منذ أكثر من أربعين عاما وكوستا غافراس (Costa
– Gavras)، المخرج السينمائي المشهور الفرنسي، يوناني الأصل، وهو يرفع شعار
السينما الملتزمة التي امتد سجلها لديه بقائمة طويلة من الأفلام العالمية
مثل زد (1969) الذي أدان فيه قسوة رجال الانقلاب العسكري الذي حدث في
اليونان عام 1967 أو الإعتراف (1970) الذي عكس من خلاله رفضه مبدأ الشمولية
أو الحصار (1973) الذي عبر فيه عن القسوة التي تخفيها سياسة العنف في
التعامل مع الإنسان أو الفرقة الخاصة (1975) الذي قدم فيه صورة بشعة
للفاشية الألمانية، إضافة إلى أفلام أخرى مثل فيلم الفقدان (1982) وحنا ك
(1983) و آمين (2002)، ثم أخيرا وليس آخرا فيلمه الجديد «عدن في الغرب»
الذي يتطرق فيه إلى موضوع يمس صميم أفكاره هو شخصيا بإعتباره مهاجرا
يونانيا سابقا وطأ الاراضي الفرنسية خلال أعوام امتدت من سنة 1953 إلى سنة
1968 التي حصل خلالها على الجنسية الفرنسية وعرف المعنى الذي تخفيه الهجرة
إلى الغرب وآثارها على المهاجر الذي قد يجد فيها خلاصه ولكن الذي يعيش
خلالها تجارب قاسية لا يعرفها إلا المهاجر.
عدن في الغرب يمثل لوحة رسمها غافراس عبر من خلالها عن جزء من تجربته
الشخصية وهو ينحني نحو الماضي ليبحث في أغوار ماضيه الشخصي وماضي الكثير من
المهاجرين إلى أوروبا الغربية الذين عاصرهم وتعرف عليهم، عن عصر جديد أراد
أن يكشف من خلاله أسراره هو شخصيا وأسرار الكثير من المهاجرين الذين عرفهم،
أسرار الحياة القاسية للأزمنة المعاصرة والحدة المؤلمة لظروف الحياة لدى
المهاجر الذي غالبا ما يضيع في متاهات الألم ونفي كرامته الإنسانية، حتى
وإن تمكن في بعض من مراحل حياته من التقاط شيء منها.
عدن في الغرب هو فلم سينمائي بسيط في قصته وعميق في موضوعه، فهو يقدم
قصة مهاجر، هو الشاب الجميل «الياس» الذي يتمكن من عبور البحر بعد معاناة
رحلة التكدس البشري وسط جموع المهاجرين، على متن قارب بدائي هو أقرب إلى
حطام من الألواح الخشبية المتآكلة، ليصل إلى شواطئ أوروبا حيث تبدأ معاناة
مسيرة أحلام الهجرة الطويلة.
يتمثل الشاطئ الأول الذي يحط فيه الياس في مخيم للعراة، وهو يهرب من
أنظار قوات الشرطة التي تلاحق المهاجرين. فهل يستطيع الياس أن يختفي من
ملاحقيه بين العراة وأن يعثر على عمل لديهم وأن يلتحق بباريس، مدينة
الأنوار التي طالما سمع عن أجوائها قبل بدء رحلة هجرته ؟ هنا يتفنن غافراس
في إضافة ألوان متباينة إلى لوحته الجميلة، ألوان يمتزج فيها عالم متناقض،
بمتغيراته الهزلية والمأساوية في الوقت نفسه، عالم غني بمباهجه الراقية
والمبتذلة في الوقت نفسه ومسراته ولذاته المتعددة التي تفوق التصور
بعبثيتها، ولكنه عالم فقير بأحاسيسه الإنسانية المفقودة التي يزداد فقرها
كلما يقترب الإنسان من كواليسها المظلمة.
هكذا تبدأ رحلة هجرة الياس، التي يجسدها ببراعة، في هذا الفيلم
السينمائي، الممثل الإيطالي الشاب ريكاردو سكامارسيو (Riccardo
Scamarcio) في عالم الهجرة الحقيقي، عالم أوروبا الذي يضطر فيه هذا المهاجر
البسيط إلى أن يعمل في أدنى الأعمال، مثل أن يفك مواسير تواليت سواح
أمريكان بيديه المجردتين أو أن يتحول إلى فريسة جنسية لا يتردد مدير الفندق
الذي يسكن فيه من اغتصابه بالقوة أو أن ترعاه امرأة غربية مسنة لتشبع عن
طريقه رغباتها الشاذة وتمارس الجنس معه مقابل توفير السكن والطعام له ثم
ترميه إلى الخارج أو أن يتعرض إلى السرقة من قبل سائق سيارة لا يعرف للضمير
الإنساني معنى سوى سرقة من يقع ضحية لديه أو أن يتركه زوجان يشعران بالشك
تجاهه في منتصف الطريق أو أن يسقط في أيادي مجموعة من الغجر الذين
يطاردونه خوفا منه أو أن يتعرض إلى أبشع استغلال في أحد المصانع أو أن يلقي
به أحد المتسكعين خارج الرصيف الذي يتسول فيه هو ليبقى المتسول الوحيد على
قارعة الرصيف أو أن يضطر إلى المناورة مع مرضى المجتمع الرأسمالي المعرضين
للهلع وجها لوجه مقابل حراس المخازن والمباني وهم يتفادون التواجد أمام
الكاميرات الخفية.
تلك هي اللوحة التي رسمها غافراس والتي أراد أن يعرض من خلالها قسوة
المجتمع الغربي الذي تتلاعب فيه مبالغات الكثير من الأوساط المشبوهة والتي
يساندها رجال السياسة وأصحاب نظريات التخويف من الأجنبي التي يمارسونها من
خلال خطاب مليء بالأكاذيب، خطاب يرتكز على أن الأجنبي المهاجر، ينتهي الأمر
به إلى اختراق هذا المجتمع وربما الاستيلاء على لقمة عيش المواطن الأصلي لا
لشيء سوى لأن المهاجر قادر على ممارسة أي عمل وبأدنى سعر مقابل الحصول على
عمله.
وجه محرر صحيفة لموند الفرنسية سؤالا إلى غافراس عن مغزى إخراج هذا
الفلم بالنسبة له، فأجاب قائلا بأن التزام المخرج السينمائي يمثل بالنسبة
له مسؤولية تجاه المشاهدين لأن دور السينما هو عرض أدق الصور الممكنة عن
المجتمع الذي نعيشه، والمجتمع اليوم، يدعونا إلى عرض صورة صادقة عن
المهاجرين الذين يعيشون بيننا. ثم أضاف بأنه قرأ مؤخرا مقالا في صحيفة
نيويورك تايمس يقول فيه كاتبه بأن انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات
المتحدة الأمريكية ربما يكون ناتجا جزئيا عن الصورة التي استطاعت السينما
تحسينها عن الرجل الأسود في مجتمعنا المعاصر.
إذا كان غافراس قد عكس في فلمه هذا الجانب المؤلم والقاسي الذي عاشه
بطل «عدن في الغرب»، فإن جوابه لا بد وأن يعكس هو الآخر، ذلك الجانب الآخر
لعالم المهاجر الذي يخترق من خلاله مجتمعا لا يرفضه إلا لأنه يخاف من
أسطورته، أسطورة تقتفي هي الأخرى مسيرة الزوال، أسطورة المهاجر المخيف في
مجتمع الحضارة الغربية الذي كشف غافراس في لوحته هذه زيفه بل والمتاجرة به
المدى العراقية في
02/03/2009 |