كثيرا ما كان الأدب أحد أهم المنابع الأساسية للحكاية في السينما،
وباستثناء سينما المؤلف فإن علامات سينمائية تاريخية فارقة كانت مقتبسة من
الأدب، وارتكز بعض من أهم صناع السينما ورموزها بصورة أساسية على الأدب في
نتاجهم السينمائي كديفيد لين وستانلي كوبريك، على سبيل المثال لا الحصر.
لكن الإشكالية التي لا تزال محل جدل دائم هي مدى صلاحية هذا الوسيط
الإبداعي للاقتباس منه دائما، وهل هو صالح دائما لنقله لوسيط سينمائي، وهل
كل عمل أدبي ناجح صالح بالضرورة لأن يتحول إلى حكاية يمكن سردها سينمائيا؟
ويتأكد هذا التساؤل هنا ـ ونحن نتحدث عن السينما الأميركية تحديدا ـ عندما
يدور الحديث عن أعمال روائية بطابع إثارة بوليسية، كما هو الحال في روايات
الكاتب الأميركي دان براون الجديدة على السينما، أو غرائبية كما في روايات
مواطنه الأقدم حضورا في السينما ستيفن كينغ. وهما على كل حال يتشابهان
تقريبا في ذات العلة التي تقف عقبة في إمكانية تحويل رواياتهم لأعمال
سينمائية جيدة. والسينما على الرغم من حاجتها الدائمة إلى مؤلف كخطوة أولى
فإن هذا لا يجعل من الرواية تأليفا سينمائيا جيدا. ورواية «ملائكة وشياطين»
لدان براون هي واحدة من أمثلة كثيرة على ذلك، تأتي في مقدمتها روايته
الأخرى «شفرة دافنشي»، التي حولت أيضا لفيلم سينمائي قبل ثلاث سنوات،
وأحدثت ضجة لا تستحقها على الإطلاق. وإشكالية مثل هذه الروايات عند تحويلها
سينمائيا هي أنها بذاتها لا تعدو أن تكون حكايات تسلية وإثارة، ولا ترمي
إلى ما هو أبعد من ذلك، وشخصياتها لا تتعدى في تركيبتها مستوى الحدث الذي
تعيشه، ولذلك يبقى المخيال الروائي هو اللاعب الوحيد في هذا النوع من
الرواية، والسينما بطبيعتها تقوم بتجريد الرواية من تلك الخاصية تماما،
ويتبقى من الرواية شخصياتها ومكوناتها النفسانية وأهمية الحكاية تاريخيا أو
اجتماعيا أو معرفيا. إلا أن أيا من تلك العناصر لم تكن عناصر قوة في
«ملائكة وشياطين» حتى يمكن صناعة فيلم جيد منها. وكقاعدة عملية ـ ربما ليست
دقيقة بما فيه الكفاية لكنها صحيحة في كثير من الأحيان ـ فإن أي عمل روائي
يبدو من القراءة الأولى عملا تسهل صناعته سينمائيا بشكل مثير، فهو دليل على
عكس ذلك والعكس صحيح. «ملائكة وشياطين» هي ثاني رواية لدان براون، وأحداثها
تأتي متقدمة على رواية «شفرة دافنشي» إلا أن تحويل العمل الأول إلى فيلم
سينمائي أولا، فرض على اكيفا جولدمان، كاتب السيناريو، أن يحور من أحداث
«ملائكة وشياطين» لتكون أحداثها لاحقة لـ«شفرة دافنشي». وجولدمان هو واحد
من طاقم كامل عمل في «شفرة دافنشي»، وعاد مرة أخرى في هذا الفيلم الجديد
ابتداء من مخرجه رون هاورد إلى الممثل توم هانكس الذي يؤدي شخصية البروفسور
روبرت لاندون في هذا الفيلم. تبدأ الحكاية من مختبر في سويسرا يقوم بتجربة
ذرية تهدف إلى دراسة أصل العالم. وبعد نجاح التجربة، يفاجأ الجميع بمقتل
أحد علماء المختبر وسرقة إحدى أنابيب الانشطار التي تعمل على بطاريات مثبطة
وهي جاهزة للانفجار في أي لحظة ينتهي فيها عمل هذه البطاريات. ينتقل الفيلم
بعدها إلى روما حيث توفي للتو بابا الفاتيكان، والجميع في انتظار اجتماع
الكرادلة لتحديد هوية البابا الجديد. إلا أن الجميع يفاجأ باختطاف أربعة
كرادلة مرشحين لمنصب البابا من قبل جماعة غريبة والتهديد بقتلهم وتفجير
الفاتيكان بأنبوبة الانشطار المسروقة. ومن الفاتيكان وعلى وجه السرعة يتم
استدعاء البروفسور روبر لاندون، خبير الرموز الدينية، للمساعدة في البحث عن
هوية هذه الجماعة السرية. وهنا تبدأ حكاية الفيلم وتتصاعد أحداثه. رون
هاورد قبل عدة أشهر تألق بفيلم هو من أفضل أفلام العام الفائت ورشح عنه
لجائزة الأوسكار، وذلك في فيلم «فورستر / نيكسون». لكنه عاد بهذا الفيلم
الضعيف، وهو فيلم تجاري من الدرجة الأولى، حاول فيه وفريق التسويق إثارة
الجدل بإسقاطات تاريخية مضحكة، ومشاغبة الفاتيكان الذي لا يبدو أنه أصبح
يعبأ بهذه الفرقعة السينمائية. توم هانكس ممثل بارع، وقدم في السابق بعضا
من الأدوار الرائعة، إلا أنه أفرط في السنوات الأخيرة في الأعمال التجارية
التي لا تبقى في الذاكرة كثيرا، واستهلاك شعبيته في هذه الأفلام ستؤدي في
نهاية الأمر إلى انخفاض تلك الشعبية التي عززها في البداية قيامه بأدوار
صعبة، وليس على مثل هذه الأدوار التي يفتعل فيها هانكس كثيرا من الظرف وخفة
الظل. الفيلم يريد أن يقدم رسالة سلمية أقل تطرفا من «شفرة دافنشي»، وحاول
أن يوفق بشكل من الأشكال بين العلم والدين، إلا أن مثل هذا الموضوع لا يمكن
طرحه من خلال مطاردة بوليسية بين كنائس روما العتيقة استمرت طوال أحداث
الفيلم تقريبا، كما أن استبعاد حكاية الحب التي نشأت بين لاندون وعالمة
الفيزياء (المبعوثة من قبل المختبر) من الفيلم، على الرغم من وجودها في
الرواية، كان في صالح العمل، فإنه كان من الأفضل أيضا استبعاد هذه الرسالة
التي لم تتسق مع إيقاع الفيلم وإبقاء الصراع كما هو. ربما سينتهي الفيلم
كفيلم شباك تذاكر عادي، لكن على الأقل سيكون فيلما أكثر احتراما لعقليتنا
كمشاهدين.
m_aldhahri@hotmail.com
الشرق الأوسط في
22/05/2009 |