حتى مَن
لم تطأ قدماه لاس فيغاس لا بد أن يعرفها
من خلال ما سمعه أو شاهده في عشرات من الأفلام الهوليوودية. لكن ما يسعى
اليه
المخرج الايراني المقيم في الولايات المتحدة أمير نادري، هو الذهاب الى
وراء
المظاهر الساذجة والغوص في حكاية ناس من ضواحي فيغاس، هذه المدينة التي ما
ان تذكر
اسمها حتى تتعاقب في مخيلتك ماكينات الجاك بوت والروليت وما الى هنالك من
انواع
المقامرة.
"لاس
فيغاس – مقتبس من قصة حقيقية"، الذي اكتشفناه في مسابقة الدورة
الأخيرة من مهرجان البندقية، هو اذاً قصة عائلة أميركية يخلّ باستقرارها
الرتيب
دخولُ رجل يدّعي انه سكن منزلها قبل أن يذهب الى العراق جندياً. وفي زيارته
للعائلة، يقترح عليها مبلغاً كبيراً لشراء البيت، وهذا العرض الغريب سيثير
شكوك
ادي، رب البيت، وهو مقامر وضيع، يعيش على هامش حياة فيغاس الصاخبة. هناك
أيضاً في
المدينة
قصة قديمة رائجة عن مال أحد الكازينوات المسلوب، دفنه سارقوه في مكان
مجهول. فجأة نرى ادي مقتنعاً بأن عرض شراء منزله مرتبط بهذا الكنز الذي لا
شك انه
في باحة بيته. وبعد أن يواجه رفض زوجته الحفر في الحديقة، نجدها ترضخ لهذه
المحاولة
العبثية والمجنونة للبحث عن كنز! مذذاك، لن يفعل الثلاثة، الأب والأم
والابن، الا
التنقيب في الأرض. ولن يكون في خلاصهم احد أو شيء.
من خلال
حكاية أبوكاليبتية
لوضيعين أميركيين (يسمونهم "لوزرز" أي خاسرون)، يصور نادري، ملتجئاً في
لغته
السينمائية الى كادرات بعيدة ولقطات واسعة، الجشع الأميركي الذي يرغم
الانسان على
أن يلهث خلف الربح السريع، لتصل به الحال الى أن يخسر كل شيء. واذا كان
المنزل
المبني على أساس هش ينهار أمام ضربة المعول الاولى، فالحلم الأميركي لن
يكون أفضل
حالاً أمام سطوة المال واغراء المعجزات، التي يرى نادري انها لا تزال ممكنة
في بلد
مثل أميركا.
نادري
المولود في مدينة ابادان الكوزموبوليتية، يأتي من ثقافة
مزدوجة حاضرة بقوة في صلب عمله، وقد تأثر، علاوة على المعلمين الأميركيين،
بأنطونيوني ورينوار قبل الانطلاق في السينما في سبعينات القرن الفائت.
أفلامه تشير
أيضاً الى ثقافة بصرية خلاصة عشقه للانطباعية. اكتشاف "موشيت" لبريسون كان
مفصلاً
محورياً بالنسبة اليه، لكنه تفادى التقليد خشية ان يتهم بالتعاطف مع
الثقافة
الغربية في بلاد سبق ان منعت أكثر من فيلم له. مهرجان "القارات الثلاث" (نانت
- 2008)
احتفى في مناسبة دورته الثلاثين بأمير نادري وكانت الفرصة
المنتظرة لسماع صوت
يعلو فوق كل أصوات السينما التقليدية.
·
كيف خطر على بالك انجاز فيلم عن قصة
تجري في
ضواحي فيغاس؟
ـــ كنت
أعمل على مشروع موضوعه عشر سنين من التصوير
الفوتوغرافي. المشروع كان يجب ان يكون في فيغاس، لأن هذه المدينة لا تكف عن
التحول.
التقطت صوراً لكل مرحلة من مراحل ذلك التحول. تقصيت
معلومات عن عقد بأكمله. كنت
ألفّ في الجوار، وألتقط الصور وأنا اقود السيارة. في تلك المرحلة بالذات
أيقنت أن
فيغاس مختلفة عمّا يصور في الأفلام الهوليوودية، حيث يكون الضوء والسياحة
طاغيين
على باقي العناصر. هذا شيء مفتعل وغير حقيقي. الأمر أشبه بـ"ديزني لاند".
فيغاس
الحقيقية هي في جوار فيغاس: هناك تلتقي بأناس لا يعرفون شيئاً عما يجري في
العالم!
لا
يعرفون ماذا يجري في باريس، لا في روما ولا في نيويورك. لا يفكرون الاّ في
المال
والربح
السريع. يتطلعون الى فيغاس حلماً. احياناً يرغبون أن يلمسوا هذا الحلم.
فيغاس بمثابة الحلم الأميركي. الأميركيون بنوا هذه
المدينة كي تصير احلامهم واقعاً.
هذا هو السبب الأساسي وراء اختياري انجاز هذا الفيلم. ولكن في ودي أن أشير
الى سبب
آخر: قصة الفيلم كنت قد سمعتها من قبل، مما دفعني الى الذهاب الى فيغاس
لتقصي بعض
الحقائق. كنت أنوي الغوص في مسائل عائلية. كنت أريد الابتعاد، قدر
المستطاع، عن
كليشيهات الشاب الوسيم والفتاة الحسناء والليموزين والجاك بوت، التي تُختصر
عبرها
فيغاس في الثقافة الشعبية. اهتمامي كان الجيل الجديد في فيغاس. كنت أريد
اظهار
مدينتهم مكاناً عادياً.
·
تتمحور القصة على شخصية أدي: رب عائلة خاسر
(لوزر). هل
كان
مقصوداً جعله خاسراً في مدينة اقتناص الفرص؟
ـــ
تماماً. ما رأيك أنت
بفيغاس؟ (بعد لحظة تأمل). هل هذه المدينة هي للخاسرين أم للرابحين؟
بالتأكيد هي
مدينة الخاسرين. التحدي هو أن تربح. لكن لن يكون ثمة ربح. واذا ربحت،
فستعود وتخسر.
المقامرة تغدو هاجساً. في النهاية تخسر نفسك. لسبب من الأسباب، ليس ادي
خاسراً
فحسب. انه
كائن من لحم ودم. هذا الفيلم يعكس طموحه وجنونه.
·
انه بطل مضاد،
أليس كذلك؟
ـــ نعم،
انه كذلك. كان في إمكانه أن يكون بطلاً فحسب. لكن حين
تلتقيه لا تفكر في هذه الأشياء. لا يفكر ادي الاّ في المقامرة. من المفترض
انه
يقامر من أجل شراء حاجاته. السخرية هي أنه بدلاً من أن يقامر ويراهن على
المال، تصل
به الأحوال الى ان يراهن على حياته.
·
يراهن أيضاً على مستقبل عائلته...
ـــ
بالتأكيد.
من خلال المقامرة يراهن على كل ما يملكه. هنا تكمن السخرية في الفيلم. لا
أُري
المقامرة كما تُريها الأفلام الهوليوودية، حيث الكثير من أوراق البوكر
والروليت والبلاك جاك.
·
في منتصف الفيلم، نكتشف أن ادي جزء من لعبة
اخرى
أيضاً...
ـــ هناك
لعبة أخرى نعم. برافو! بما أن الفيلم عن المقامرة، فقد سمحت
لنفسي بأن
أقامر مع المُشاهد. لا يسعك أن تثق بأحد في فيغاس، ويجب ألا تثق حتى
بنفسك ومشاعرك، لأن كل شيء زائف هناك. فيغاس اشبه بجحيم. تصلح لكل من يريد
أن يمتحن
نفسه ويرى الى أين يستطيع أن يدفع بحدوده، وكذلك ليرى في أي مرحلة يستطيع
أن يضع
حداً ويقلع عن المقامرة. البعض ينجح في التوقف، لكنه يعود في ما بعد. فيغاس
هي
أميركا الحقيقية.
·
سبق أن كتبت في مقالتي عن "فيغاس..." بأنها
عن علاقة
المجتمع الأميركي بالربح، وكيف أن العقلية الأميركية لا تتقبل الخاسرين.
هناك فقط
هاجس واحد: الربح في كل الميادين.
ـــ هذه
هي الثقافة الأميركية. حاولت اللعب
بالمشاهد - كما قلت - لأن اللعب والمقامرة لم يعودا يقتصران اليوم على
الأوراق
والآلات. البعض يقامر بحيوات الآخرين كما هو رائج في برامج "تلفزيون
الواقع". هذه
طبيعة أميركا. الفرص تجعل الناس دائماً في حالة جنون وتضفي المجازفة على
حياتهم.
وبما أن كل شيء بات يتسم بالسرعة، فتالياً تجتاحك رغبة في أن تحصل على كل
شيء بسرعة
قياسية.
أحياناً، تساعدك الظروف فتربح بسرعة، ولكن في المقابل تخسر بسرعة أكبر. لا
شيء في الحياة تناله بسهولة. كنت في طوكيو قبل يومين: هذه المدينة باتت
اليوم ما هي
عليه أميركا. أعتقد ان هذه هي ايضاً حال فرنسا. كنت أشاهد التلفزيون مساء
أمس في
غرفتي، فما رأيته نسخة طبق الأصل عن الثقافة الأميركية. أتكلم هنا عن
التشابه في
الانجازات، والطموحات، والجنون، والمال، والسلطة.
·
لكن أميركا توهمنا دائماً
بأنها أرض الممكن!
ـــ نعم.
أهم أفكار الطموح الفضفاض انبثقت من أميركا. بنيت
البلاد على هذه الركائز. لكنها كانت أكثر صفاء. بلدان أخرى سعت الى تقليد
المجون
الأميركي، لكن يبدو الأمر أسهل حينما يحصل في أميركا، لأنه يبدو أنه مكانه
الطبيعي.
وهذه حقيقة من حقائق هذه البلاد. لا أتخيل حصولها في
بروكسيل مثلاً. في أميركا تشعر
به. اذا القيت نظرة على "موبي ديك" لهرمان مرفيل تدرك ما هي أميركا عليه.
ترى
واقعها في شخصية القبطان. الأمر يتعلق دوماً بدفع حدود الامكانات. انها
علامة
اميركية فارقة.
·
ادي يشبهك كثيراً في مظهره الخارجي...
ـــ نعم،
يشبهني.
سبق أن قيل لي ذلك. لا أنجز فيلماً ما لم أعش تجربته بالكامل. عليّ أولاً
أن اعيش
القصة
التي أرويها...
·
...
تماماً كالفيلم الذي شاهدناه أمس ("انتظار")
المستوحى
من طفولتك.
ـــ نعم.
قصته مرتبطة بمرحلة كنت فيها طفلاً. و"فيغاس" هو
عشر سنين
من حياتي أيضاً وأنا اجوب شوارع فيغاس وأزقتها. ولا تنسى أنني عشت فيها
أيضاً سنتين على نحو متواصل. لم يكن عندي فلس واحد لتمويل هذا الفيلم. هل
تعلم ماذا
فعلت؟ ذهبت الى فيغاس وكان لديّ قصة في حوزتي، وكنت أعلم ماذا أفعل.
أستأجرت غرفة
في الصحراء ودراجة نارية. مساء كنت أرتاد كازينو صغيراً لأقامر. بدأت أختبر
المقامرة وشاهدت الناس يقامرون. تقربت من بعضهم. رياح الصحراء غيّرت مشاعري
وثقافتي. وكان لها تأثير على لغتي ونهجي في التفكير. عثرت على ثمانية:
امرأتان وستة
رجال. كلهم مدمنو المقامرة. كنا نعيش في فندق "ميت"؛ كانت هناك 400 غرفة في
هذا
الفندق ولا أحد يتجرأ على استئجار واحدة منها. كان خاوياً باستمرار،
باستثناء 25
شخصاً. ذات ليلة دار بيني وبين أحدهم هذا الحديث: ـــ ماذا تفعل هنا؟ / ـــ
أخرج
فيلماً. / ـــ ليس في وسعك انجاز فيلم، فأنت مجرد مقامر! / ـــ لست
مقامراً، بل
تحولت الى مقامر لحاجتي الى المال. / ـــ أي نوع من الأفلام تريد ان تنجز؟
/ ـــ
لديَّ قصة، لكن ينقصني المال. / ـــ أوكي، يمكننا مساعدتك. / ـــ أنتم
"لوزرز"
(خاسرون)،
ليس لديكم مال. / ـــ هيا بنا، نقامر. لكن أمير، ليس في وسعنا أن نجد
المال لفيلمك في كازينو صغير كهذا، ينبغي أن نذهب الى مدينة كبيرة مثل
فيغاس.
وذهبنا الى هناك. كنا تسعة. توزعنا على كازينوات عدة:
اثنان هنا، ثلاثة هناك،
وهلمّ. كنا نجلس حول طاولة المقامرة. كانوا يقامرون ويأتون اليّ بالمال
حينما
يربحون. استمرت هذه الحالة ثمانية أشهر. صوّرت خلالها على نحو متقطع!
·
يا لها
قصة طريفة!
ـــ
أحياناً، كانت الخسارة تتواصل على مدار اسبوعين كاملين. كنت أعطي
شركائي ما
املكه من مال وأقول لهم "اذهبوا للمقامرة، اذا خسرتم فسأخسر، واذا ربحتم
فسنتقاسم
المال". كنا نقامر مساء ونصوّر نهاراً. حاولت أن أجد المال في البيئة
الحقيقية لفيغاس. وحاولت أن أنجز فيلماً عن البيئة نفسها.
·
نهاية "فيغاس" قاتمة
جداً.
تهبّ الرياح على ركام المنزل في نوع من أبوكاليبس مرعب. اسلوبك هنا كان
ايرانياً نوعاً ما.
ـــ ليس
اسلوباً ايرانياً بقدر ما هو اسلوبي في الأفلام
الايرانية التي أنجزتها. نهاية الفيلم خلاصة تجربتي وما بقي في ذاكرتي خلال
عملي
على الأفلام الايرانية. وضعت فيه توقيعي. أنت محق. فيه نوع من شاعرية
سوداوية. تركت
النهاية مفتوحة للمشاهدين ليحلل كل منهم على طريقته.
·
في ما يتعلق بالشخصيات،
كنت ساخراً ازاءها، لكن كان لك أيضاً تجاهها احساس الشفقة. ولم تأت بحكم
ادانة...
ـــ هذه
طبيعة الفيلم وطبيعة كل شخص. لا أعتقد ان هناك شخصاً شريراً
بالكامل
وآخر خيّراً بالكامل. أحاول احاطة الشرط الانساني من جوانب عدة. أعتقد ان
الناس أحبّوا ادي، لأنهم وجدوا أنفسهم فيه. دفع ثمن حلمه باهظاً. هل تعلم
ماذا كان
مصير ادي الحقيقي في النهاية؟ وجدوه في صحراء نيو مكسيكو. معوله وجسده على
بعد
كيلومترات من مكان اقامته.
·
قلت لي قبل بدء الحديث إنك لا تريد التطرق
الى
السياسة.
لكن فيلمك ينطوي على خطاب سياسي، كذلك كلامك عن نمط العيش الأميركي وقولك
إن أميركا أرض الممكن!
ــــ
السياسة مسألة معقدة جداً في أميركا. من الغباء
التكلم عن السياسة في أميركا، لأنك لا تستطيع ان تقول ما هو صح وما هو خطأ.
هذه
طبيعة السياسة. لست انساناً مسيّساً، لكني أعيش في أميركا. انتخبت أوباما
متمنياً
ان يدخل البيت الأبيض. أظنه قادراً على الاتيان بالتغيير. وهذا التغيير
سيحصل
قريباً، وعلى مستوى العالم أجمع. لست مع اوباما نكاية بالجمهوريين. هذا
منطق رخيص.
انما لأننا أحوج ما نكون الى شيء جديد. هل تتخيل أن
يُنتخب عربي رئيساً للجمهورية
في فرنسا؟ هل تتخيل هندياً ملكاً لبريطانيا العظمى؟ لا بالطبع. هذا لا يحصل
سوى في
أميركا.
·
هل ألهمتك أميركا مثلما ألهمتك ايران؟
ـــ لم
أهاجر الى أميركا
لأسباب سياسية. ذهبت لأنه كان فيها الكثير من الفنانين ممن يعجبني عملهم.
أين يذهب
المسلم عادة؟ يذهب الى مكة المكرمة. وأين يذهب اليهودي؟ يذهب الى القدس.
وأين يذهب
الكاثوليكي؟ يذهب الى الفاتيكان. كنت مأخوذاً بحب السينما. حياتي كان
يملأها أورسون
ويلز، جون فورد، راوول والش، هاورد هوكس، دون سيغل. وكنت أحب أيضاً كتّابا
مثل
ميرفيل وفوكنر. وكل هؤلاء كانوا يأتون من أميركا. هؤلاء تكلموا عن الأرض
والطموح.
عن الطموح
والعائلة. عن الطموح والمعتقدات. لكن هذا الحبّ للسينما ليس أبدياً: في
لحظة من اللحظات تقول لنفسك لا يمكن أن يكون الحب الحافز الوحيد. وأميركا
بالنسبة
اليّ كانت رمزاً للسينما. الآن اعيش في نيويورك. وعندما ذهبت الى فيغاس
للتصوير،
ذهبت بصفتي مخرجاً نيويوركياً. فالمخرج الايراني فيَّ رحل منذ زمن بعيد.
·
هل
انت مطلع على كيفية مقاربة عملك في ايران، أم أن الموضوع لا يهمك كثيراً؟
وما هو رد
فعل السلطات الايرانية تجاهه؟
ـــ قطعتُ
الصلة مع جذوري الايرانية على رغم أنني
احبها. لا أشاهد الأفلام الايرانية الا اذا كنت عضواً في لجنة تحكيم
ومضطراً الى
ذلك، أو في حال طلب مني زميل ايراني أن أشاهد فيلمه. لا أحب مشاهدة أفلام
إيرانية.
أنا متأكد أن ثمة أفلاما جيدة جداً تأتي من هناك، لكن
المشكلة هي أنني عندما
أشاهدها لا أفكر من منظار سينمائي، انما يصب اهتمامي على المدينة والناس
الذين
يتكلمون لغتي. لديَّ الكثير من الطاقة في داخلي، واذا واصلت مشاهدة الأفلام
الايرانية
لثلاثة أو أربعة أيام على التوالي، فسأصاب بالجنون، لأن فيها حياة مختلفة
تماماً.
لو كنت رجل أعمال، لكان الأمر أسهل. لكن شاء القدر أن أكون فناناً. لديَّ
حياة
مزدوجة. كان عليّ الانتقال من ثقافة الى أخرى، ومن عالم الى آخر. من السهل
على
الألماني أو الانكليزي أن يعيش في أميركا. لكن العراقي، الايراني، السوري،
اللبناني، التركي، لن يجدوا السهولة نفسها. أربعة الآف سنة من الارث
الثقافي تثقل
كاهل فنان مثلي (...). كنت أعمل في ايران في ظروف جيدة جداً. كان لي من
المال ما
أريده. لكن بدأت أشعر بالملل ازاء هذه الحالة. فقررت أن أصبح مخرجاً "سنوباً"
ومثقفاً. لم يكن يهمني الا مال المنتجين وايرادات شباك التذاكر. لكن قلت
لنفسي: "لا
لا لا!". أريد تغييراً. ذهبت الى تجربة حياتية جديدة، آخذاً معي معرفتي
بالحياة.
هذه الحياة التي أعتقد انها متشابهة الى حدّ ما أينما
كنّا
(...).
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
مهرجان كليرمون فيران في
دورته الحادية والثلاثين
أكثر
من تأشيرة عبور إلى الفيلم الطويل
لا يكاد
يبدأ حتى ينتهي. هكذا نعرّف عن الفيلم القصير.
لحظات قليلة قبل أن يطل الجنريك ونرى الخاتمة. هناك
مساحة زمنية ضيقة لدى المخرج
الذي يختار دقائق محدودة للتعبير عن حكاية. بضع لقطات أحياناً لالقاء نظرة
على
العالم الذي من حوله. ضيق المساحة هذا يفرض الاستعانة بأساليب بديلة
للمعالجة. انه
تحدٍّ بلا
شك. صحيح أن الفيلم القصير لا يتجاوز الأربعين دقيقة حداً أقصى، لكن
بعضها يعتمل بأفكار كبيرة على قاعدة "مختصر مفيد".
مع
ذلك، كان على الفيلم القصير
أن يناضل كثيراً ليثبت مكانته، فناً قائماً بذاته، علماً أن السينما بدأت
قصيرة.
ماذا يعني
ان نصنع فيلماً قصيراً؟ مهرجان كليرمون فيران، الذي يحمل اسم مدينة
واقعة في
وسط فرنسا، ويعقد في مطلع كل عام منذ نحو ثلاثة عقود، يملك الجواب. نجاح
تصاعدي عرفته هذه التظاهرة منذ انطلاقتها في نهاية السبعينات. حمل الفيلم
القصير
على الراحات وصار منبراً يخاطب عبره الجمهور. هذا الجمهور لم يكن غائباً،
وخصوصاً
في مدينة تضم عدداً كبيراً من الجامعات وسكانها من الشباب. مع الوقت ذاع
صيت
المهرجان، الى حدّ ان طريق التكريس المهني بالنسبة الى المخرجين أصبحت تمر
من
خلاله. ولذلك يعتبر هذا المهرجان مرجعاً للفيلم القصير ومناسبة للقاء
سينمات
العالم. مع الأيام، أصبحت هذه المدينة مشهورة بمهرجانها، الذي لم يبلغ هذا
الصيت
بسحر ساحر. بل بعد سنوات من العمل لتقريب الثقافات بعضها من البعض عبر
الفيلم
القصير.
عندما
انطلق "اسبوع الأفلام القصيرة" عام 1979، قلائل راهنوا على الحجم
الذي
سيكون له في ما بعد. بعض الارتجال كان ضرورياً والكثير من الشغف دفع
بالأمور
الى الامام. مذذاك كل الارقام المرتبطة بالمهرجان هي أرقام تتضخم لا
تتضاءل. فمن
28000
مشاهد عام
1989، أصبح العدد أكثر من مئة ألف عام 1995، وغداً ربما أكثر. وكان
ينبغي انتظار عام 1988 كي يكتسب المهرجان صفة العالمية ويتخطى اطاره المحلي
الضيّق،
ويخرج من اطار مهرجان المدينة الذي لا يرتاده الاّ الطاعنون في السن. مذ
دخوله نادي
الكبار، كرّت سبحة الانجازات القوية، وشهدت المدينة زحفاً لأفلام من كل
بلدان
العالم: عدد لا يحصى من الأفلام القصيرة كانت هنا في العام الماضي، من
الولايات
المتحدة، والنروج، وتايوان، والفيليبين، واذربيجان، والصين، والبرتغال.
كثر من
السينمائيين يأتون الى هذا المهرجان آملين أن يخرجوا من دائرة التهميش التي
تفرضها
عليهم
ظروف انتاج الفيلم القصير وعرضه وتوزيعه. من خلال مشاهدتنا، في الدورة
الماضية، لأكثر من مئة شريط في هذا المهرجان، تبدى جلياً أن هناك، على
الأقل، صنفين
من الأفلام القصيرة: الصنف الاول ينطوي على مشاهد طويلة ونفس طويل. هذا
النمط يمنح
الانطباع بأننا أمام فيلم طويل، اذ لا بداية له ولا نهاية محكمة بحدث
درامي. أما
الصنف الآخر، فهو أكثر انتماء الى النكتة، يضرب من خلاله المخرج ضربته
ويغيب، مع
خاتمة تقلب المعطيات رأساً على عقب.
غالباً ما
يكون الفيلم القصير تأشيرة عبور
الى الفيلم الطويل. عناوين كثيرة تثبت ذلك. حتى أن البعض يعتبره بطاقة
زيارة. منذ
بداياته ساهم المهرجان في اخراجه من عباءة الفيلم الطويل، اذ لا يزال وسيلة
أكثر
منه غاية لعرض "عضلات" المخرج. صحيح أن القصير قد يكون الطريقة المثلى
للكثيرين
للتعبير عن أنفسهم وخياراً غير مفروض، لكن هناك جيل بالكامل يتمسك بالقصير،
وفي
الوقت نفسه لا يخفي ميله الى طموح أكبر يتجسد بالانتقال الى مشروع الفيلم
طويل.
تُعرض في
الدورة الحالية (31) التي تبدأ غداً وتستمر الى السابع من شباط المقبل
نحواً من
176 فيلماً من 52 بلداً، وذلك في الأقسام الثلاثة الأساسية: المسابقة
المحلية (فرنسا)؛ المسابقة الدولية؛ ولابو (الأفلام التجريبية)، الى جانب
نشاطات
أخرى موازية، من ندوات ولقاءات تحتفي بالفيلم القصير، الذي منه ستطير
الأسماء
المستقبلية الواعدة. أما لجنة التحكيم فتتألف من المغربي داوود أولاد
السيد،
الهولندي مينو دو نوير، الانكليزي جون سميث، الصيني زانغ زيان مين،
المقدونية تيونا
ستروغار ميتيفسكا. ويواجه "كليرمون" هذه السنة معضلة ادارية كبيرة متعلقة
بالمتطوعين العاملين فيه والقرار الصادر في حقهم، مما يضع مستقبله على
المحك، على
ما جاء في بيان لادارة المهرجان.
داني بويل مخرج "المليونير الفقير" لا يزال يؤمن
بالمعجزات
!
باريس ـــ
"النهار" :
"المليونير
الفقير"، أحد أهم المرشحين لأوسكار
أفضل فيلم، والذي يعرض قريباً في الشاشات المحلية، هو الفيلم ــ الهدية الى
الهند،
ونظرة واقعية وساحرة عليها من زاوية عريضة. انه رسالة محبة الى بيوتات
التنك وتلال
النفايات في مومباي وأطفال الشوارع والزواريب الضيقة التي لا تملّ كاميرا
المخرج
البريطاني داني بويل من تصويرها الى حدّ يجعلنا نشتمّ روائحها المختلفة
الممزوجة
بعضها بالبعض. هذا شريط يحتفي بالهند، بلداً عظيماً بملايينه التي لا يتسع
لها
كادر. انه أيضاً فيلم تصنعه زمرة فتية، وهو خصوصاً فيلم لشقيقين، سيكبران
أمامنا،
وسيفلتان
من الخط الحياتي المرسوم لهما سلفاً، ومن العقاب والحصار المفروضين على
مَن يولد في هذه البقعة المنكوبة. وهذا يعني انهما سيكونان أقوى من كل ظرف
يوضعان
فيه، بدءاً من الجريمة المنظمة والنعرة الدينية بين الهندوس والمسلمين في
طفولتهما،
وصولاً الى الابتزاز والحب في مرحلة الشباب. لا شيء من هذا كله، يرويه داني
بويل في
فيلمه البديع المقتبس من رواية فيكاس سواروب (سيناريو ملهم لسيمون بوفوي)،
بطريقة
خطية مباشرة ومملة. يوهمنا بأن الحكاية هي حكاية ربح كمية حرزانة من المال
في
النسخة الهندية لبرنامج "من سيربح المليون؟"، في حين أن القصة تذهب بنا من
مأساة
الى أخرى، لأن القاعدة في بلد يملك كل شيء، ما عدا الخبز اليومي لسكانه، هو
مراكمة
الخيبات، ومَن يربح بواسطة المعرفة المتراكمة والطريقة الشريفة، خشبة خلاص
يعوم
عليها، لا يستطيع الا ان يتوقع المزيد من المتاعب تثقل كاهله. نحن ازاء
فيلم
جماهيري من الحجم الكبير، يخاطب العقل والاحساس، يحمل في داخله ديكنز، ولا
ينسى في
الحين نفسه توجيه تحية الى سينما بوليوود، وإن يكن المطالبون بأوتوغراف من
اميتاب
باتشان يخرجون من بحيرة من البراز. شريط انكليزي عن الهند بحساسية
هوليوودية (بعض
العرب يستعملون صفة "هوليوودية" كمسبّة، وهذا دليل جهل!)، يسمح لبويل
التأكيد أن
المعجزات
في السينما لا تزال ممكنة.
خارج الكادر
نهاية بلموندو ؟
ما من شيء
أسوأ من
عودة نجم الى جمهوره وسط لامبالاة الجمهور به. هذا ما يحصل حالياً بجان بول
بلموندو: صالات خاوية يعرض فيها "رجل وكلبه" لفرنسيس أوستير، بطولة بلموندو
اذاً،
الذي كان
من المفترض أن يعيده الى الشاشة بعد فترة غياب دامت ست سنوات كان قد تعرض
خلالها لانتكاسة صحية خطيرة. ويا للأسف، لم يحصل التماس المطلوب بينه وبين
الأجيال
المتعددة التي عاصرته منذ انطلاقته المدوية في
A bout de souffle
لجان لوك غودار.
كثر لم يكلفوا أنفسهم اصلاً عناء شراء بطاقة لمشاهدته. أما القليل الذي
غامر ببضعة
أورويات فنصح الآخرين بعدم اضاعة الوقت والمال. "إياك أن تشاهده"، صرخ بي
أحدهم
وأنا أشتري بطاقة لمشاهدة "رجل وكلبه". يمكننا أن ننعت المشاهد بأحط
النعوت، لكن
هذه المرة هو محقّ في خياره، استناداً الى معطيات تاريخية. فمَن صار اليوم
في عمر
متقدم كان قد عرف بلموندو البطل الأول لشباك التذاكر في فرنسا منذ ستينات
القرن
الفائت حتى أواخر ثمانيناته. والمُشاهد قليلاً ما يقبل فكرة أن نجم السينما
يشيخ
ليتحول
أحياناً الى حطام أو ركام. ومن الصعب اقناعه بأن بلموندو، رمز البطولة
الذكورية المطلقة، الذي كان ينجز بنفسه أخطر المشاهد، بات في حاجة الى عصا
ليمشي.
لا يريد المشاهد تصديق هذا كله، ربما لأن شيخوخة النجم
تعني شيخوخته هو وشيخوخة
ذكرياته المرتبطة بالشاشة. فما بالك اذا لعب بلموندو دور شيخ في أواخر
السبعينات من
عمره، تهمله عشيقته فيصبح ذليلاً بلا مأوى وبلا يد تمد اليه العون،
باستثناء كلبه
الذي يظل وفياً له، ومربية منزل من أصول عربية. واذا قبلت عين المشاهد بهذا
الاذلال
الذي يتعرض له بلموندو، فلا شك أن وجدانه السينيفيلي الموصول بلحظات
سينمائية
كبيرة، سيرفضه رفضاً حاسماً. اذاً، اهمال مزدوج يعيشه بلموندو من خلال هذا
الفيلم:
اهمال المجتمع للشخصية التي يؤديها واهمال المشاهدين.
لكن، ليست
الشيخوخة السبب
الأوحد لعدم تماهي المشاهدين مع ما يقترحه بلموندو في جديده. فهناك ارتباك
في صناعة
الدور من جانبه لم يتجسد سابقاً في أيٍّ من الأدوار التي لعبها. هناك تعب
ظاهر
بوضوح على مستوى العينين، وأعني على وجه بلموندو، لا على وجه الشخصية، كما
كانت
الحال مع
أحمد زكي حين لعب "حليم". هناك صعوبة في قول كلمات، وكأن بلموندو قد أدرك،
وهو على
مشارف الثمانين، أن لا شيء يستحق أن يقال، وأن الحياة لم تعد أم المعارك في
زمن الاستنساخ. خلافاً لايستوود، ابن الثمانين، الذي لا يزال لديه ما
يقوله، وإن
بصوت خافت مدهش، فإن بلموندو في "الرجل وكلبه" اذا تكلم فذلك كي يعلن
نهايته، بحيث
أن السير في اتجاه الكلمة درب جلجلة بالنسبة اليه، وهو اعتاد أن يحل ببضعة
ايماءات
وبضع قفزات في الفراغ معضلة النطق. مع ذلك يبقى بلموندو ظاهرة صوتية بقدر
كونه
ظاهرة جسدية، على غرار ارنولد وسيلفستر في السينما الأميركية. ولا يزال صدى
كلماته،
على رغم مرور نحو من نصف قرن على فيلم غودار التأسيسي، يتردد في مخيلتنا :
"اذا
كنتم لا تحبون الحياة، اذا كنتم لا تحبون البحر، اذا كنتم لا تحبون الجبل،
فتباً
لكم!". أما المخرج، فبدلاً من أن يحاول اعادة بلموندو الى "ولادة ثانية"
(على طريقة
براندو في
"القيامة الآن") ساهم، من حيث لا يدري، في حفر قبره.
()
لفتنا
صديق صفحة "أدب فكر فن -سينما" المؤرخ السينمائي فؤاد صباغ الى أن رومان
بولانسكي،
خلافاً لما كتبناه في زاوية "خارج الكادر"، كان قد تسلم في احدى
المناسبات
جائزة "الأوسكار" التي ربحها عن فيلمه "عازف البيانو" والتي لم يكن
ممكناً أن
يتسلمها خلال الحفل، للحكم القضائي الصادر في حقه في الولايات المتحدة.
فنشكر السيد صباغ ونعتذر من القراء.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
29
يناير 2009 |