منذ حقّق الكندي دافيد كروننبرغ قبل نحو ثلاثة عقود من الآن فيلمه
الرائع – والغامض إلى حدّ ما – «الحفل العاري» عن رواية شهيرة
لتشارلز بوروز، المعتبر أحد الأساسيين في أدب «البيت جنرايشن»، لم
يعد من المستساغ كثيراً تصنيف الأدب الأميركي الحديث بأنه «عصيّ
على الأفلمة»... لمجرد أنه يحمل في أسلوب كتابته من التركيبية وفي
بناء شخصياته والعلاقات فيما بينها من الغموض، ما قد يجعل من أدب
جيمس جويس في المقارنة النسبية، أدباً شديد الوضوح بل كلاسيكياً!
فالكتابة السينمائية الجديدة التي اتبعها كروننبرغ أتت في ذلك
الحين منتمية إلى أسلوب رايموند تشاندلر العابر كتابة ويليام فوكنر
مطبّقاً إياها على الحبكة البوليسية، باتت منذ ذلك الحين تسمح بكل
أنواع «التجاوزات» والاستعارات إنما برسم جمهور كان اعتاد ألا تكون
السهولة والتبسيطية مراده الأول والأخير. وخلال العقود الثلاثة
المنصرمة، وتحديداً الفترة التي انقضت بين ظهور «الحفل العاري»،
وظهور فيلم أكثر جدة لكروننبرغ نفسه هو «كوزموبوليس» المأخوذ بدوره
عن رواية للكاتب المعاصر جون دي ليللو تنتمي إلى الحداثة الأدبية
الأميركية نفسها التي تدين إلى ويليام فوكنر أكثر مما تدين إلى
إرنست همنغواي وواقعيته، مرت مياه كثيرة تحت الجسور وأُفلمت روايات
كثيرة كانت معتبرة في أصولها الأدبية عصية بدورها على السينما.
فمنذا الذي كان يمكنه أن يتصور في السبعينات مثلاً أن تصل رواية
جاك كيرواك «على الطريق» إلى الشاشة الكبيرة؟ وبتوقيع البرازيلي
المغرق في الواقعية والتر ساليس، على سبيل المثال لا الحصر؟...
خلاصة هذا كله هي أن السينما لم تعد تعتبر أي شيء أو أي موضوع أو
أسلوب محرماً عليها، ومخرج مثل الراحل روبرت آلتمان لم يعد مضطراً
إلى تحويل نص لرايموند تشاندلر هو «وداعاً يا حبيبتي» إلى عمل
سينمائي ساخر كي يمرره على شاشته الكبيرة. وفي هذا السياق سيبدو
لنا بالتأكيد أقرب إلى أن يكون طبيعياً اقتباس بول توماس أندرسون
رواية توماس بنشون الجديدة نسبياً – إذ إنها صدرت عام 2009 – «عيب
موروث» في الفيلم السينمائي الذي حمل العنوان نفسه ويعرض حالياً في
الصالات بنجاح لا بأس به. وكذلك بإقبال نقدي تهزه بعض الأصوات «الناشزة»
بين الحين والآخرة، ولنقل الناشزة نسبياً طالما أن رفضها للفيلم
ينبع من مبدأ الحق في الفهم والتتبع المنطقي للحوارات والأحداث،
معتبرة أن هذا الحق غير متوفر هنا.
وهي على حق في ذلك بالطبع. ومع هذا فإن الرد عليها ليس شديد
الصعوبة: من قال إن مبدأ حق الفهم في السينما مبدأ مطلق؟
نعم للفهم التركيبي!
وبول توماس أندرسون على أية حال هو من المخرجين الذين لا يأبهون
كثيراً لمسألة الفهم التبسيطي. بالنسبة إليه يمكن أن يكون المتن
السينمائي لمخرج ما، منظومة فكرية وجمالية متكاملة تنطلق أصلاً من
«الاستيلاء» على عمل إبداعي آخر، لإدراجه في سياق يشكل لدى المخرج
هاجساً قد لا يكون ورد في بال مبدع العمل الأصلي. ولعل مقاربة
تحليلية للأفلام الثلاثة الأخيرة التي حققها أندرسون تباعاً،
وصولاً إلى «عيب موروث»، توصلنا إلى هذه الفرضية، علماً بأن
الأفلام الثلاثة مقتبسة من كتب روائية أو تدنو من الروائية: فقبل
ثمانية أعوام حقق هذا المخرج الشاب (44 سنة اليوم، ما يعني أنه ولد
في العام الذي تدور فيه أحداث «عيب موروث» وفي كاليفورنيا نفسها
تحديداً ما من شأنه أن يضفي على الفيلم بعداً شديد الخصوصية) فيلم
«ستكون هناك دماء» عن رواية الكاتب الاشتراكي الأميركي آبتون
سنكلير «بترول»، وقبل ثلاثة أعوام حقق «المعلم» عن كتاب يروي جزءاً
من سيرة مؤسس طائفة العلماويين في أميركا. والآن ها هو يقدم إلينا
فيلمه الجديد المقتبس من رواية بنشون. فهل إن الأصول الأدبية
للأعمال الثلاثة كانت هي ما أغرى مخرجاً كان في أفلامه الأربعة
السابقة لهذه «الثلاثية الأدبية» - وهي «الرقم ثمانية» و «ليالي
بوغي» و «ماغنوليا» ثم «بانش درنك لاف»- كتب أعماله بنفسه؟
أبداً على الأرجح... فنحن إذا سبرنا أغوار الأفلام الثلاثة الأخيرة
قد نجدنا أمام تاريخ ما لأميركا نفسها: من بدايات القرن العشرين مع
الفورة النفطية وفردنة الرأسمالية الضارية («ستكون هناك دماء»)،
إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وبزوغ الخواء الأيديولوجي الذي
أدى إلى تحول الفردية نوعاً من الطوائفية ذات الأفكار الغيبية
معززة بكل أنواع الدجالين («المعلم»)، وصولاً الآن في «عيب موروث»،
إلى تاريخ ما للوس آنجليس السبعينات إنما منظوراً إليه بحنين
بدايات القرن الحادي والعشرين. وفي شكل أكثر تحديداً، زمن الهبيين
وأحلامهم «الإنسانية» المستحيلة التي كانت قائمة على المخدرات
والسلام والموسيقى.
طبعاً لا يمكن الزعم هنا أن هذا السياق التاريخي واضح كل الوضوح في
مسيرة أفلام «الثلاثية»... لكننا نفترض أنه كمن في مكان ما في
خلفية رغبة أندرسون في أفلمة الروايات الثلاث. فإذا زدنا إلى هذا
كون كل من الروايات تتناول في جانب منها، يتضخم حيناً وينزوي
حيناً، مسألة الطوائف الدينية أو شبه الدينية وما حولها من نصب
وشعوذة في هذه القارة/ الأمة المترامية الأطراف، ثم مسألة العلاقة
المتأرجحة بين «الأب» أو من يقوم مقامه و «الإبن» أو من يحاول
تجسيده، قد يمكننا أن نرتاح إلى فكرتنا بعض الشيء منتقلين إلى «عيب
موروث» نفسه الآن، ليس كجزء من «الثلاثية» بل كشريط جديد لهذا
المخرج الذي أبداً لم تكن السهولة في الاختيار والتنفيذ واحدة من
مزاياه الواضحة.
حكاية حب
وبالتالي لا بد من القول منذ البداية إن «عيب موروث» ليس فيلماً
سهلاً، حتى ولو اعتبرناه في جانب أساسي منه فيلماً بسيطاً يدور
أولاً وأخيراً وبعدما نعريه تماماً، من حول قصة حب بين شاب وفتاة
في لوس آنجليس السبعينات. ولا يقلل من هذا أن الشاب والفتاة
يطالعاننا منذ مفتتح الفيلم منفصلين عن بعضهما البعض، إذ تلجأ إليه
هي (تشاستا وقامت بدورها الرائعة صورة وصوتاً وأداء كاترين
واترستون)، كي يساعدها بوصفه تحرياً خاصاً في العثور على حبيبها
الجديد مخبرة إياه أن زوجة هذا الحبيب تتآمر مع عشيقها على تدميره
– أي تدمير الحبيب. على الفور سوف يستجيب هو للطلب. فالرجل ويدعى
دوك (قام بالدور جواكيم فينيكس مبدعاً مرة ثانية تحت إدارة أندرسون
بعدما أداره هذا في «المعلم» إلى جانب الراحل فيليب سايمور
هوفمان)، يستجيب من فوره رغم مشاكسة شرطيي لوس آنجليس له ويبدأ
تحقيقاته التي لن تعود مهمة بعد تتالي أحداث ستبدو غير مترابطة
فيما بينها للوهلة الأولى... أحداث متشابكة يكون دوك محورها وربما
هدفها وفيها تختفي تشاستا بدورها ثم يُضرب دوك ليجد نفسه حين يفيق
إلى جوار جثة أحد رجال مايك، حبيب حبيبته... وإثر ذلك تتزايد
العلاقات والجثث والدهاليز متقاطعة مع ذكريات دوك عن حبه لتشاستا
من ناحية، ومع اكتشافه من ناحية ثانية لوجود طائفة نصف دينية تختلط
لديها أعمال التهريب بالممارسات المافيوزية... وكل هذا وسط مناخ
يتأرجح بين الكوميديا الخالصة والتشويق البوليسي والتفكك العائلي
وتحوّل الأحلام الهيبية إلى واقع سياسي بائس.
أمام مثل هذه التبدلات والتطورات كان من حق عدد من النقاد، ولا
سيما الفرنسيون منهم، أن يقولوا بأن ما من شيء بات مفهوماً منذ
الربع الأول من الفيلم... بما في ذلك الحوارات التي بدت مفككة غير
متجانسة تجانس الموسيقى التي أتت مستقاة من «بسيكاديلليك»
السبعينات، عمادها الأساس أغنيتان لنيل يونغ بدتا مرتبطتين بما ظهر
من معنى الفيلم بقدر ما ارتبطتا بأسلوبه... أغنيتان عن الحب لا شك
أنهما تلعبان دوراً أساسياً في الإفصاح عن مقدار الحب الذي يكنه
دوك لتشاستا... حب سينتهي الفيلم تاركاً إياه مفتوحاً على كل
الاحتمالات بعد أن يتمكن دوك من كشف العديد من الألغاز والإجابة
على العديد من الأسئلة التي لا شك أن المتفرجين كانوا طرحوها على
أنفسهم خلال مشاهدتهم الفيلم وهم يحاولون عبثاً فهم ما يدور أمامهم
على الشاشة. ومع هذا علينا أن نتنبه هنا إلى أمر أساسي يتعلق هذه
المرة برواية بنشون، فهذه الرواية التي كتبها الرجل بعد ثلث قرن من
تحفته الأساسية «قوس قزح الجاذبية» اشتهرت منذ صدورها بأنها أكثر
روايات بنشون بساطة وقابلية لأن تُفهم. لكنها إذ صارت الآن جزءاً
من فيلموغرافيا بول توماس أندرسون تعتبر الأكثر غموضاً في مساره...
ولكن لئن قال بعض النقاد إن الفيلم لن يعتبر الأفضل بين أفلامه بل
أسوأها، من المؤكد أن آخرين رأوا غير هذا بل إن أكثرهم يميلون منذ
الآن، وريثما يتراجع الأول عن رأيهم، إلى اعتبار «عيب موروث»
فيلماً قمة في النضوج لدى مخرج قد يكون شعاره اليوم «ومن قال لكم
إن الفن وظيفته أن يُفهم؟».
«رهان» سينما تبسيطية للزمن المتسارع
الدار البيضاء - مبارك حسني
بالشريط المغربي الجديد «رهان» من إخراج محمد الكغاط، نجدنا أمام
حالة «سينمائية» مغربية، ليس هذه المرة بما تحمله هذه السينما من
فن وإبداعية، بل بما يجاور ذلك من إنتاج وعرض وتصور للعمل
السينمائي. فهذا الشريط تم اختياره للعرض في المهرجان الوطني
للفيلم مؤخراً، لكنه خرج خالي الوفاض كما كان منتظراً. ومن قبل
عُرض في مهرجان مراكش الدولي للفيلم في فقرة «خفقة قلب» المُخصصة
للأفلام المغربية، على رغم عدم توافره على مقومات ليس للتنافس فهذا
أمر مستبعد تماماً، بل من تلك التي قد تجعله يمنح الضيوف اﻷجانب من
فناني السينما والمهنيين والصحافيين صورة غنية بالدﻻﻻت والفهم
للمغرب الحالي. وهذا ما جعل مثلاً الناقدة السينمائية المتخصصة
للصحيفة الكندية «لودوفوار» تستغرب كيف يمكن السماح بعرضه في
المهرجان، وهو «العمل المسطح والمتكلف» في نظرها. طبعاً هي ليست
على علم بواقع سينمائي مغربي متذبذب بين العمق والضحالة، بين قناصي
الدعم والباحثين عن مجال تفجير اﻹبداع الحقيقي، ثم ما بينهما مثل
فيلمنا هذا، أي تلك اﻷعمال التي تود أم تكون مجرد وصفة سينمائية
خفيفة مُتصالحة مع جمهور تكونت ذائقته الفنية عبر مشاهدة «السيت
كومات» الرمضانية ومسلسلات بدوية تقلد سطحية المسلسلات السورية
المعروفة.
نموذج مطلوب حالياً
والحق أن «رهان» نموذج لعمل سينمائي مطلوب في هكذا أوضاع من طرف
هذا الجمهور. علامة وواجهة لانشغاﻻت الجيل الجديد قلباً وقالباً.
من حيث الموضوع المحكى عنه ومن حيث الشكل التقني البصري المتطور.
ويتناول الموضوع رهاناً بين صديقين حميمين يشتركان في الكثير من
الأشياء، الأهم هو مروان الشخص اللامبالي والعابث. والعبث هنا
طفولي بما أنهما معاً مُغرمان بأمور عادية لتزجية الوقت لا غير،
كباقي الشباب الذين في سنهما، وبخاصة قضاء الوقت الطويل أمام جهاز
الحاسوب والسباحة في الويب. وفي إحدى لحظات هذا العبث البريء يتحدى
مروان رفيقه بقدرته على دعوة ممثلة مشهورة إلى حفل عشاء. فقط من
أجل الرهان وإظهار القدرة على تنفيذ رغبة لا أثر لها في مجرى
الفيلم غير تأثيثه بتابل أنثوي يساعد على ربط علاقة الحب لاحقاً
بينه وبينها، كما هو منتظر ومتوقع منذ البداية. قصة سبق أن شوهدت
مراراً في ريبتوار سينمائي معروف، لم يتم اختراقها ولا توظيفها ولا
تطويعها. وواضح أن المخرج ليست تلك غايته بتاتاً. بما أن تكوينه في
مجال الصورة تقني أساساً، وتحديداً في ميدان المؤثرات الخاصة من
خلال السلسلة المنتمية للخيال العلمي التي أخرجها للتلفزيون «البعد
الآخر»، كما من خلال مشاركته في إخراج فيلم «حتى طفا الضو عاد زاد»
برفقة الممثل المعروف رشيد الوالي. وهذا يبين أن الكغاط ليس من
الذين يرغبون في تأسيس مشوارهم السينمائي على الفيلم الموضوعاتي
وعلى سينما الرأي والحكي القوي المعمق، بل يتطلع فقط إلى سينما
التسلية والإمتاع اللحظي المستند على التقنية العالية والضحك
موظفين هكذا لذاتهما لحكي قصص من الزمن الحالي، باهتمامات فردية في
مجتمع استهلاكي يتغير بسرعة تحت تأثير الحداثة غير المتحكم فيها.
سينما عفوية وطيبة لجمهور واسع.
وبالتالي فالشريط هذا يمنحنا صورة عن مجتمع رجال ونساء العصر
الحالي الذي همه الأقصى التوفر على المال الكافي، وما يرافق ذلك من
وسائل عيش وترفيه، بهدف تحقيق رغبات الجسد والطموح إلى سعادة من
فوق، لا يكدرها الفكر ولا السياسة ولا أحوال أهاليها ولا العالم.
الحياة كما هي مفروضة في العشرية الثانية من القرن الواحد
والعشرين. فبالنسبة إلى مروان لا يتعدى الأمر مرافقة ممثلة مشهورة
تظهر في التلفزيون بحسب تعبير أحدى شخصيات الفيلم. وهكذا يظهر
عرضاً أن السينما غائبة في مرجعياته بما أن القاعة السينمائية لم
تعد مجال ارتياد اجتماعي منذ سنوات، مما يؤكد ويعارض كل طموح
سينمائي للشريط. حيث أن مروان كي يحصل على مراده من الممثلة يلجأ
إلى الحيلة الأكثر توقعاً وهي مكاتبتها برغبته في اللقاء بها كرغبة
أخيرة في الحياة، متذرعاً بإصابته بمرض عضال.
مجتمع حائر
وعلى غرار الشخصية الرئيسية هذه تبدو شخصية الممثلة هي أيضاً من
شاكلة نساء الراهن، تلك اللائي يعشن في مجتمع حائر بين التقليد
والعصرنة، مع ما يتطلب ذلك من مداراة وتصورات مبينة على الشائع
والتقليد والسماع مما يتداوله أفراد مجتمع لم يع بعد ضرورة العقلنة
في التصرف والسلوك ومجابهة الحياة. شخصيات في ظاهر حداثي وبسلوك
مرتبط بما تنتجه التقنية عالمياً، لكنها تتعامل بحذر حين تتطرق هذه
الأخيرة إلى المرتكزات الثقافية التي تشيد المجتمع ككل، مرتكزات
تظهرها بوضوح اللغة الدارجة التي تنظم علاقة الشخصيات في ما بينها،
لغة الشارع اليومية بما يميزها من مستوى أول يحقق التواصل والفهم
دون مجهود للرقي بهما، ومنحهما جرعة شعر من العامية التي يمكن أن
تبدع حين نركز عليها قليلاً. وفي مسألة اللغة يلاحظ أن في العنوان
الفرنسي للفيلم تمت إضافة نعت «متبلة» كعلامة تشويقية تعني في
الغالب الجمهور الذي له حساسية خاصة مع لغة موليير لكن خارج صرامة
القاموس.
وهكذا نشاهد شريطاً ينقل حرفياً الخارج الذي يطغي بمعماره وبأناسه
المنشغلين بتحصيل العيش اليومي في توافق مع تحديات الزمن ومشاكله
بنسيانها ومواراتها، عبر عدم الوقوف عندها كثيراً. نشاهد حكاية حب
وغزل وشد وجذب عاطفي وردي. حكاية مغامرات صغيرة ومدينية تزول حال
تحققها من الذاكرة ومن التأثير، مفارقة لكل شيء مثل أي حكاية تروى
بالكثير من ذلك التشويق الذي يزرع الانتظار العادي، وهو هنا مآل
الرهان الذي ربط الممثلة بالشاب في المركز، وانتظار الشخصيات
الأخرى وعلى رأسها الصديق الحميم، وهي تلعب دور المٌشاهد الذي خارج
الفيلم والقابع في القاعة وقد أخذ حقه من الضحك والترقب والتملي
بمتابعة ممثلين حرفيين حقاً ولهم جاذبية الممثل النجم الذي يؤدي
الدور بجسده ونظراته ومقومات إغرائه.
«رهان» فيلم للوقت الثالث ولأناس زمن تمت تنقيته من كل مؤثرات
الخارج الموضوعة في الرف خلف العدسة التي وجدت كي تكشف ما يعبّر،
لا كي تنقل ما هو موجود أصلاً من دون حفر.
«سوء تفاهم»: الأبطال يضيعون مرتين وأكثر
بيروت - فجر يعقوب
«سوء تفاهم» هو عنوان «فيلم» جديد يعرض حالياً في الصالات
اللبنانية بعد ان صُوّر بين لبنان ومصر. بين بيروت والغردقة. أراده
المنتجان («شركة المتحدين للإنتاج الإعلامي» و»إيغل فيلم») أن يكون
صورة عن أفكار سياحية ملهمة لأبطاله. مغامرات. علاقات عاطفية غير
مفهومة ومتبلورة. لعبة مال مسروق بيد أولى وثانية. ألماس مهيّج
للأبصار والمشاعر. وكل شيء، كل شيء يمكن أن يثري هذه الخلطة
الدرامية «التلفزيونية» التي ألّفها للسينما محمد ناير، وأخرجها
أحمد سمير فرج.
في الفيلم تبدو لينا (سيرين عبد النور) صاحبة محل الحلويات في
بيروت، غير قادرة على فهم الشخصية التي أنيطت بها منذ البداية،
يعاونها على عدم الفهم - بالطبع - صديقتها المقربة جداً سارة (ريهام
حجاج). كأن الخط المتوازي الذي يجمعهما سيؤسس لتعليب مكلف يكفي أن
يصل بأحداث الفيلم إلى نهايته من قبل أن تنتهي. كل ما في الأمر
أننا سنقع منذ الكادرات الأولى على الفتاة الرومنسية الحالمة التي
تخرج من بيتها كل صباح في طريقها لفتح محل الحلويات، ويلاقيها
الجيران بالتحايا والابتسامات ووردة حمراء قانية يقدمها لها بائع
الأزهار عند زاوية الدرج كل يوم، فيما هي تقدم - ان احتسبنا ذلك
لغة سينمائية - اشارة لفارس الأحلام أحمد عبد العزيز، أو رؤوف
(أحمد صلاح السعدني) ليحصي عليها حركاتها، كما تحصي هي عليه حركاته
اذ تعد عليه قطع الحلوى التي يشتريها من عندها يومياً وتعرف كل
واحدة منها وفي أي يوم يطلبها. الطريقة التي سيقعان فيها بغرام
بعضهما بعضاً تبدو فقيرة ومثيرة للضحك ولا تنتمي في بذرتها
الدرامية حتى الى أكثر المسلسلات التلفزيونية بدائية. لم يقرر
المخرج اذا ما كان سيدفع بشيء من «الحمّى» في الشخصيتين لتسجل له
في بناء فيلمه وتحيده عن هذه البداية المتسرعة. اكتفى خلال أقل من
دقيقتين بالتأسيس لأسرع العلاقات العاطفية اندفاعاً وتهوراً هزلياً
في تاريخ السينما العربية - ربما - تحت أنظار الصديقة المصرية
الدارسة في لبنان التي تعيش حياتها الليلية على هواها، وتأتي
للمساعدة الصباحية في المحل ليدور بعدها الفيلم في حلقة مطاردات
مفتعلة على الشاطئ الآخر للأحداث في الغردقة المصرية: قبل الانتقال
يتقدم أحمد عبد العزيز أو رؤوف للزواج من لينا، وقبل أن يتركها في
حفل زفافها ويختفي، سيخبرنا المخرج أن فارس الأحلام نفذ ضربة مالية
كبيرة في بيروت كانت هي السبب في مجيئه أصلاً اليها.
تحت أبصار الحكومة
لا ينسى المخرج أحمد سمير فرج استخدام تيترات داخلية في فيلمه
للدلالة على عبور الزمن. بعد ثلاث سنوات في السجن سيخرج عمر
البغدادي (شريف سلامة) للبحث عن أحمد عبد العزيز فيما «سيلزم»
المخرج مشاهدي فيلمه بذلك الشاب الأبله، عاطف، الذي سيظل برفقة عمر
في رحلته المعلومة من السجن إلى سعيد كارثة مزوّر جوازات السفر
الذي يكاد يفتتح مكتباً رسمياً تحت أبصار الحكومة ليستعلم منه عن
أحمد عبد العزيز أو رؤوف. وفي المكتب يقع عاطف - مصادفة -، على
صورة للمطلوب في الجريدة تعلن عن مزاد على الألماس على شواطئ
الغردقة في أحد أضخم فنادقها - يملكه والد سارة مروان التي تظهر
هنا بوصفها مشرفة عليه، وصاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فيه. مزاد
ينظمه الفارس المحتال بالتعاون مع شفيق البغدادي عم عمر ومغتصب حقه
من والده المتوفى. وإذ يُكتشف وجوده، يستدعي هذا الاكتشاف الاتصال
بلينا في بيروت لإخبارها بحقيقة العريس المختفي. تتمنع الشابة
المكلومة بمشاعرها في البداية، ولكنها سرعان ماتوافق على الحضور
الى الغردقة بوصفها الأميرة سارة فواز التي ستحجز لها صاحبتها
جناحاً كاملاً في الفندق الذي تملكه وهو ما ينسيها للحظات السبب
الرئيس الذي قدمت من أجله، اذ يبدو هذا المكان الفخم أكبر وأوسع من
حقيقة مشاعرها الفياضة التي لا تتفجع هنا، ولاتترك أثراً على
وجهها، رغم أن أكبر أمنية سنقع عليها للينا في بدايات الفيلم هي
الارتباط بفارس الأحلام، وعندما تقع عليه يختفي ويتبخر. تيمة
التبخر للشخصيات مغرية في السينما لكنها هنا تأخذ منحنى ميلودراميا
مؤذياً، اذ سيجتمع الجميع في فندق سارة مروان من أجل الألماس في
شكل أوآخر. عمر البغدادي سيبحث عن أحمد عبد العزيز أو رؤوف لأنه
السبب في الإيقاع به في السجن، ففي ليلة سرقة خزائن عمه يتركه
رفيقه ويقرع جرس الإنذار بعد أن يحظى بالألماس. لينا ستجيء باحثة
عن الفارس الغادر، وهذا سيؤمن لقاءها بعمر لتعيش علاقة جديدة تتكرر
فيها سردية مشاعرها الساذجة. شفيق البغدادي عم عمر يريد أن يضمن
بيعة موفقة للألماس الذي يملكه.
وسط هذه الأجواء السياحية الباذخة ستظهر جلّنار (مها أبو عوف).
لسبب ما تلتقي بعاطف. تهيم به لأنه يشبه ابناً لها مرض ومات. تدعوه
للإقامة في يختها الفخم. ثمة خيط ينسل من أصابع الكاتب ليزيد من
تضخّم التيمة «البوليسية» التي تلتهم كل شيء بسذاجة على حساب اللغة
السينمائية التي لم تعد تقبل مثل هذه التدخلات الفارطة في بناء
الشخصيات والأحداث. هناك من يشيع أن ثمة من سيدخل في المزايدة
بعشرة ملايين دولار، وتقوم سارة بالإيحاء أن الأميرة سارة فواز هي
من يقوم بذلك، وهي تضمن بذلك تقرب أحمد عبد العزيز أو رؤوف من
صديقتها لينا تمهيداً للانتقام. لا يمكن فهم ردود فعل الصديقة
المغلوبة على أمرها. ليس هناك ادارة واضحة من المخرج. يبدو أن سوء
تفاهم وقع بالفعل بينه وبينها. لا يمكن تفسير عنوان الفيلم أكثر من
ذلك. نعم هناك مشكلة حقيقية في إدارة مشاعر وأحاسيس سيرين عبد
النور فيه باعتبار أنها النقطة المركزية في الفيلم، فلا يمكن
التكهن بتطور الأحداث كما سيفترض تطور الأحداث، ولو اكتفى المنتجان
بساعتين تلفزيونيتين ربما كانت النتيجة أقل خسراناً ومضيعة للوقت،
اذ لا يكفي الغرق طوال هذه المدة في العتمة حتى يقال إن ثمة فيلماً
سينمائيّاً هنا. هذه لغة منقرضة وبائدة لو أدرناها على وجهة
كوميدية، فسنحظى بساعتين من الهزل والافتعال، وبالتأكيد لن نحظى
بساعتين من العلاقات العاطفية الرومنسية التي يثوّرها تناقض الصراع
بين الأبطال لا انكفاء للدّفة فيها على قصة تتخبط في عناوين لا
يمكن صنع فيلم منها.
ضمير مستتر
جلّنار ستظهر في النهاية لتكون بمثابة ضمير الفيلم المستتر.
المصادفات وحدها تصنع المعجزات في هذه القصة. ستعترف على الملأ وقت
مزايدة الألماس الشهيرة بأنها قامت مع شفيق البغدادي بحرمان عمر من
حق أبيه، وبأنها نالت عقابها بوفاة ابنها، وتدعو العم البغدادي
لإعادة الحق المسلوب لأصحابه. يكفي أن نعرف أن جلّنار هي من قامت
بالمزايدة بالمبلغ المطلوب: عشرة ملايين من الدولارات وسط دهشة
شفيق. البقية معروفة. يفر أحمد عبد العزيز أو رؤوف بنصف الألماس،
ويبقى النصف الآخر بحوزة عمر، أما «عطّوفة» فسيصبح من حظ جلنار
المقيمة الأبدية في اليخت في اتجاهين دراميين غير واضحين.
ثمة إشارة في تيترات الفيلم لأغنية «محدش بقى راضي» من كلمات أيمن
بهجت قمر وألحان ياسر نور وغناء سيرين عبد النور لم نجد أثراً لها
في الفيلم. لا نعرف سبب حذفها. من المؤكد ليس هناك مايستدعي ذلك،
لكن كان مجدياً لو قام القائمون على الفيلم بحذفها من جينيريك
البداية. ليس الأمر ملحاً، ولكن التيترات جزء مهم من هوية الفيلم
نفسه. سلوك لامبالٍ من هذا النوع يكشف عن طريقة تفكير غير
احترافية. الاتكال على أماكن التصوير الجميلة في بيروت والغردقة لا
يكفي لصناعة فيلم. ما سنقع عليه على مدى ساعتين قد لا يزيد عن سوء
تفاهم مريع بين المخرج وممثليه الذين لا يخضعون لإدارة حازمة
ومقنعة.
«محمد» للبناني قصيباتي في مرآة النقد الإنكليزي
لندن - «الحياة»
على رغم ان السينمائي اللبناني الشاب مصطفى زهير قصيباتي حقق حتى
الآن من الأفلام القصيرة في بريطانيا ما جعله يمتلك متناً
سينمائياً وصل الى أربعة أفلام، لا يزال هذا المتن مجهولاً في
لبنان، وطنه، ولم يقدم اي واحد من افلامه في اي من «المهرجانات»
العديدة التي تقام في هذا البلد. ومع هذا بات قصيباتي يعتبر في
لندن واحداً من السينمائيين الواعدين بل حتى الراسخين في مجال
الفيلم القصير إن استندنا في فرضيتنا الى ما يقوله النقد الإنكليزي
المتخصص عنه. ولا سيما عن فيلمه الرابع والأحدث «محمد». وهذا العمل
الأخير لقصيباتي يقدم في عشرين دقيقة «مكثفة» بحسب النقد، صورة من
الحياة العائلية «اللبنانية» على الأرجح، وذلك من خلال بورتريه
لفتى في الثانية عشرة من عمره ينظر بإكبار ودهشة الى أخيه ذي
الحادية والثلاثين والذي يعتبره بطله المميز. أما هذه النظرة التي
من خلالها يراقب الفتى أخاه ويتابعه فإنها سوف تنتهي بالفتى الى ان
يقرر ذات يوم ان امامه فرصة طيبة لاستغلال اخيه ومكانته... للحصول
على اصدقاء.
على هذه الخلفية العائلية البسيطة التي، إذ تناول الموقع السينمائي
الإنكليزي «شورت أوف ذا ويك» الفيلم في عدده الأخير، وجدها واقعية،
بنى قصيباتي موضوع هذا الفيلم الذي ينقل الموقع عن مخرجه انه وضع
روحه وفؤاده فيه وهو يحققه. وإذ كتب محرر الموقع يقول انه إذ كان
منذ زمن يريد ان يتناول فيلماً لهذا المخرج تحت عنوان «فيلم
الأسبوع» في مضمار الفيلم القصير، أكد ان الفرصة حانت اخيراً «امام
فيلم مليء بالمرح والمشاعر» حيث «يحتار المتفرج بين كل لحظة وأخرى
ما إذا كان عليه ان يبتسم او يبكي...».
ويتابع الناقد قائلاً حول فيلم «محمد»، صحيح ان الشريط يبدو مستوحى
من سينما الثمانينات التي كانت تعبر ببساطة عن الحياة الطيبة، لكن
الفيلم في حد ذاته «يبدو واقفاً خارج الزمن أو يعطي الشعور بذلك،
فيما يأتي حضور الووكمان والملصقات والبرامج التلفزيونية في أجوائه
إشارة ما الى زمنه» حتى وإن «كان في وسعنا ان نقول ان الفيلم، مثل
الأفلام التي استلهمها مخرجه، تشعرنا ان الحكاية هي من الكونية
بحيث يمكنها ان تقف أمام امتحان الزمن».
ويختتم الناقد بقوله: «أنا شخص اجد من الصعوبة بمكان التنبؤ
بالطقس، وطبعاً لا يمكنني ان أدلي بتوقعات تتعلق بالمستقبل. ولكني
انصحكم بأن تتنبهوا جيداً الى هذا الإسم: مصطفى قصيباتي خلال
السنوات القليلة المقبلة... فليس ثمة الآن كثير من مخرجين شبان
يحققون ما يحققه...».
عن الجالية اليونانية في أم الدنيا
القاهرة - عزة سلطان
تحتفظ السينما لنا بمشاهد يظهر فيها البقال اليوناني، أو صاحب
البار، أو الجار اليوناني كتفصيلة من تفاصيل الحياة في مصر حتى
بداية الستينات. وقتها شهدت مصر تغيراً اجتماعياً وسياسياً، فعبد
الناصر الذي وعد أن يقدم لليونانيين قواعد مختلفة في التعامل مع
الأجانب، خصوصاً أن عدداً من اليونانيين وقف جنباً إلى جنب مع
المصريين في مواجهة العدوان الثلاثي العام 1956، تراجع في وعوده،
فلم يجد اليونانيون أمامهم سوى المغادرة وترك مصر إلى جهات عدة قد
تكون اليونان إحداها وليست وجهتها الوحيدة.
عن الجالية اليونانية في مصر يأتينا فيلم «مصر الوطن الآخر» وثائقي
يُعيد بعضاً من اليونانيين إلى مصر في رحلة يتم توثيقها عبر حالة
من النوستالجيا، ودموع تتفرق على الذكرى المفتتة في بقايا البنايات
والتفاصيل العالقة في الذهن. والفيلم عبارة عن خمسين دقيقة يعود من
خلالها نحو خمسة يونانيين غادروا مصر في بداية الستينات، لكنهم
مازالوا يحتفظون بحنينهم إلى الوطن. الفيلم الذي يعتمد الحنين كخط
درامي تصاحبه موسيقى تعتمد على الكمان والبيانو وحال من الشجن
المتفرقة عبر اللقطات، لا يتوقف عند انتقال بين كل شخصية
وذكرياتها، وإنما يحفل بتأصيل تاريخي عن الجالية اليونانية في مصر
منذ استقدمها محمد علي باشا، في بدايات القرن التاسع عشر وحتى غادر
أبناؤها مصر.
شطارة التجار
يكشف الفيلم عن نشاطات اليونانيين في مصر، والتي تركزت في التجارة
في شكل أساسي، فكانت سببًا لثراء كثير من العائلات اليونانية،
بينما اكتفت العائلات الفقيرة بالعمل في أمور أخرى كالبقالة
والمخابز. ويقول لنا ان اليونانيين انخرطوا في نسيج الشعب المصري،
فباتوا جزءًا من هذا النسيج.
يقدم الفيلم مادة وثائقية فيلمية عن تاريخ الجالية اليونانية، وهي
مادة نادرة، حيث لم يعرضها فيلم سابق رغم احتفاء العديد من
الفنانين والمبدعين المصريين بهذه الجالية من دون غيرها. ومن
الواضح أنها تسجيلات سينمائية لعائلات يونانية، أتت من الأرشيف
الخاص لهذه العائلات.
تمركزت الجالية اليونانية في شكل أساسي في مدينة الإسكندرية، ومن
هنا يسعى الفيلم الى تأصيل علاقة وطيدة بين المدينة واليونان
ضاربًا في عمق التاريخ، عن مدن ساحلية يونانية تم تشييدها في مصر،
وعن الإسكندر الذي بنى الإسكندرية ودُفن فيها في قبر لم يتم
اكتشافه حتى الآن.
أكثر من ثلثي الفيلم يدور عن الإسكندرية وعلاقاتها باليونانيين
قديمًا وحديثًا، عبر شهادات شهود عيان، ومؤرخين. ويأتي الروائي
ابراهيم عبد المجيد ضيفًا في الفيلم وهو المعروف بأنه كتب أكثر من
عمل روائي عن الإسكندرية التي كانت تزخر باليونانيين. ولولا أن
الفيلم يعرض موقف اليونانيين من حرب العدوان الثلاثي وكيف تطوعوا
في الجيش المصري إلى جانب المصريين، لكان من شأنه أن يقف عند حدود
الإسكندرية، وبالتالي بدا اسمه كبيرًا عن المكان الذي يتناوله.
يسير الفيلم في ثلاثة مسارات درامية متوازية، في المقابلات
التلفزيونية مع المؤرخين والتي تؤصل لعلاقة اليونانيين بمصر سواء
تلك قبل الميلاد أو حتى بعد استقدامهم من قِبل محمد علي باشا،
ومقابلات أخرى مع عدد من الشخصيات اليونانية التي أُضطرت
للــمغادرة، لكن الفيلم يصحبها في رحلة إلى الإســـكندرية لنسمع
ذكرياتها، ثم يأتي الخط الثالث في زيارات تقوم بها هذه الشخصيات
إلى الأماكن التي كانوا يعيشون بها، ومقابلة بعض من أصحابهم الذين
مازالوا يذكرونهم.
الموسيقى لا تنقطع عن السرد أو الصورة، فهي حاضرة طوال الفيلم سواء
كانت في الخلفية بصوت متوار، أو في وضوح كما في لقطات عديدة، تعتمد
نغمات حنينية في شكل واضح، يغزوها الناي في النصف الثاني لإضفاء
حال من الحزن على المشهد، ورغم تميز الموسيقى إلا أنها تبدو زائدة
عن الحد وكان يمكن تخفيفها.
الفيلم صناعة يونانية كاملة، حيث إن طاقم العمل كله يوناني
باستثناء الاستعانة بمدبلجي صوت عرب.
التواجد المصري في الفيلم جاء عبر شخصين فقط هما المؤرخ ضياء الدين
القاضي، والروائي إبراهيم عبد المجيد، والذي يُنهي الفيلم بصوته
عبر قصيدة المدينة للشاعر اليوناني كافافيس.
معلومات جديدة
الفيلم أيضًا يحوي معلومات ربما سيعرفها المشاهد للمرة الأولى، كون
السيجارة اختراعاً مصرياً أصيلاً اخــترعها جنود جيش ابراهيم بك
عندما كانوا يحاربون في الشام، وأن أول منتج تم تصديره من المصانع
المصرية كانت السجائر، لتغزو أوروبا وأميركا.
كما يزيــل الفــيلم الستار عن زراعة القــطن المــصري، وكيف
استفاد اليونانيون من الحريق الذي أصاب المزراع الأميركية، والتي
كانت تورد القطن لأوروبا ما جعل الأوروبيين يساعدون المصريين في
زراعة القطن وأصـــبحت بورصة القطن المصرية هي المحددة للأسعار في
العالم كله.
العديد من المعلومات التي يمكن للمشاهد التعرف إليها واكتشافها،
عبر فيلم صُنع بأعين يونانية شغوفة بـ «وطنها الآخر» مصر. حتى
الضيوف اليونانيون كانوا يبررون مواقف عبد الناصر معهم، معلنين
المحبة غير المشروطة، وباكين على شبابهم الذي غادروه في مصر.
الفيلم يمثل اضافة للمعنين بشأن الجالية اليونانية في مصر وبخاصة
الإســـكندرية. وهو من ســيناريو وإخراج يورتمــوس فيروبولوس وشارك
في السيناريو نيكولاوس ربرغالوس.
غارسيا ماركيز والفن السابع
القاهرة - هيام الدهبي
ضمن مطبوعات مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الأخيرة، صدر
للناقد السينمائي عصام زكريا كتاب «غارسيا ماركيز والسينما». ومنذ
البداية يعترف المؤلف قائلاً: «لم أكن أتصور عندما فكرت في إمكانية
تأليف كتاب عن علاقة الأديب الكولومبي الراحل غابريل جارسيا ماركيز
بالسينما أنني في سبيلي إلى دخول متاهة لا أستطيع ولا أريد الخروج
منها».
ويقول زكريا: «لقد ظل غابريل غارسيا ماركيز (1927 - 2014) على مدار
عقود من عمرنا أهم وأشهر وأقرب أديب عالمي إلى قلوبنا في مكانة
توازي لأسباب كثيرة المكانة التي يتمتع بها نجيب محفوظ على المستوى
العربي. ومثل نجيب محفوظ لم يكن غارسيا ماركيز أديباً ميتاً، كان
يبدع وينشر أعماله وكنا نتلهف لصدور ترجمتها العربية ونتلقفها
بمجرد نزولها إلى الأسواق ونقضي الساعات في الحديث عنها وتقييمها
ومقارنتها بأعماله السابقة».
ويضيف زكريا: «لم يكن غارسيا ماركيز كاتبا شبحاً لا نعرفه سوى من
خلال كتبه بل كان حاضراً في المشهد الثقافي والسياسي العالمي وكنا
نستمتع بقراءة حواراته وأخباره مثلما نستمتع بأعماله الأدبية».
ويرى زكريا أنه كان طبيعياً أن تهتم السينما العالمية بغارسيا
ماركيز، ولكن المدهش هو اهتمامه بالسينما الذي لم يقتصر على كتابة
عدد كبير من سيناريوات الأفلام، ولكنه امتد إلى نشاطات أخرى مثل
مساهمته في تأسيس مركز لتعليم السينما في كوبا - وفق رأيه -.
ويفسر زكريا قائلاً: «ولسبب آخر مختلف ارتبط اسم غارسيا ماركيز
بالسينما وهو أن ابنه الأكبر رودريغو أصبح مخرجاً لامعاً في أميركا
اللاتينية وهوليوود، ورغم أنه لا يعمل كثيراً إلا أن الأفلام
القليلة التي قام بصنعها كانت لافتة في طريق سردها وموضوعاتها
والحساسية المختلفة التي تحملها».
ويكشف لنا أن غارسيا الذي كتب ما لا يزيد على عشر روايات وأربع
مجموعات قصصية له أكثر من خمسين فيلماً تحمل اسمه كمؤلف للقصة
الأصلية أو كاتب سيناريو غير الأفلام التي تحمل اسمه كمشرف على
السيناريو أو الأفلام الوثائقية التي صنعت عنه أو التي ظهر ليتحدث
فيها. ومن بين هذه الأفلام المتنوعة وجدت فيلماً قديماً يعود إلى
الستينات قام غارسيا ماركيز بكتابة السيناريو وساعد في مونتاجه
وقام بالتمثيل فيه مع عدد من المشاهير منهم المخرج والمؤلف
السينمائي الإسباني الكبير لويس بونويل.
كما أن له العديد من السيناريوات التي حملت اسمه مقتبسة من أصول
أدبية لكتاب آخرين بعضهم معاصرون له مثل خوان رولفو، وبعضهم قديم
جداً مثل سوفوكليس.
ويعرفنا زكريا أكثر بماركيز، ويقول: «كتب غارسيا ماركيز في بداية
حياته المهنية كصحافي، عشرات المقالات النقدية لأفلام عصره هو الذي
حضر العديد من المهرجانات الدولية مثل فينيسيا وكتب تغطيات عنها.
كما أنه درس السينما وفكر في اتخاذها مهنة أساسية وقضى بالفعل
سنوات في محرابها ككاتب سيناريو محترف.
كما أن الباحث في أدب غارسيا ماركيز يمكنه أن يدرك تأثير السينما
فيه خصوصاً في أعماله الأولى قبل «مئة عام من العزلة» وأن يرى كيف
لعبت السينما دوراً ملموساً في تطويره أسلوبه المميز الفريد. إن
أدب وسينما غارسيا ماركيز يحملان دروساً قيمة عن العلاقة العميقة
بين فنون الدراما والفنون بعامة وعن الفروق بين الوسائط الفنية وعن
الأساليب والتقنيات المختلفة وهي دروس مقيدة لكل من يرغب في العمل
بالأدب أو السينما أو الكتابة عنهما».
وينقل الناقد السينمائي عصام زكريا عن ماركيز، قوله «هناك أوقات
فكرت فيها أن أصبح مخرجاً سينمائياً ودرست السينما في روما، ولكني
أدركت أن هناك حدوداً في القالب السينمائي لا توجد في الأدب،
وأصبحت مقتنعاً أن عمل الروائي هو أكثر عمل حر على ظهر وجه الأرض
فأنت هنا سيد نفسك تماماً. مهما يكن شعرت أيضاً بأن السينما وسيط
بلا حدود وكل شيء ممكن فيها، ثم ذهبت إلى المكسيك لأنني أردت أن
أعمل في صناعة الأفلام ليس كمخرج ولكن ككاتب سيناريو. لكنني وجدت
أن هناك عائقاً كبيراً في السينما وهو أنها فن صناعي صناعة كاملة
وبالتالي فمن الصعب أن تعبر في السينما عما تريد التعبير عنه
فعلاً، مع ذلك فلا زلت أفكر فيها، ولكن كرفاهية يمكن أن أقوم بها
مع الأصدقاء من دون أن أطمع في التعبير عن نفسي فعلياً، لهذا فقد
أخذت أتباعد وأتباعد عن السينما والآن علاقتي بها مثل زوجين غير
متوافقين ولا يستطيعان الانفصال، ولكنهما أيضاً لا يستطيعان العيش
معاً». |