على شفا العظمة – دارين أرونوفسكي
محمود سمير – التقرير
الفنان الذي يعيش ويبقى هو الذي يغير ما يقدمه للجمهور دومًا.
استطاع (دارين أرونوفسكي) أن يصنع اسمًا مميزًا في السينما
العالمية رغم أنه قدم ستة أفلام فقط على مدار سبع عشرة سنة.
ثلاثية الهوس (أفلام أرونوفسكي الأولى)
أخرج (أرونوفسكي) عام 1998 فيلمه الأول باي (Pi).
يحكي الفيلم قصة العالم الرياضي (ماكس كوهين) الذي يعتقد أن
الأرقام هي لغة الكون وأن كل شيء به خاضع لأنماط وقوانين رياضية
محددة، وأن الطبيعة يمكن التعبير عنها في صورة أرقام.
حاول (كوهين) أن يطبق تلك النظرية على سوق الأوراق المالية، ذلك
أنه اعتقد أن هناك نمطًا رياضيًا محددًا يتحكم بطريقة عمل سوق
البورصة.
استخدم (كوهين) حاسوبه الآلي المسمى بـ(إقليدس) في القيام بحسابات
رياضية تساعده على توقع قيمة الأسهم المالية في المستقبل.
توقف (إقليدس) عن العمل أثناء قيامه بالحسابات وطبع شيفرة مكونة من
216 رقمًا عشوائيًا قبل أن يتلف تمامًا.
طبقًا لدراساته السابقة، استنتج (كوهين) أن تلك الشيفرة هي مفتاح
فك الأنماط الكونية التي لطالما آمن بوجودها.
طوال الفيلم (كوهين) مههوس بفك هذه الشيفرة الكونية. يزداد هذا
الهوس سوءًا مع مطاردة شركات السمسرة المالية له من أجل تطبيق
نظرياته لصالحها، ومطاردة مجموعة من رجال الدين اليهودي له
لاعتقادهم أن تلك الشيفرة الكونية قد تكون رسالة جلية من الرب.
قام بدور (ماكس كوهين) الممثل (شون جيليت) والذي كان صديق
(أرونوفسكي) في دراسته الجامعية.
ظهرت هنا بذور جماليات وأسلوب (أرونوفسكي) الإخراجي المميز الذي
سيطوره في أفلامه اللاحقة.
تباين شديد في الصورة، قطع مكثف للقطات قريبة بإيقاع شبيه بموسيقى
الهيب الهوب، أسلوب حكي ذاتي يحكي القصة من وجهة نظر الشخصيات،
ومقاطع سيريالية مجنونة وغرائبية.
شهد الفيلم بداية تعاون وثيق بين (أرونوفسكي) ومدير التصوير (مات
ليباتيك) الذي استمر حتى الآن.
الفيلم صور بالأبيض والأسود وبتكلفة لم تتعد الـ 50000 دولار
أمريكي.
عرض الفيلم في مهرجان سان دانس وحاز (أرونوفسكي) على جائزة أحسن
مخرج، ونجح في دور العرض الأمريكية ليحقق إيرادات تجاوزت الثلاثة
ملايين دولار. نجاح الفيلم شجع (أرونوفسكي) ليخرج فيلمه الثاني
بميزانية أكبر.
تقييم الفيلم 8/10
Requiem
for a Dream
أو جنازة حلم، الذي أنتج في عام 2000. الفيلم يناقش نوعًا آخر من
الهوس وهو الإدمان. يحكي الفيلم قصة أربع شخصيات يحول الإدمان
أحلامهم وأمالهم لكوابيس.
(سارة جولدفارب) أرملة عجوز لها ابن وحيد (هاري). سارة أدمنت
مشاهدة أحد برامج المسابقات على التلفاز، وتحلم كل يوم أن تظهر به.
تحقق حلمها بعد أن جاءتها مكالمة تخبرها أنها صارت ضيفًا على
البرنامج، مما دفعها أن تبدأ حمية غذائية معتمدة على أقراص التخسيس
لتخفض من وزنها.
تسبب استخدام (سارة) المفرط لأقراص التخسيس في إصابتها بحالة جمعت
بين جنون الارتياب والزهايمر.
على جانب آخر، (هاري) وحبيبته (ماريون) مدمنان للهيروين. يحلما بأن
يكونا ثروة سريعة من تجارة المخدرات حتى يستطيعا تحقيق أحلامهما
بالاستقرار سويًا كزوجين وحبيبين.
لا يتناول الفيلم إدمان المخدرات فقط، وإنما يتناول الإدمان كحالة
نفسية وكنوع من الهوس. الفيلم أثار الجدل بسبب مشاهده التي احتوت
على عنف وجنس صريح. خاض الفيلم معركة مع جمعية الفيلم الأمريكي
التي أعطته التصنيف العمري سيئ السمعة
NC-17،
الذي لا يسمح بدخول من هم أقل من سن السابعة عشرة. انتهت المعركة
بنزول الفيلم دور العرض بدون تصنيف.
طور (أرونوفسكي) أسلوب الحكي الذاتي والقطع السريع في هذا الفيلم،
ليصبح أكثر حرفةً وجرأة.
هذا الأسلوب جعلنا كمشاهدين ننصهر في الحالة النفسية والعقلية التي
يمر بها أبطال الفيلم.
قامت الممثلة المخضرمة (إيلين بيرنستن) بدور (سارة)، وقدمت شخصية
خائفة ومعزولة وتسعى لاستعادة اهتمام الناس بها.
شخصيًا، دورها كان غاية في القوة لدرجة أنها ذكرتني بأمي التي قمت
باحتضانها بعد مشاهدة الفيلم.
قام (جاريد ليتو) و(جينيفير كونيللي) بدور (هاري) و(ماريون). لا
تشعر سوى بالأسف والأسى لما تؤول إليه أحوالهما على مدار أحداث
الفيلم. روعة أداء الاثنين جزء مهم من التجربة العاطفية التي قدمها
(أرونوفسكي).
موسيقى (كلينت مانسل) كانت بارعة، ونجحت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا
لدرجة أنها أصبحت “كليشيه” من كثرة استخدامها في الإعلانات
التجارية والدعائية للأفلام والمنتجات.
أثبت (أرونوفسكي) أنه مخرج مخضرم بارع في إدارة الممثلين والحكي
والتقطيع. فقد رشحت (إيلين بيرستن) للأوسكار كأحسن ممثلة عن دورها
في هذا الفيلم ولاقى الفيلم استقبالًا نقديًا قويًا، وتم ترشيح
(أرونوفسكي) ليخرج النسخة الخامسة من سلسلة أفلام (باتمان) بعد
نجاح هذا الفيلم.
انتظر الجميع فيلم (أرونوفسكي) التالي. انتظروا وانتظروا وانتظروا.
تقييم الفيلم 9/10
The Fountain
بعد ست سنوات من الاختفاء، أخرج (أرونوفسكي) النافورة (The
Fountain)
في 2006. يحكي الفيلم قصة (توم) الذي يحاول أن يؤمن أن الموت
كالمرض له علاج. هذا المعتقد جاء نتيجة لصدمة أصيب بها بعد وفاة
زوجته (إيزابيلا) بمرض خبيث.
يسرد الفيلم ثلاثة خطوط درامية متشابكة تقع أحداثها في أزمنة
وأماكن مختلفة، وكلها متعلقة برحلة (توم) للبحث عن الخلود.
قام بدور (توم) و(إيزابيلا) كل من (هيو جاكمان) و(رايتشل فايز).
أظهر الفيلم جانبًا جديدًا لـ(جاكمان) على مستوى الأداء والمشاعر،
بالأخص في مشاهده مع (فايز) التي كانت حميمية ومرهفة للغاية.
طور (أرونوفسكي) أسلوبه البصري والروائي لأقصى مدى ممكن. أخرج مدير
التصوير (مات ليباتيك) لوحات فنية مكونة من ديكورات مبهرة وإضاءة
برتقالية دافئة.
موسيقى (كلينت مانسل) كانت وهمية، وعبرت بروعة عن مواضيع الفيلم
كالخلود، الموت، والفراق.
مكث (أرونوفسكي) ست سنوات في تحضير الفيلم، وتم التعاقد مع النجم
(براد بيت) والممثلة الأسترالية (كيت بلانشيت) في بدايات القرن
الجديد؛ إلا أن مشاكل إنتاجية أدت لتقليص الميزانية التي كانت
مقررة بـ 70 مليون دولار للنصف، واضطرت (أرونوفسكي) لإعادة كتابة
النص بالكامل.
فشل الفيلم على المستوى النقدي والتجاري؛ نظرًا لما رآه النقاد من
أن الفيلم نصٌ معقد وذو شخصيات مسطحة، رغم قوته على مستوى الأداء
والصورة.
تقييم الفيلم 8/10
ثنائية الجسد (أرونوفسكي يغير من جلده): The
Wrestler
إذا شاهدت أعمال (أرونوفسكي) السابقة لن تعرف أنه أخرج هذا الفيلم.
يحكي (The
Wrestler)
قصة راندي روبنسن المصارع العجوز. (راندي) كان أحد نجوم المصارعة
الحرة، التي كانت هي شغفه الأول والأخير.
من أجل الجماهير، تخلى عن ابنته (ستيفاني) وعمن حوله من أحباب
وأصحاب.
يعمل (راندي) في سوبر ماركت نهارًا، ويقضي ليله في نادي التعري مع
راقصته المفضلة (بام)، وفي عطلات نهاية الأسبوع يصارع في مباريات
صغيرة بمبالغ تافهة.
يشخص (راندي) بمرض في القلب يمنعه من المصارعة. خوفًا من الموت
وحيدًا، يحاول يائسًا إصلاح علاقته مع ابنته (ستيفاني) وأن يتودد
لـ(بام) كي يرتبط بها.
قدم (أرونوفسكي) رؤية حزينة وواقعية لعالم المصارعة الحرة. هم
مجموعة من الرجال يفتعلون معارك وهمية مع بعضهم البعض ويحطمون عظام
بعضهم من أجل صيحات الجماهير وسعادتها.
يحصلون على مبالغ زهيدة مقابل هذا العمل الجنوني، لينفقوها على
الطعام وهرمونات النمو كي يحافظوا على لياقتهم البدنية، وفي بعض
الأحيان للعلاج من الإصابات والكسور.
الازدواجية التي قدمها (أرونوفسكي) في الفيلم بين (راندي) المصارع
و(بام) راقصة التعري، كانت شاعرية ومعبرة.
كلاهما يستخدم الجسد كوسيلة للمعيشة وجني المال. كلاهما في سن يصعب
معه الاستمرار في المهنة التي يعملان بها.
قام بدور (راندي) ممثل أفلام الحركة (ميكي رورك)، وبدور (بام)
الممثلة المخضرمة ( ماريسا تومي)، وبدور الابنة (ستيفاني) الممثلة
(رايتشل وودز).
إذا أردت الكتابة عن أداء (رورك) سأكتب مقالًا كاملًا عنه و لن
أوفي حقه. قام (رورك) بزيادة وزنه وتمرن مع مدرب لمصارعة ليصل
للشكل المطلوب. أداؤه يجعلك تتعاطف مع شخصية غير قابلة للتعاطف
بالمرة. هذا هو التمثيل الرائع، نفس المعادلة حققتها الممثلة
(ماريسا تومي) في دورها.
تخلى (أرونوفسكي) عن تقنيات الصورة والمونتاج والموسيقى المبهرة،
واستبدلها بالسرد الوثائقي. اعتمد على أسلوب الكاميرا المحمولة
وصور بفيلم خام 16mm،
المخصص في الغالب للأفلام الوثائقية والقصيرة.
لم يكتب السيناريو بنفسه كما فعل في المرات السابقة، وإنما استعان
بالكاتب الكوميدي (روبرت سيجل)، واعتمد على الارتجال في بعض
المشاهد ليحصل على ردات فعل طبيعية من الممثلين.
عرض الفيلم في مهرجان فينيسيا ونال الجائزة الكبرى “الأسد الذهبي”،
ورشح كل من (رورك) و(تومي) للأوسكار فئة أحسن ممثل وأحسن ممثلة
مساعدة.
نجاح (The
Wrestler)
أعطى (أرونوفسكي) الفرصة لينتج رائعته البجعة السوداء (Black
Swan).
تقييم 9/10
Black Swan
يحكي الفيلم قصة راقصة الباليه (نينا سايرز) المههوسة بالكمال في
الأداء بعد فوزها ببطولة عرض الباليه الشهير بحيرة البجعة
لـ(تشايكوفسكي).
(نينا) تعاني من أم متسلطة وذات شخصية منطوية. المثير للسخرية، أن
مثاليتها الشديدة تصبح مشكلة لدي مخرج العرض (توماس).
شيئًا فشيئًا هوس (نينا) بالمثالية، يصبح ضربًا من الجنون.
عاد (أرونوفسكي) إلى موضوعه المفضل: الهوس، وطور أسلوبًا سرديًا
جديدًا، مزج بين الوثائقي والسيريالي المرعب.
قامت الممثلة (نتالي بورتمان) بأحسن أدوارها على الإطلاق حينما
جسدت (نينا). تدربت (بورتمان) على الباليه لمدة سنة كاملة من أجل
الدور، وعملت على تغيير نبرة صوتها لتصبح أكثر طفولية.
الفيلم كان من أصعب التجارب التي خاضها (أرونوفسكي)؛ فقد صور
الفيلم بميزانية ضئيلة لم تتعد الثلاثة عشر مليون دولار، وفي مدة
لم تتجاوز الأربعين يومًا.
عرض الفيلم في 2010، ولاقى استقبالًا نقديًا هو الأفضل في تاريخ
(أرونوفسكي)، ونجح نجاحًا كبيرًا في صندوق التذاكر؛ حيث حقق
إيرادات تجاوزت الثلاثمئة مليون دولار.
رشح (أرونوفسكي) لأوسكار أحسن مخرج، ورشح الفيلم في فئة أحسن
فيلم، ممثلة، مونتاج وتصوير.
نالت (بورتمان) الجائزة عن دورها في هذا الفيلم، واعتبر الفيلم
إعادة إحياء (أرونوفسكي) في هوليوود ليعرض عليه إخراج فيلم (The
Wolverine)
الذي رفضه ليخرج بعدها فيلم (نوح).
التقييم 9/10
العمل في هوليوود (Noah)
بعد أربع سنوات، أخرج (أرونوفسكي) فيلم نوح، المقتبس عن قصة النبي
نوح عليه السلام في سفر التكوين.
لا داعي لسرد القصة، فكلنا يعرفها. قدم (أرونوفسكي) تفسيرًا جديدً
لنوح. أولًا جعله بشريًا، يخطئ ويصيب.
لا يمانع في فعل أي ممنوع من أجل تنفيذ أمر الرب.
خلق (أرونوفسكي) دراما أخلاقية قوية بين نوح وعائلته، جعلتني
كمشاهد أفكر إن كان ما يقوم به نوح صحيحًا وأخلاقيًا أم لا.
طرح (أرونوفسكي) سؤالًا جدليًا حول ما إذا ما تعارضت الأخلاق مع
أوامر الدين من خلال هذا الفيلم.
الفيلم ابتعد عن النص المقدس ليقدم قصة هي بالأساس عن علاقة
الإنسان بالبيئة، لتكون القصة كناية عما يفعله الإنسان بكوكب الأرض
من دمار جراء التلوث والحروب.
قام (راسل كرو) بدور نوح وقدم الدور بتألق كعادته. قدم تجسيدًا
لشخصية تعاني من عقدة الذنب من موت البشرية في الطوفان. عادت (جينفير
كونيلي) لتؤدي دور زوجة نوح وتكون القلب العاطفي للفيلم، فمشاعرها
تجاه زوجها تتأرجح بين الشك والمؤازرة والريبة والرفض، نفس المشاعر
التي شعرت بها كمشاهد.
الفيلم تجربة جديدة من نوعها لـ(أرونوفسكي). فهذه المرة الأولى
التي يقوم بإخراج فيلم ينتمي لنوعية الخيال. أيضًا، هي المرة
الأولى التي يعمل فيها (أرونوفسكي) مع استوديو هوليوودي ضخم كشركة
(باراماونت)، وبميزانية تعدت المئة مليون دولار بعد أن عمل في نطاق
الأفلام ذات التكلفة المنخفضة.
على مستوى الصورة، اعتمد (أرونوفسكي) على المؤثرات البصرية
الرقمية؛ من أجل خلق عالم ما قبل التاريخ الذي يعيش به نوح.
صور (أرونوفسكي) الفيلم في أيسلاندا؛ مما خلق صورة خلابة ساعدت في
خلق عالم ما قبل التاريخ.
نال الفيلم حفاوة نقدية ونجح في صندوق التذاكر، ليحقق كـ(Black
Swan)
إيرادات فاقت الثلاثمئة مليون دولار.
التقييم 8/10
(أرونوفسكي) في رأيي: أحد أكثر المخرجين إثارة. أفلامه تتناول
خبايا وظلمات النفس البشرية، علاقة الإنسان بالدين والخرافة، الهوس
والجنون. دائمًا ما تبهرني اختيارته ومواضيعه.
رابط المخرج |