هل الحرية لا يتنفسها المبدع السينمائي إلا داخل سيارة أجرة
«تاكسي» يسوقها بنفسه حتى يفلت من قبضة الرقابة التي قد تسلط عليه
من هنا أو من هناك؟ يبدو أن المخرج الإيراني جعفر بناهي قرّر خوض
التجربة فنجح في حضور «التاكسي» في مهرجان برلين السينمائي الدولي
«البرليناله»، في دورته الـ 65، قبل أن ينتزع جائزة الدب الذهبي في
مشاركة للمرة الثانية في هذا المهرجان الدولي.
جعفر بناهي مُنِعَ من الانتقال مرة أخرى إلى العاصمة الألمانية
للتحدّث مع الجمهور الألماني حول فيلمه الجديد، أو تسلّم جائزة
المهرجان الكبرى، ولهذا السبب ألغت إدارة المهرجان الندوة المقررة
للفيلم بسبب غياب المخرج، بينما حضرت ابنة شقيقه «الطفلة هنا
سعيدي»، والتي شاركت أيضاً في بطولة هذا الفيلم.
سينمائية خلّاقة
من المعقول أن يقوم جعفر بناهي بهذه المغامرة، فهو الذي يمنع من
مزاولة فنه السينمائي مرات عدة، وهو أيضاً من قال ذات مرة
للصحافيين: «أنا مخرج سينمائي، ولا يمكنني القيام بشيء آخر سوى
إخراج الأفلام، والسينما هي حياتي».
فيلم «تاكسي» الذي قررت إدارة المهرجان السينمائي عرضه كأول شريط
يفتتح المسابقة الرسمية، هو محاولة سينمائية فيها الكثير من
الإبداع والاجتهاد والمغامرة. المخرج جعفر بناهي يسوق سيارة الأجرة
ويوظف كاميراته الخفية كتقنية لالتقاط الصور والحكايات الإنسانية
من قلب العاصمة الإيرانية طهران، إذ تولّى هو بنفسه مهمة التصوير
وإجراء المقابلات مع عدد من الركاب، بغرض تقديم صورة حيّة عن
الحياة المجتمعية في العاصمة الإيرانية.
في بداية هذا العمل يلقي جعفر بناهي نظرة من النافذة كنقطة ينطلق
منها الشريط الطويل. سائق سيارة الأجرة أو المخرج يصوّر نفسه أو
الركاب الذين يتبادل معهم الأحاديث.ومن بين هؤلاء معلمة وصاحب متجر
لإيجار أشرطة فيديو وطالب في السينما ورجل أُصيب بحادث سير مع
زوجته وامرأتان تنقلان سمكاً أحمر وابنة شقيق المخرج.كل هؤلاء
يحملون قصصاً إنسانية وصراعات اجتماعية تُعبّر عما يعيشه المجتمع
الإيراني من تناقضات ومفارقات. قصص الركاب ومواقفهم كانت في بعض
الأحيان ساخرة، كتعرف أحد الركاب على المخرج، وتأكيد راكب آخر أن
جعفر بناهي ليس سائقاً فعلياً. لكن أحياناً أخرى كانت آراؤهم تميل
إلى التعصّب في بعض المواقف، وترسم الكثير من الصور عن بلدهم.
وينتهي الشريط من خلال مشهد لم يكن منتظراً. جعفر بناهي كان
مُراقَباً من طرف رجال مجهولين يركبون دراجة نارية اقتحموا
«التاكسي» أثناء نزوله لمرافقة ابنة شقيقه الطفلة هنا سعيدي للقاء
أبيها الذي ينتظرهما. لقد كسروا كل شيء إلا التسجيلات التي لم
يعثروا عليها. وسوء حظهم كان سبباً في إمتاع جمهور «البرليناله»
بمشاهدة فيلم المخرج الإيراني الجديد. المشهد الأخير يعكس بالفعل
الرقابة التي تطوق المخرج جعفر بناهي.
الشريط الذي صُوِرَ سراً، استقبله الصحافيون والنقاد في برلين
بالكثير من الارتياح وحَقّقَ الصدى الجيد داخل المهرجان، ما جعله
ينتزع أكبر جائزة في المهرجان.
جعفر بناهي مسار حياة فنية
يُعدّ جعفر بناهي واحداً من أكثر مخرجي الأفلام المؤثرة في حركة
الإنتاج السينمائي الإيراني والعالمي. وقد اكتسب شهرته من خلال
شريطه «ثيوريست»، الذي حصل على العديد من الجوائز بما فيها الأسد
الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي.
كان جعفر بناهي في سن العاشرة عندما أَلّفَ أول كتاب له فاز
بالجائزة الأدبية لتلك المسابقة لنفس العمر. وبعدها أصبح على دراية
بصنع الأفلام، انطلق بإنتاج أفلام 8 ملم، وصار يشارك بالتمثيل في
بعضها وبالمساعدة في الأخرى. كما قام في فترة لاحقة بممارسة
التصوير الفوتوغرافي خلال فترة خدمته العسكرية.
شارك بناهي في الحرب الإيرانية-العراقية (1980 - 1990)، وأخرج
برنامجاً وثائقياً حول الحرب أثناء تلك الفترة. وبعد دراسة الإخراج
في كلية السينما والتليفزيون في طهران، أخرج عدة أفلام للتليفزيون
الإيراني، وكان المخرج المساعد للمخرج المعروف عباس كياروستامي في
فيلم أشجار الزيتون عام 1994، ومنذ ذلك الوقت وهو يخرج العديد من
الأفلام ويحصل على الجوائز في مهرجانات سينمائية دولية.
بعد تجربة في إنتاج الأفلام القصيرة وعمله كمساعد للمخرج الإيرانى
عباس كياروستامي، أنتج بناهي فيلمه «البالون الأبيض» عام 1995،
وحَقّقَ نجاحاً كبيراً، حيث حصل الشريط على جائزة الكاميرا الذهبية
في مهرجان كان عام 1995، ومنذئذ صار بناهي واحداً من أهم وجوه
السينما الإيرانية والعالمية.
وكانت أفلام بناهي مثل «الدائرة» و«التسلل» جعلته واحداً من أشهر
المخرجين الإيرانيين، لكن بعد سلسلة من المواجهات مع السلطات
الإيرانية فُرِضَ على بناهي عام 2010 حظراً لمدة 20 عاماً في ما
يتعلّق بإخراج أي أفلام أو كتابة سيناريوهات أو إجراء أي مقابلات
أو مغادرة البلاد. كما أيدت محكمة في طهران قرار الحظر على بناهي
عام 2011.
وبعد سنوات طويلة من الصراع مع النظام الإيراني فيما يتعلّق بمضمون
أفلامه والاعتقال لمرات عديدة لمدد قصيرة، اعتقل بناهي مرة أخرى في
مارس 2010 كما اعتقلت زوجته وابنته وأصدقاؤه كذلك، وكانت التهمة
تورطه في التحريض على نظام الحكم الإيراني.
وعلى الرغم من مطالبة سينمائيي العالم ومنظمات حقوق الإنسان، فقد
تَمّ الحكم على بناهي في ديسمبر/كانون الأول 2010 بالسجن لمدة 6
سنوات وإيقافه لمدة عشرين عاماً عن إخراج الأفلام وكتابة
السيناريوهات السينمائية والمنع أيضاً عن إجراء أي حوارات صحافية
سواء مع الإعلام الإيراني أم العالمي، كما مُنِعَ من مغادرة
البلاد.
يقول النقاد إن أفلام جعفر بناهي تسعى إلى معالجة المواضيع
الإنسانية المعاصرة في إيران، بغير عاطفة وبطريقة واقعية بشكل كبير
دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى إظهار رسائل سياسية. والواقع أن هذه
المعالجات تعطي جمالية فريدة للسينما الإيرانية. وفي هذا السياق،
يقول بناهي: إن أسلوبه يمكن وصفه بأنه «الإنساني في تفسير الأحداث،
والشعر والفن وسيلة لتجسيدها». ويضيف: «في عالم أصبحت فيه الأفلام
تصرف الملايين من الدولارات، قدمنا الفيلم عن فتاة صغيرة تريد شراء
سمكة بدولار واحد في شريط «البالون الأبيض»».
أسامة محمد .. منابع «ماء الفضة»
حوار: صلاح هاشم مصطفى
فيلم «ماء الفضة» للمخرج السوري، المنفي بباريس، أسامة محمد، تحفة
سينمائية بامتياز، ولأنه كذلك فقد حجز مكانه السنة الفارطة ضمن فئة
العروض الخاصة الرسمية في مهرجان «كان» السينمائي في دورته 67.
مخرج الفيلم صاحب بصمة مُتميزة في السينما العربية، هو من مواليد
اللاذقية عام 1954، درس الإخراج في جامعة موسكو، وتخرَّج فيها عام
1979. أخرج عدداً من الأفلام القصيرة :كـ«اليوم وكل يوم» و«خطوة
خطوة». لمع اسمه في السينما السورية حين حَقّقَ لها أحد أفضل
أفلامها الروائية الطويلة كتابةً وإخراجاً «نجوم النهار» الذي
عُرِضَ على هامش مهرجان «كان» في تظاهرة «نصف شهر المخرجين» عام
1988، فضلاً عن نيله السعفة الذهبية في مهرجان بلنسية الإسباني في
نفس السنة. ويُعدّ فيلمه «صندوق الدنيا» (2002) أول فيلم سوري
يشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان»...
في هذا الحوار يحكي أسامة محمد لـ«الدوحة» عن فيلمه التسجيلي
الجديد «ماء الفضة»، الذي أخرجه بالتعاون مع المخرجة الكردية وئام
بدرخان.
·
بداية، ما الذي دفعك إلى إخراج فيلم «ماء الفضة»؟
- كنت في غربتي في باريس «المنفى» على قناعة بأني يجب أن أُنجز هذا
الفيلم بالذات، فعلى المستوى الشخصي أشعر الآن بأني في «حالة
حصار»، فلم أكنْ أصدق حتى ذلك الوقت بأني غادرت وطني سورية.. وأنه
مازال هناك بشر يُقتلون ويتساقطون كل يوم.. وأن أعدادهم أيضاً في
تزايد، وأني مازلت أشاهد الشعب السوري الذي أنتمي إليه، وهو يُعبّر
عن مشاعره، ويطالب بحريته، وحين أتحدّث عن «شعبي»، فأنا أعني
«نافورة الجمال» من الشباب السوري الذي أشعل فتيل الثورة، وبدأ
بالثورة. كنت أمرّ في ذلك الوقت بأسود أيام حياتي، كنت أمرّ بلحظات
ألمٍ عارمٍ، وكنت آنذاك أتساءل كيف أخدم بلدي سورية وشعبي، وعند كل
دورة كنت أسأل ماذا أستطيع أن أُقدّم لهما، فبدأت أكتب بعض
المقالات حاولت فيها أن أصف ما يحدث هناك، لكن بلغة فنية خلّاقة،
لكني كنت أقول لنفسي.. «حسناً، كل هذا جميل، لكن ماذا بعد؟ ما الذي
تستطيع أن تفعله أكثر من هذا؟».
·
المخرجة الشابة وئام بدرخان في حمص وأنت في باريس، هي في الميدان
وأنت تراقب من بعيد.. حدثنا عن هذه المسافة التي انتفت بتعاونكما
في إنجاز هذا الفيلم.
- كانت لحظة البداية حين شاهدت على «اليوتيوب» منظر الطفل السوري
الذي اُعتقل وعُذِّبَ في الحبس، روّعني منظره، وشعرت بالرعب وأنا
أشاهده، وكان هذا «المنظر» هو المشهد المؤسس للفيلم. كنت في باريس
حين وصلتني أول رسالة من وئام، المقيمة في مدينة حمص، وكانت
الرسالة عبارة عن قصيدة تسألني فيها: «ماذا تفعل لو كنت مكاني هنا
في مدينة حمص، تحت الحصار، وماذا تريدني أن أصوّر؟ ومن أين
أبدأ؟..»
تابعت، كما كل الناس، الصور المرعبة الحاصلة في سورية، نُقصف بها
في كل لحظة، ومن خلال هذه الصور والأحداث التي صوّرها شباب بدا لي
كما لو أن تاريخاً جديداً للسينما السورية قد وُلِدَ بالفعل مع
الثورة، وما ألهمني هو الأحساس بأن «اللغة السينمائية» في مُجملها
وبكل مكوناتها من لقطات، اللقطات المقربة، أو اللقطات الطويلة
العامة، موجودة ومُتحقّقة في تلك الأفلام، بل إنها تُخترَع أيضاً
من جديد!.. كانت «لحظة صدق» أشرقت فجأة في حياتي، لحظة قريبة من
الموت، لحظة تريد أن تُعبّر عن نفسها في اللحظة الآن، ولابد من
الإمساك بها فوراً، والبدء في تصويرها، وهو الأمر الذي يجعلك
ويمنحك الإحساس بأنك حين تصوّر أو تبدأ في تصوير فيلم ما، بأنك
«تعيش» وتقاوم الموت!. بدأت في تصوير الفيلم حين أرسلت لي وئام بعد
رسالتها المذكورة مجموعة من الأفلام التي صوّرتها بنفسها، وكتبت
لها رسالة شكر على فضلها في إخراجي من الوضع المتأزم الذي كنت
أعيشه في عزلتي الموحشة بالمنفى الباريسي..
·
حدثنا عن شكل الفيلم واختياراته الفنية، وعن موقعه ضمن خارطة
السينما السورية الجديدة؟
- طوال تجربتي حاولت أن أُدافع عن السينما من منظور تصوّري للسينما
كوسيط إعلامي، فالسينما كما أراها هي لغة خاصة، حيث تستطيع الصور
مع شريط الصوت أن تعبّر عن موقف أو تبرز رؤية جديدة للحياة..
وأعتقد بأنه مع قيام الثورة السورية كانت هناك ثورة في السينما
السورية تتشكّل عبر الصور اليومية. ومن خلالها تشكّلت لدي قناعة
بأني أستطيع أن أبدأ الفيلم ببعض الصور التي أرسلتها لي وئام،
لأنها كانت تحكي قصة، وكانت وئام حين ظهرت في حياتي تُمثّل تجسيداً
لجيل جديد من السينمائيين من الشباب في سورية.
أحب أن تكون في أفلامي مستويات مُتعدّدة من السرد، حكاية فوق حكاية
فوق حكاية، وسعيت منذ البداية إلى نقل أصوات عديدة، أصوات شعب
بأكمله، وخاصة منهم الذين التقطوا الصور والمشاهد التي صارت مُتاحة
على شبكة الإنترنت، ولا يُعرَف لها صاحب، ولا تُذكَر أسماء أصحابها
خوفاً عليهم من العقاب والبطش، ولذلك ذكرت بأن أصحاب الفيلم أيضاً
ليس أسامة محمد مخرجه فقط، بل هو من صنع الآلاف من السوريين، فقد
عرفت من اللحظة التي شاهدت فيها أفلامهم بأنها تصلح لأن تكون حكاية
من الحكايات الكثيرة التي أرويها في الفيلم، وشعرت بالارتياح، فقد
عرفت أيضاً بأني أسير هكذا على الطريق الصحيح لإنجاز الفيلم ..
في البداية رفضت استخدام صوت الراوي في الفيلم، الدليل أو المرشد
الذي نستمع إلى صوته قادماً من خارج الفيلم ليقودنا في رحلتنا مع
مشاهد الفيلم، لكني حين انغمست كلية في الصور التي حصلت عليها شعرت
بأني واحد من هؤلاء «الشعراء المنسيين» الذين التقطوا كل تلك
المشاهد ويقفون خلفها وهم أصحابها، فارتأيت أن يكون في الفيلم «حكواتي»
أو راوٍ يحكي القصص دون أن يكون هذا الدور مقتصراً فقط على شرح
الصور، وإنما على التأمل فيها والإيحاء بدلالاتها وأسئلتها، وقد
شعرت وقتها بأني أستطيع أن أصنع من مجموع الصور أكثر من فيلم واحد،
أو فيلم طويل يستغرق عرضه أكثر من أربع ساعات.
«أنا مع العروسة» موكب عرس زائف
منار ديب – غوتينبرغ
في إطار تظاهرة «أوروبا أوروبا» ضمن مهرجان غوتينبرغ السينمائي
الدولي الـ 38 الذي أُقيم بين 23 يناير/ كانون الثاني و2
فبراير/شباط عُرِضَ الفيلم الفلسطيني – الإيطالي «أنا مع العروسة»،
الذي أخرجه خالد سليمان الناصري بالاشتراك مع أنتونيو آوغوليارو
وغابريله دل غرانده. ويعد هذا العرض هو الأول للفيلم في السويد،
البلد الذي شَكّلَ الغاية والمُنتهى لأشخاص الفيلم الهاربين من
جحيم الحرب السورية.
وكان الفيلم قد نال جائزة مجمع نوادي السينما الإيطالية في مهرجان
البندقية الأخير، وشارك في عدة مهرجانات عالمية، كما حظي باهتمام
نقدي وإعلامي تبعاً لخصوصية موضوعه، وللتركيبة الفنية – التسجيلية
التي يقوم عليها، إلا أن عرضه في صالة صغيرة في ثاني أكبر المدن
السويدية في أكثر أشهر السنة برودة لم يوفر له مُشاهَدة واسعة،
خاصة لدى جمهور من اللاجئين السوريين والفلسطينيين يروي الفيلم
قصتهم.
الفيلم يصوّر الرحلة الحقيقية لخمسة من اللاجئين الفلسطينيين
القادمين من سورية والذين يحاولون الوصول إلى السويد من إيطاليا،
والتي جرت بين 14 و18 أكتوبر/تشرين الأول 2013. إلا أن ما يقوم به
صُنّاع الفيلم، وهم المخرج آوغوليارو والصحافي دل غرانده والشاعر
الناصري، هو تركيب حكاية موكب عرس زائف يعبر الدول الأوروبية دون
أن يلفت الأنظار، ورغم أنه لا وجود لحدود في جغرافية مُتصلّة تمتد
من إيطاليا إلى السويد، غير أن مُراقبة عمليات الهجرة اللاشرعية من
قِبَلِ السلطات الأوروبية تجعل مهمة المهاجرين الواصلين إلى
إيطاليا بحراً ليست بالسهلة، يتطوّع آوغوليارو ودل غرانده (الذي
عاش في سورية ويجيد العربية) وهما الإيطاليان بالتغطية على الموكب
المُفتعل وقيادته يرافقهما الناصري المقيم في إيطاليا، والذي يحصل
على جنسيتها خلال تصوير الفيلم، إضافة لعدد من الأصدقاء
الأوروبيين. كما تلعب الممثلة الفلسطينية المقيمة في إسبانيا تسنيم
فارض، والتي تحمل جواز سفر أوروبياً دور «العروس الهاربة».
يتكوّن الموكب، إضافة للعروسة، من العريس عبد الله، الناجي من
حادثة غرق المركب الشهير في لامبيدوزا في 1/ 11 ، وعلاء وابنه
منار، وأبو نوار وزوجته منى. تنطلق الرحلة من ميلانو فيتجه موكب
السيارات إلى الحدود الفرنسية- الإيطالية، ليدخل فرنسا مشياً على
الأقدام من طريق وعر في منطقة جبلية يعرفها الإيطاليون جيداً، ولا
يفوت دل غرانده أن يذكر أن الإيطاليين حين كانوا مهاجرين غير
شرعيين إلى فرنسا كانوا يسلكون هذا الدرب. وصولاً إلى مارسيليا،
حيث تستريح القافلة لليلة، قبل أن تتجه إلى بوخوم الألمانية عبر
لوكسمبورغ. نتعرّف في الرحلة على أشخاص الفيلم عن كثب وهم: الطفل
منار، الذي يؤلف أغاني الراب ويؤديها، والده علاء الذي أجبرته
السلطات الإيطالية على أخذ البصمات ما يحول دون تقديمه اللجوء في
بلد آخر، الزوجان أبو نوار ومنى، اللذان يحلمان بالوصول إلى السويد
ليجدا الأمان.
في بوخوم، يحل الموكب ضيفاً على شعراء سوريين من الأصدقاء، وربما
جاء ذلك من باب توفير النفقات في فيلم ذاتي التمويل، كما لتركيب
منصة للنقاش، وطرح الأسئلة، ففي السهرة في بوخوم، يتحدّث أبو نوار
عن إعلان 17 دولة أوروبية نيتها استقبال اللاجئين السوريين، وعدم
تنفيذ شيء من هذه الوعود، بل ترك الهاربين من الموت اليومي في
سورية يلقون مصيرهم غرقاً في بحار الهجرة غير الشرعية، ومقابل
أموال طائلة أيضاً.
يُتابع الموكب رحلته من شمال ألمانيا إلى الدنمارك، لتبقى الخطوة
الأخيرة لعبور الجسر الذي يفصلها عن السويد، والوصول إلى مدينة
مالمو. لا يتعرّض الموكب لأخطار حقيقية، لا لأن وجود أوروبيين فيه
شَكّلَ نوعاً من الحماية له فحسب، فالموكب لم يوقف حتى من قبل شرطي
واحد، بل لأن هذا ما يمكن أن يحدث ببساطة، والفيلم في الحقيقة
يصنّع حالة ليقول شيئاً، فالرحلة لم تبدأ من خارج الاتحاد الأوروبي
أو حدود اتفاقية شنغن.
ربما كان المخرج والصحافي الإيطاليان سيتعرضان للمحاكمة وينالان
عقوبات قاسية لو تم القبض عليهما وهما يقودان الموكب، وستندرج
فعلتهما في إطار تهريب البشر، لكن الرسالة النضالية للفيلم شكّلت
حصانة بالنسبة لهما، فالعجز الدولي عن وضع حد للمأساة السورية، خلق
إحراجاً على المستوى الإنساني.
ينتمي لاجئو الفيلم إلى فلسطينيي سورية اللاجئين مرتين، وتتضاعف
مأساة هؤلاء مع كونهم من أكثر الأطراف ضعفاً في الحرب الدائرة،
وأبواب الدول المجاورة مُغلقة أمامهم، وهم الأكثر حاجة لهوية وجواز
سفر، فمعظم دول العالم لا تستقبلهم، لأنهم قانونياً بلا دولة، هكذا
فإن أحد صُنّاع الفيلم، الفلسطيني السوري خالد الناصري، لا يستطيع
منع نفسه من البكاء حين يتلقّى خبر حصوله على الجنسية الإيطالية
أثناء التصوير.
حاول الفيلم المحافظة على الحياد السياسي، مع تركيزه على البعد
الإنساني عبر قصص فردية، إلا أن مواقف واضحة وحادة جاءت على لسان
بعض أشخاص الفيلم، فالعروس تسنيم تتحدّث عن مقاتلي الجيش الحُرّ
بوصفهم من يحمونها، وتشير إلى أن بعضهم أصدقاؤها، فلتكن هذه آراءها
الشخصية، لكن أي عمل فني يقوم بعملية انتقاء لما يخدم بنيته أو
رؤيته، فالاعتراض ليس على مضمون هذه الأقوال، بل السؤال هو في أي
سياق تُقال، خاصة أن الفيلم نأى بنفسه عن التفاصيل السياسية، لذا
بدت تسنيم أكثر إقناعاً وهي تتحدّث بحرقة عن أصدقائها الذين
فقدتهم.
لم يخلُ «أنا مع العروسة» من حشو، فجزء كبير من الساعة ونصف الساعة
التي تشكل مدته، تشغله أغانٍ ورقصات، تبدو غير موظفة في بناء،
وكأنها بلا غاية، رغم أن كل ما في الفيلم يبدو عفوياً وطبيعياً،
هكذا تقف تسنيم على شاطئ البحر في الدنمارك وتغني أغنية لفيروز، لا
الأغنية تقول شيئاً ولا المشهد نفسه.
تبدو شخوص الفيلم على حقيقتها كأنها مُنتزعَة من بيئة غير البيئة
السورية، صحيح أن أفراد الموكب يرتدون القبعات الأوروبية كجزء من
عملية التمويه، إلا أنهم يتوغلون في هذا الدور، هل كي يبدوا كأنهم
غجر جاؤوا من أوروبا الشرقية، والسوريون والفلسطينيون يتحوّلون إلى
غجر رُحَّل، أم للتأكيد على الفرح والجنون والتمسك بالحياة.
يُختتَم الفيلم برقصة جماعية، دبكة، في ساحة خالية في مدينة مالمو
جنوب السويد، في الليل، فهل خلو الساحة والليل والبرد، كناية عن
وصول إلى اللاشيء، وعن فراغ بعد كل ذاك التعب، ربما. وقد يكون
المصير المجهول، رغم أن نصاً مكتوباً في شارة الفيلم الأخيرة يقول
إن أبا نوار وزوجته نالا اللجوء في السويد أسوة بعبد الله، فيما
أُعيد علاء وابنه منار إلى إيطاليا، حيث حصلا على اللجوء هناك، لكن
ماذا عن ما بعد الوصول إلى «إيثاكا».
«أنا مع العروسة» إذ يسلط الضوء على جانب لن ينتهي من مأساة
مستمرة، فإنه يطلق صرخة بغضب الهواة ونزقهم، عن اندثار مجتمع
وزواله، فالمسألة هناك في سورية لا في أوروبا، فالمنفى وإذ يعني
أماناً مؤقتاً فإنه أيضاً صلة منبتة بمكان وتاريخ.
ربما يجد لاجئو الفيلم الأمان ويصنعون مستقبلاً في «جنة» أوروبا،
وربما سيحاصرهم صعود تيارات اليمين الشعبوي، والأحزاب العنصرية
والحركات المعادية للإسلامية، في وقت هم في أمس الحاجة فيه لملجأ
مؤقت، قد يُحدِث هذا الفيلم هِزّة في هذه البنية من الأفكار
السهلة، وهذه أحد أبعاد قوته.
«القنّاص الأميركي» ..الرصاصة البريئة في جسد الضحية!
هشام بنشاوي
وفقاً لتعاليم الأب الصارم القاطن في ولاية تكساس فإن العالَم
ينقسم إلى خِراف وذئاب وكلاب الراعي، هكذا اختار الطفل «كريس» في
فيلم «القناص الأميركي -
AMERICAN SNIPER»
لمخرجه كلينت إيستوود، أن يكون (كلب الراعي)، اختار أن يحمي
الأبرياء من الأشرار، ويتخلّى عن طموح الشباب كراعٍ للبقر، وذلك
بعدما عاين الاعتداءات الإرهابية على أميركا. وكان انضمام كريس
كايل (برادلي كوبر) إلى البحرية الأميركية كقناص، بمثابة المُخلّص
الأكثر فتكاً في تاريخ الولايات المتحدة العسكري، حتى لقّبه زملاؤه
في البحرية الأميركية بـالقناص«الأسطورة»، الذي قتل أكثر من مئة
وستين شخصاً خلال أربع جولات.
أضفى كلينت إيستوود صفة المُحارِب القديس على بطل فيلمه الجديد
«قناص أميركي»، المُستوحَى من يوميات الجندي الأميركي كريس كايل
(1974 - 2013)، في الحرب على العراق. كما اعتمد المخرج على سرد
أحادي النظرة والمعالجة، مما أوقعه في فخ التزييف وتحريف الكثير من
الوقائع والحقائق. فـ«القناص الأميركي» يعكس صورة عن الشعب العراقي
باعتباره حفنة من الأشرار، الإرهابيين، والمتوحشين، ولا يتوانى بطل
الفيلم في إطلاق النار من مخبئه على النساء والأطفال، بل ويسمح هذا
المخرج القدير لبطل فيلمه بأن يتفوّه بعبارات عنصرية في حواراته مع
رفاق السلاح، دون أن يمنح أولئك الأشرار - من وجهة نظر كايل- دقيقة
للحوار، في كناية فجّة على أن العرب لا يجيدون لغة الحوار، وأن
الإرهاب صناعة إسلامية بامتياز ! وكان الأجدر به أن يُقدّم وجهة
نظر مواطنين عرب مسلمين أبناء شعب مُحتل يدافعون ببسالة عن وطنهم،
بدل التوسل بجدلية الصراع الأزلي بين الخير والشر، التي اختزل فيها
صُنّاع الفيلم حرب العراق المعقدة، والمشهد الحواري الوحيد بين
العرب كان عندما انتقم «الجزار»، والذي يحتفظ برؤوس مجزوزة ومغطاة
بالثلج في المطعم، وجَسّدَ هذه الشخصية الممثل المصري ميدو حمادة،
ونحن نراه، وهو يستعمل المثقاب الكهربائي للفتك بابن الكهل العراقي
الذي وشى بالفدائيين، كما قَدّمَ الفيلم شخصية القناص السوري مصطفى
بطل الأولمبياد بشكل سطحي، والتي جسّدها باقتدار الممثل المصري
سامي الشيخ، بينما قَدّمَ القناص الأميركي كبطل قومي أميركي، شيّعه
الأميركيون في جنازة مهيبة، وهم يلوحون بعلم بلاد العم سام، بطل
قومي لا يشعر بتأنيب الضمير، على الرغم من كل جرائم الحرب التي
ارتكبها حماية لمواطنيه.
يربط الفيلم بين هجوم 11 سبتمبر/أيلول، واحتلال العراق، والنزاهة
التاريخية كانت تقتضي أن يتضمن أي مقطع تليفزيوني توثيقي للرئيس
الأميركي جورج بوش أو للرئيس العراقي صدام حسين، أو إشارة للبحث عن
أسلحة الدمار الشامل العراقية، بدل تقديم بطله كمحارب للإرهابيين
العراقيين، واستدرار عطف المشاهدين بتقديم مشاهد الجنود الأميركيين
المشوهين، ومبتوري الأطراف، كضحايا هذه الحرب المجيدة، من وجهة نظر
كايل، وليسوا ضحايا قرار أميركي بالحرب على أسلحة الدمار الشامل!،
ويغالي الفيلم في تقديم صورة القناص الأميركي كضحية نفسية لهذه
الحرب بعد تقاعده، حيث يسمع أصوات طلقات الرصاص، وهو جالس أمام
شاشة التليفزيون السوداء.
ربما، الحسنة الوحيدة التي قدّمها الفيلم هي رفض هذه الحرب من طرف
الزوجة ومن طرف الأخ الأصغر المُتذمّر من مشاركته في حرب لعينة..
بتعبيره، وثمة مشهد إنساني يستحق أن نرفع له القبعة، عندما تنفس
كريس الصعداء بعدما تخلّى الصبي العراقي عن حمل القذيفة، فرماها
أرضاً ولاذ بالفرار، وتراجع القناص الأميركي عن الضغط على الزناد..
وهي محاولة تجميلية من صُنّاع الفيلم لإضفاء الطابع الإنساني
للبطل، بينما يتجاهل المخرج مشهد مقتل كريس على يد جندي عائد من
حرب العراق، مكتفياً بالإشارة إلى ذلك بالكتابة على التتر، لأنه
يُدرك أن هذا المشهد يُدين مشاركة الجنود الأميركان في حرب غير
شرعية، والذين سقطوا فرائس الاكتئاب والأمراض النفسية، بسبب ما
كابدوا من ويلات الحرب في العراق. فبعدما رأيناه أمام التلفاز
يتابع فصول الحرب، التي عاد منها جسداً فقط، وقبل ذلك، اختار
الذهاب إلى الحانة بدل بيته،وهو محطم نفسياً، ثم يبدو شارد الذهن،
وهو يتنزه مع زوجته، وينقض على الكلب الذي يلعب مع ابنه، وعندما
سأله الطبيب النفساني إن كان سيتفاجأ بقتله لأكثر من مئة وستين
شخصاً، رد بأنه كان يحمي رفاقه، كما لقنه قادته في المارينز، بل إن
كريس يتألّم من أجل من لم يستطع حمايتهم، ويتمنى إنقاذ المزيد بعد
تسريحه، فأخبره الطبيب أنه بإمكانه مساعدة الجنود في المستشفى، وهم
بحاجة إلى ذلك، فنرى جنوداً مُعاقين مشوهين على كراسٍ مُتحرِّكَة،
سيتولى تدريبهم على القنص لاحقاً.
انتقادات واسعة
لم يستقبل النقاد والمهتمون فيلم «قناص أميركي» بقلب رحب، ففي ظِلّ
إشادة ميشال أوباما بهذا الفيلم، الذي أثار عرضه في البيت الأبيض
عدة انتقادات حول استمرار الإدارة الأميركية في تأييد الحرب على
العراق، على الرغم من ثبوت عدم وجود أسلحة كيماوية لدى النظام
العراقي السابق، فقد طالبت «اللجنة العربية -الأميركية لمكافحة
التمييز»، وهي منظمة أميركية -عربية مَعنيّة بالحقوق المدنية مخرج
فيلم «قناص أميركي»، كلينت إيستوود والممثل برادلي كوبر باستنكار
لغة الكراهية المُوجَّهة ضد الأميركيين العرب والمسلمين، وذلك بعد
عرض الفيلم، الذي يُمجّد القناص الذي اشتهر بلقب «شيطان الرمادي».
وجاء في رسالة هذه المنظمة إلى إيستوود وكوبر، إن أعضاءها أصبحوا
هدفاً «لتهديدات عنيفة» قبل العرض العام للفيلم، مُشيرة إلى أنها
تعمل مع «مكتب التحقيقات الاتحادي» والشرطة لتقييم التهديدات.
كما انتقد «نعوم تشومسكي» تقرير صحيفة «نيويورك تايمز» عن الفيلم،
مُعتبراً أن الشعب الأميركي يُقدّس فيلماً يُجسّد قصة قاتل بدم
بارد، وقال «تشومسكي» إن كايل «يفتخر بأول عملية قتل له كإرهابي -
تلك المرأة التي قتلها في الشارع- لكن لا يمكننا أن نعتبر هذا مجرد
تفكير قاتل سيكوباثي، لأننا جميعاً ارتكبنا هذا الخطأ عندما
تسامحنا وصمتنا أمام السياسات الرسمية».
من جانبه، ذكر «زاك بوشامب» في مقالٍ له على موقع «فوكس» أن الفيلم
يتجاهل واحدة من أبشع وأهم جوانب الفيلم، وهي الانقسامات بين
السُنّة والشيعة في العراق، الذين حاربوا أميركا، وحاربوا بعضهم
البعض أيضاً، مما أدى إلى الحرب الأهلية، وتفهم رغبة صناع الفيلم
في عدم الخوض في هذه السياسة الطائفية، ولكن بدلاً من مجرد تجنّب
الصراع الطائفي في العراق، «يسرد الفيلم رواية أن الحرب كانت عن
مواجهة أميركا للقاعدة، وهو الأمر غير الصحيح والمضلل»، كما اعتبر
«بوشامب» أن الفيلم «يصوّر الغزو الأميركي ضربة صالحة ضد شر
القاعدة، بينما في الحقيقة كان الغزو واحداً من أفضل الأشياء التي
حدثت للقاعدة، ومن ثَمّ فالفيلم لا يتجاهل هذا التاريخ، ولكنه
يشوهه بنشاط».
وكان «رامين سيتوديه» قد تساءل في مجلة «فارايتي» حول إمكانية تحقق
المفاجأة في حفل توزيع جوائز الأوسكار، واعتبر أن فيلم «القناص
الأميركي» قد يلقى نفس مصير فيلم «أفاتار»، الذي خسر جائزة أوسكار
أفضل فيلم بعد كل ما قِيل عنه، وما حَقّقَ من أرباح أمام فيلم
«خزانة الألم» في 2010م، وتكهّن بأن برادلي كوبر قد يفوز بجائزة
أفضل ممثل، في ثالث ترشيح له في مشواره الفني، وقد تساعده في ذلك
الضجّة الإعلامية التي رافقت الفيلم منذ بداية عرضه، فضلاً عن كون
منافسيه في هذه الجائزة، يُرشحون لأول مرة.
«عرّاف المياه» .. سجلات الحزن الطويل
غيدا اليمن
مِنْ خلال فيلمه الجديد «عرّاف المياه» (THE
WATER DIVINER
)، ينضمّ راسل كرو إلى لائحة الممثلين المخرجين. الفيلم، الذي
اشترك في كتابته أندرو نايت وأندرو أناستازيوس، يُقدّم حكاية أخرى
عن وجع الفقد وعن الأمل وإمكانية المُصالحة، تُحكى على أبواب
الذكرى المئوية الأولى لمعركة جاليبولي لتكون هجاءً مُعلَناً
وإدانة صارخة للقتل. فالجراح التي لم تندملْ بعد تدفع المئات من
الأستراليين إلى اليوم لزيارة جاليبولي لإحياء ذكرى قتلاهم،
والندوب التي تركتها الحربان العالميتان حية في ذاكرة الشعوب مهما
طغت المصالح الاقتصادية والسياسية وسعت لطي صفحتها.
يتكئ هذا الفيلم (بطولة: راسل كرو، جاي كورتني وأولغا كوريلنكو،
ومن تركيا، سم يلماز ويلماز أردوغان) على عبارة وردت في أحد
السجلات العسكرية البريطانية العائدة إلى الحرب العالمية الأولى
منسوبة إلى الكولونيل سيريل هيوز. وكان الفيلق العسكري الأسترالي
والنيوزيلندي المعروف باسم «أنزاك» قد قام بإنزال على شبه جزيرة
جاليبولي التركية في 25 إبريل/نيسان 1915، ضمن قوة تقودها بريطانيا
في محاولة فاشلة للاستيلاء على مضيق الدردنيل من قبضة قوات
الإمبراطورية العثمانية بُغية فتح ممر بحري لحليفها الروسي في
معاركها ضد القوات الألمانية. استمرت المعارك الضارية هناك زهاء
ثمانية أشهر، مُخلّفةً عشرات الآلاف من قتلى الحلفاء ومثلهم
أضعافاً من الجانب التركي. أشارت عبارة هيوز تلك إلى أن «أباً جاء
وحيداً من أستراليا إلى هنا باحثاً عن قبر ابنه».
الكولونيل هيوز كان مسؤولاً عن الوحدة التي أُوكِلَتْ إليها مُهمة
استرجاع أشلاء الجنود الإنجليز وحلفائهم من منطقة جاليبولي (وهي
كلمة يونانية معناها «المدينة الجميلة») عشية انتهاء الحرب
العالمية الأولى. يستعين هيوز المنتصر في الحرب بالجنرال التركي
المهزوم حسن، أحد القادة الأتراك في تلك المعركة، ليكون دليله في
الأرض الغريبة على أمل العثور على أشلاء قتلى الإمبراطورية
البريطانية.
القاتل والمقتول يبحثان عن أشلائهما، يتبادلان التهم. «لماذا
غزوتمونا؟» يسأل حسن الجنرال هيوز الذي يُحاججه بأنهم وإن خسروا
المعركة إلا أنهم لم يخسروا الحرب، مع ذلك لا يتردّد لاحقاً في
الاعتراف بأنه لن يستطيع أن يُسامح الطرفين.
في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، كان «جوشوا كونور» الرجل الذي
كانت مهنته البحث عن آبار المياه في الصحراء الأسترالية مُستعيناً
بقدراتٍ خاصّة به، قد اعتاد أن يقرأ لأبنائه الثلاثة قصة الأمير
حسن والبساط السحري من كتاب «ألف ليلة وليلة»، حتى بعد أن كبروا..
ثم رحلوا إلى الحرب ولم يعودوا. لكن عواصف الصحراء الأسترالية
الرملية التي نجا منها الأطفال ذات مرة بعد أن كادت تبتلعهم تستحيل
بعد سنوات حرباً دامية لا تُبقي ولا تذر، ولا تنفع التعاويذ
والكلمات السحرية في إنقاذهم من شرورها.
الأم تصير هي الأخرى روحاً مُعذّبة لا تحتمل قسوة غياب الأبناء
الذي طال أربع سنوات، تلوم زوجها، «تستطيع أن تعثر على المياه في
الصحراء لكنك عاجز عن إيجاد فلذات كبدك»، وتبحث عن خلاصها في حياةٍ
أخرى، فلا يعود أمام كونور إلا خيارٌ واحد، أن يسترجع جثث أولاده
الذين قتلوا في بلاد بعيدة لترتاح في تراب الوطن. إنه الأمل الذي
سيحيا لأجله، وكما سيقول لاحقاً لعايشة، صاحبة الفندق التركي الذي
سيُستدرَج كونور للإقامة فيه، «الأمل ضروري هناك في بلادي».
تقوده الرحلة إذاً من أستراليا إلى إسطنبول، الخارجة لتوها من
هزيمة الحرب العالمية الأولى، بجراحٍ كثيرة، ومنها يصل بالكثير من
المشقة إلى جاليبولي، حيث «لا شيء هناك سوى الأشباح»، تقول له
عايشة التي فقدت هي الأخرى زوجها في تلك المعارك.
تأتي استعادةُ مشاهد المعركة مرّةً بعد مرّة على مدار الفيلم
بلوعةٍ تُدمي القلب، وبمنأى عن أية خطابيّةٍ جوفاء، لتثير الأسئلةَ
التي ما فتئت مشروعة حتى بعد مرور مئة عام - لماذا ذهب ملايين
الشبان إلى تلك الحرب؟ لماذا قُتِل منهم الملايين، ومنهم من لم
يتجاوز سن المراهقة ولمصلحة مَنْ؟... لقطات قصيرة لكن مُكثّفة
تصوّر عذابات الجنود الظانّين أنهم يقاتلون دفاعاً عن أوطانهم وعن
أفكارٍ زُرِعت في وجدانهم عن الكرامة والرجولة، فإذ بهم يجدون
أنفسهم في معركةٍ لم يتخيلوا يوماً فظاعتها تستدرجهم إلى ممارساتٍ
وحشية في مواجهة عدوٍّ آخر غير العدوّ المعروف: لقد وجدوا أنفسهم
في معركةٍ مع الموت نفسه.
يمزج الفيلم بين عناصر الواقعية المتأتية عن التاريخ المُستقاة منه
الأحداث، وبين الخيال الفنيّ، مما ينأى به عن أن يكون سرداً
متجهماً شبه وثائقيّ عن الحرب، على غِرار أفلام مثل «إنقاذ المجنّد
رايان». هناك ما يكفي من الذرائع الدرامية لتمضي الحكاية بأكثر من
جرعةٍ من الأمل، ومع ذلك فالقدرات الخارقة لكونور في العثور على
آبار المياه ليست مبرّراً كافياً لإقناع المُشاهِد بالسهولة التي
يعثر بها على أماكن مصرع أبنائه. إضافةً إلى ذلك، تظهر مُفارقات
غير مقنعة كافية لتفسد عليك الانحياز الكامل إلى الفيلم، لكنها مع
ذلك لا تحول بينك وبين الاستغراق في سؤاله الأساسي عن جدوى الحرب،
بل وتستدرجُك بملء رغبتك إلى التسامح معها لعلّك تفوز بمتعة
التصديق بأن الأعاجيب والمعجزات يمكن أن تحدث، وأن الحب قادر على
أن يصلح ولو قليلاً ما أفسدته الحرب.
صحيح أن الفيلم يُحيي المناخات الأسطورية التي اعتاد الغرب رسمها
وتسويقها عن الشرق، حيث الأزياء والأماكن والألوان القوية تذكرك
بأجواء «ألف ليلة وليلة»، وتعيد إلى الأذهان النظرة الهوليوودية
إلى الشرق، لكن هذا الفيلم الذي بذل صُنّاعه جهداً واضحاً لاستيلاد
إسطنبول بدايات القرن العشرين، بأسواقها وأزقتها وحرفييها وتجارها
وأزياء قاطنيها وطقوسها ودراويشها وأذان مساجدها، ينجح إلى حدِّ ما
في رسم ملامح المجتمع التركي لتلك الحقبة دون إطلاق الأحكام
النمطية ودون محاكمة، بل ويتوصّل إلى إعادة صياغةِ صورةٍ أكثر
اعترافاً بهذا الآخر الشرقي، الإنسان، غير المفتون بالغرب، الذي لا
يُفكّر فقط في الحريم، والذي يُطالب بحريته ويدافع عنها بشراسة.
وهو إذ يجوب أحياء إسطنبول وأقبيتها، حيث يجتمع الثوّار الوطنيون،
يريد أن يقول إن تلك البلاد ليست كلها ساحة معارك وهزائم، إذ
يمكنها أن تكون أيضاً مكاناً جميلاً تحدث فيه قصص الحب، وتُسمَع
الموسيقى وتُعقَد حلقات الرقص.
جوشوا كونور، أو عرّاف المياه، يبحث عن خلاصه، يسعى للتكفير عن
ذنبٍ ساهم في اقترافه حين لم يثنِ أولاده عن الذهاب لخوض حرب ليست
حربهم. وهو من الأفلام القليلة ربما التي تؤنسن العدوّ الذي هو
أيضاً ضحية. وكون هذا الشريط السينمائي قادراً على إثارة مشاعرنا
وبعث مخاوفنا وهواجسنا، فتلك على الأرجح إشارةٌ إلى أن البشر لم
يتعلموا الدرس بعد، وأنهم مرشّحون لارتكاب الخطايا نفسها ولو
بأشكالٍ جديدة. |