البحث عن التجريب على صعيد الصورة، وتتبع ما تحمله من إمكانات،
يتطلب الاستسلام لإمكاناتها التي مازالت مفتوحة على مصراعيها،
ولها أن تمضي يداً
بيد مع تطورات تقنية، ليس لصناع السينما إلا أن يستثمروها جمالياً
وبصرياً.
هكذا حديث يقود إلى ملحوظة بسيطة أدعي أنها تحمل جزءاً يسيراً من
الواقع، تتمثل في أن التغريب على صعيد الصورة، وأخذها بعيداً
وكشف إمكاناتها -كونها
الأقرب إلى آلية عمل المخيلة- دائماً ما يترافق مع خفة على صعيد السرد
والحكاية أو
حتى الشخصيات، وأقصد هنا أفلام الخيال العلمي التي تمضي خلف ابهارنا
بالصورة متخذة
من أبسط الحكايات معبراً لها، كما لو أنها لا تريد تشتيت
انتباهنا عن الصورة فيها،
والديكور والألوان والمؤثرات الخاصة، وتقديم شخصيات خالية من أي شيء، عدا
تشكيلها
البصري، أزيائها، التحريفات والإضافات التي طالتها، وغير ذلك، وليقودنا ذلك
إلى
فيلم يعود إلى عام 1995 له أن يمضي في المخيلة إلى أقصاها وفي وفاء بحت
لفكرة
الفيلم الرئيسة.
حقق الفيلم الفرنسيان مارك كارو وجان بير جونو، وحمل عنوان
«مدينة
الأطفال الضائعين»، المبني من أوله إلى آخره على ابتكارات مشهدية، إن صح
الوصف، لما له أن يطال كل ما في الفيلم، بدءاً من تكوين الشخصيات وعوالمها،
مروراً
بموقع التصوير المؤسس في تناغم معها، وصولاً إلى فكرة الفيلم
نفسه التي تبدأ من قصة
خطف الأطفال من مجموعة غريبة من الأشخاص، ولمصلحة زعيمهم الذي يعاني من
الغياب
التام لأحلامه وبالتالي يضع أولئك الأطفال في جهاز خاص وينقل أحلامهم إلى
دماغه.
لن نروي هنا قصة الفيلم، بقدر ما نضيء ما حمله من عوالم، بمعنى أن
مدينة الأطفال الضائعين التي تتم فيها سرقة أحلام الأطفال تكون
مليئة بنسخ متعددة
للشخص نفسه، وعليه فإنهم مستنسخون من إنسان أصلي، وهم في بحث دائم عن هذا
الشخص،
وفي مواصلة لانعدام نقطة نبني عليها سرد قصة الفيلم المفتوحة على
الاستدراكات
والانعطافات، فإن آلية التفكير التي تتحكم في الفيلم تتمثل في
الخيال العلمي، لكنها
عودة إلى الماضي من خلال كل شيء، بمعنى أن الأجهزة التي يستخدمها خاطفو
الأطفال
تكون مشكّلة من أدوات قديمة، لكن في خدمة ما يتخطى العلم الحديث بأشواط.
كل
شيء في «مدينة الأطفال الضائعين» مبني لتقديم فنتازيا تجري في
الأحلام، وهناك مشاهد
كاملة مركّبة وفقاً لحدث بسيط يمتد ويلاحق بالمخيلة إلى ما لا نهاية، وفي
تتبع
دائماً للإبهار ولمزيد منه من دون توقف، وفي استثمار كامل لكل ما على
الشاشة لخدمة
هذا الغرض.
وبما أننا نتحدث عن مخرجين عملا في هذا الفيلم، فإن ما قدمه كارك
كورو بعده يأتي قريباً منه بعض الشيء، أي فيلمه الذي أنتج
العام الماضي، وحمل عنوان
«دانتي
01» وله أن يحلق في الفضاء والخيال العلمي، وليكون فيلمه الوحيد بعد «مدينة
الأطفال الضائعين»، بينما قدم جان بير جونو أربعة أفلام مميزة، لعل أشهرها
«إميلي»
الذي احتفي به بوصفه «أعجوبة سينمائية
فرنسية»، وفيلم آخر لا يقل أهمية عنه حمل
عنوان «خطبة طويلة جداً».
الإمارات اليوم في
24/05/2009 |