تجربة إبداعية حفرت لنفسها موقعا استثنائيا مطلا على ذاكرة الفيلم المصري
اسمها (عين شمس)؛ واحد من أهم الأفلام المصرية الروائية المصورة بكاميرا
الديجيتال بعد أن أفصحت عن قدراتها، وهو الفيلم الأول منذ تأسيس الرقابة
الذي لم يمر عليها لا مرور الكرام ولا حتى مرور اللئام، هو فيلم أثار ضجة
خرج منها الجهاز البيروقراطي الرسمي بخفي حنين، بعد أن فشلت كل المحاولات
في رتق وترقيع خفه المتهرئ، وهو فيلم يعكس سواء أقر صناعه أو أنكروا ملامح
المشهد السياسي المصري والسلطات المتناحرة في ساحاته..
ثم هو الفيلم الذي أربك المعارضين بمستواه الفني الذي حصد العديد من
الجوائز فأبطل حجة تواتر كهان الثقافة على الزج بها لمصلحة تمكين صانع
القرار من قمع وشطب ومصادرة أعمال فنية، محتجين بأن المستوى الفني للعمل لا
يستحق مثل هذا السجال حيث إن الجنازة حارة كما يقال والميت كما تعلم..
وأخيرا هو العمل الفني الذي سيعيد إثارة أسئلة حول مفهوم السينما المستقلة
والفن المستقل عموما، ولكن من زاوية مادية وواقعية وميدانية وليس عبر نقاش
نظري افتراضي بحت.
مخرج الفيلم هو (إبراهيم البطوط) أحد أركان وسط البلد الشابة، وهو الفتى
صاحب الوجه الهادئ الذي تجده مشاركا في كثير من فعاليات السينما المستقلة
والفن المستقل عموما، ويميل للاستماع أكثر من الحديث، وتمتزج تجاربه
الحياتية بوعيه الفني دون لي لعنق الواقع أو الفن.. فخبراته الحياتية لا
تقل درامية عن أعماله الفنية، ذلك أن البطوط قضى سنوات من حياته يحمل
الكاميرا موثقا لمعارك أبت البشرية أن تودع القرن العشرين إلا بها، وله مع
أفغانستان والشيشان وروسيا ورومانيا وكمبوديا والصومال وزئير ورواندا
وفلسطين ولبنان والمواقع التي دارت فوق تلك الأراضي شئون وشجون.. وهو الفتى
التي تثير أعماله الدرامية مشكلات قد يراها البعض لا تقل عن تلك التي ترصد
لها عدساته الوثائقية.
(عين شمس) فيلم ضم كثيرين من كتائب وسط البلد الفنية حشدهم البطوط في
فيلمه، ليصنعوا معا حالة استوعبت إبداعاتهم الفردية ضمن نسق مرن ومحكم.
دراما الفيلم تدور حول الفتاة شمس التي تحيى حلما يجسد رغبتها الدرامية بأن
تذهب إلى وسط البلد، أما العقبة التي تعترض رغبتها وتحول دون تحقيقها فهي
ظروف عمل أبيها رمضان فالرجل نهارا هو السائق الشخصي لأحد رجال الأعمال
وليلا هو سائق التاكسي، غير أن اكتشاف إصابة الفتاة باللوكيميا يجعل تحقيق
رغبة شمس واجبا لا يحتمل التأخير، وترحل الصغيرة بعد أن تكشف ببقائها
وغيابها مجتمعا مبنيا على تناقضات لا يسعها أن تستوعب أو أن تحافظ على جمال
كجمال شمس.
وقل ما شئت عن عين مدققة ترصد بطالة الشباب وبلطجة النظام وفساد رجال
الأعمال وذويهم ومخاتلة السياسيين وحاشيتهم وعطب الحكام وجهل المحكومين..
كل ذلك لا يأتيك عبر الدراما بأدوات فنية قوامها الخيال المنبعث من الواقع
فحسب، لا فالخيال هنا مرتكز على قوائم من الواقع شديدة الثبات ويجليها مادة
وثائقية ساطعة تعرض لعذابات العراق في ظل الاحتلال الأمريكي، وتعرض كذلك
لمواجع القاهرة في ظل الاعتلال المصري.
تسجيلي
والمنطق الدرامي يسمح بذلك حيث أن الطبيبة مريم التي شخصت مرض شمس والمعنية
بهذا المرض درست العلاقة بين اليورانيوم المخصب -الذي حسم معركة قوات
التحالف ضد فلول الجيش العراقي المنسحب من الكويت في مطلع التسعينيات- وبين
الانتشار المحموم لمرض السرطان عبر أرض وسماء وأنهار العراق.. وحين تمرض
شمس بنفس المرض رغم بعدها عن كل ذلك يتولد المجاز وتحضر الاستعارة والتي
بات من الواضح أنها تستهدف أن تقارب هذا بذاك، ومن ثم تشبه الاحتلال
بالاعتلال كما أسلفنا.. ويكون العدو الخارجي هناك الوجه الآخر للعدو
الداخلي هنا، ذلك الأنكى لكونه عدوا من نسيج الجسد ذاته لا يكاد الجسد
يستبين السبيل لمواجهته، ذلك أنه باختصار –كئيب- سرطان.
مراجعة الواقع بتساؤلات طفولية مندهشة من تلك التي يمر عليها البشر يوميا
دون أن يعيروها انتباها بالرغم من كونه لا يثبت لعين لم يلوثها الاعتياد..
لعبة يلعبها الفيلم.. فعين الفتاة شمس أو عين شمس ترصد وتسأل وتستنكر
وتطالب بحقها كاملا غير منقوص.. والفيلم وصناعه يستعيرون بساطة شمس أو
يعيرونها بساطتهم حين يشتبكون يوما مع جهاز الرقابة البيروقراطي والذي لم
يسمح بعرض الفيلم.. يحصدون الجوائز ويستعيرون بساطة شمس حين يتساءلون إن
كان الفيلم جيدا وجميلا فلماذا لا يعرض؟! وتأتي الإجابة المرتبكة المدموغة
بذهنية الكبار الرتيبة لأنه لم يعرض علينا أولا.. فيأتي التساؤل اللائذ
بالبساطة: وماذا نفعل الآن؟! تحاول الرقابة استعادة شيء من حقها السليب بأن
يعرض عليها سيناريو الفيلم من جديد ولسان حالها يقول: وسنوافق عليه والله..
غير أن الفضيلة الطفولية المطالبة بعالم منطقي ومفهوم ترفض هذا الاحتيال،
ثم تقبل الرقابة عرض الفيلم على أنه فيلم أجنبي فتتمسك البراءة بأن هذا لا
يجوز لأنه كذب، هكذا يربك فيلم واحد غير ممتثل للنظام البيروقراطي العتيد
هذا النظام وينتصر عليه بعد أن يعري عدم صلاحيته حتى حين يرغب الأخير في
توفيق أوضاعه مع زمن تجاوزه، لكن البيروقراطية لا تحكم وحدها!
قلنا إن تجربة صناعة الفيلم تعرض لملامح المشهد السياسي المصري والسلطات
المتناحرة في ساحاته، فإن استطاعت التجربة التهكم بالبراءة على الجهاز
الإداري العتيق للدولة، فإن قوة السوق والتي تعرف التطور والتجدد، لكنها لا
تملك إلا أن تولي وجهها شطر مصالحها التجارية.. وتبعات ذلك يجعلها أشد
تعنتا وغير قابلة للتفاوض.. فإن المواجهة بتعرية بيروقراطية الإدارة شيء
ومحاولة الروغان من طوق الرأسمالية شيء آخر..
هنا يحضرني تندر لمحمد عبد الفتاح أحد الممثلين في الفيلم ومدير مؤسسة
قافلة حالة الفنية التي شاركت مشاركة فعالة في ظهور الفيلم للوجود حين
طالبه بعد النقاد بعرض الفيلم عرضا خاصا بعد أن اشترته الشركة المنتجة فقال
إنه لا هو ولا مخرج الفيلم يستطيعون عرضه وحين واجهته البساطة التي يعرفها
جيدا: هو مش الفيلم ده مستقل؟! أجاب هو متضاحكا: الحقيقة الفيلم بدأ مستقلا
ثم تم احتلاله.. وهذا هو مربط الفرس وسرجه معا.
دعاية
الفيلم يعرض اليوم بدعاية تقل عما يُفترض في فيلم حقق ما حققه الفيلم من
جوائز، فنحن نعرف جيدا ما يقوم به الإعلام الحكومي من ترويج لمن ينال
جائزة، خاصة إن كانت من لدن الخواجة، لكن صاحب حقوق التوزيع له أهلية
قانونية كاملة في الترويج للفيلم بما يتفق مع سياساته الاقتصادية، فإن كان
هذا ما يخص الدعاية فقل مثل ذلك عن عدد السينمات التي تعرض الفيلم،
ومواقعها، وحجم المترددين عليها، وتوقيت عرض الفيلم.. كل ذلك أمور غير
قابلة للتفاوض ولا يملك صناع الفيلم إزاءها إلا الإذعان الساخن بتعليق فكه
أو تصريح مموه في وسائل الإعلام المختلفة.
القوة الناعمة لوسط البلد الفنية قدمت في هذا الفيلم كثيرا مما تملك وغزلت
بما نعلم.. تامر السعيد شارك إبراهيم البطوط كتابة سيناريو الفيلم وقام
صوتيا بأداء دور الراوي ليقدم عذوبة حميمية في النفاذ إلى المتلقي، واللعب
على السرد محفوف بالمخاطر فإن كان مدعاة للتأمل فإن آفته رتابة الإيقاع،
نجا الفيلم منها وأضيف بذلك إلى متحف السرديات التي أتحفنا فيه من قبل يسري
نصر الله وأسامة فوزي.
وبدأ الراوي الفيلم من حيث رحلت شمس فالمغنية مريم صالح التي تركب تاكسي
الأب حين تطالع صورة الراحلة الرائعة يشرع الأب في حكايتها وحين تصل
المغنية تستبدل ما قد نوت على غنائه بأغنية من التراث العراقي عن طفلة ترحل
هي الأخرى، فتتماس الطبيبة التي تحضر اللقاء مع تجربة العراق والصغيرة
الراحلة هنا وهناك، هكذا يظل الشبح الشفيف لشمس يتابع غزل الدراما.
القوة الناعمة لوسط البلد الفنية تحتشد في هذا الفيلم بحضور ذاتي لكل فرد
يصنع ذات -ما وراء فردية- لفن وسط البلد ومن المفارق أن تكون وسط البلد حلم
الصغيرة.
جزء لا يستهان به من الممثلين في الفيلم يستخدمون أسماءهم الحقيقية ويلعبون
أدوارا تتداخل مع شخصياتهم إلى حد ما وسمح لهم الفيلم بالحضور، فجلي أن
الحوار هو نبت فهم الممثلين لطبيعة الشخصيات ومن ثم فالارتجال بطل أشعرنا
بحرارة الصدق في الأداء.. حنان يوسف في دور أم شمس قدمت أداء متميزا وتماهت
فيه وجدانيا مع تجربة العذراء مريم البتول حين رأت ما حل بالمسيح وقد
اختارت حكايتهما لتحكيها لصغيرتها تحت شجرة السيدة العذراء في عين شمس وهي
توقد لها شمعة.
وعمرو فتى الوصلات والكابلات والإنترنت الذي قام بدوره الممثل أحمد مصطفى
حين علم بمرض ابنة حتته والتي يكن لها مودة خاصة توقف هو وصديقه أيمن عبد
الرءوف عن بث الفضائيات للمشتركين في الوصلة ليعرض فيلما عن التوعية
بالسرطان وسط زمجرة البشر.. حيلة درامية من قلب النسيج الدرامي وتصدر عن
هؤلاء وعايشها الممثلان بصدق حياتي استحال إلى صدق فني.
أما معلمة شمس سمر عبد الوهاب فهي موهبة جديرة بالتقدير، إذ قدمت نموذج
المعلمة في منطقة شعبية والتي تهفو للزواج دون أن تزل قدمها في ما يسهل أن
يغري به الدور من هوس أو تزمت أو ابتذال، على النقيض من ذلك كانت فتاة
شعبية تريد الفكاك من العنوسة وتتطلع للزواج بخفة دم ودون أدنى تهكم على
الذات.. وقد شاركها محمد عبد الفتاح في دور معلم التاريخ الذي لا يخلو من
ثورية جذابة.
من عناصر التميز كذلك إعادة إنتاج أغنية سيد درويش (يا عزيز عيني) والتي
أعاد أيمن حلمي كتابتها وتلحينها وصياغتها لتختتم الفيلم بعبارة قلت فدلت:
"بدل ما أخاف عليكي بخاف منك يا بلدي".
أخيرا، وللمفارقة يعلق بالذاكرة حكاية سمعتها من سنين من أحد صناع هذا
الفيلم، وهو الممثل بطرس بطرس غالي والذي قام بدور رجل الأعمال الذي فر إلى
الخارج في نهاية الفيلم وبرع فيه بحق.. أما الحكاية فتحكي عن ذئب صادف
كلبا، وبعد أن تبادلا التحية أخذ الثاني يعدد للأول المزايا التي ينالها من
كونه مسئول حراسة مؤتمن؛ حيث يطعمه صاحبه عدة مرات في اليوم حتى سمن، وله
بيت يأوي إليه يقيه التشرد حتى أمن، وأطفال يدللونه ويلعبون معه حتى
استقر.. المهم أن كل ذلك أغرى الذئب بتغيير نمط حياته والسير في ركاب
الثاني.. لكن لفتة لعنق الكلب جعلت الذئب يعدل عن قراره حين علم من أثر
الشعر أن طوقا ما يعلق في عنقه.. قبل الذئب الجوع والبرد والتشرد لكنه فضل
الحرية أو لعله الاستقلال.
كاتب وناقد فني.
إسلام أنلاين في
23/05/2009 |