدوى طوقان، محمود درويش
وسميح القاسم، محمد برادة ومحمد شكري، غسان كنفاني لغادة السمان،
والطيب صالح لتوفيق صايغ، وهناك أيضا محاولة الناشر رياض الريس
لجمع رسائل جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ ويوسف الخال له في كتابه
«ثلاثة شعراء وصحافي». هل يمكن أن نتحدث إذن عن ثالوث محرم تفرضه
السلطة...؟ أم عن محرمات يفرضها الكاتب العربي على ذاته ونفسه..؟
عندما يتجاوز المثقف العربي نفسه الأسلاك الشائكة، لا أن يقف عندها
يمكننا أن نتحدث إذن عن تابوهات من خارجه.
(كاتب مصري) |