التأمل المتمهل لأية صناعة سينما يمكن أن يصل إلى نتائج اجتماعية
وسياسية حتى لو لم تكن ظاهرة على السطح، وهذا هو ما يمكن أن نقوم به فى
رحلة سريعة مع تاريخ السينما المصرية، لندرك إلى أى حد استطاعت أن تتعامل
مع ثورة يوليو، فهل هناك أفلام استطاعت أن تتنبأ أو تبشر بها قبل أن تندلع
الثورة؟.. وكيف تعاملت السينما المصرية مع الثورة بعد قيامها؟
كانت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية مرحلة غليان حقيقى داخل
الأوساط الاجتماعية والثقافية والسياسية فى مصر، ويمكن القول إنه من رحم
هذه الحقبة خرج العديد من التيارات السياسية التى لا تزال فاعلة ـ بقدر أو
بآخر ـ حتى اليوم، وفى العادة فإن النظرة المتعجلة لفنون تلك الفترة ـ ومن
بينها السينما ـ نصل إلى أنها كانت تتعامل بقدر من الخفة والاستخفاف
بالواقع، حين كانت تهدف للتسلية وحدها، لكن حتى أفلام التسلية كانت تعبر
تحت السطح عن رغبة جارفة فى الوصول إلى أشكال وأساليب سينمائية وعربية
خاصة.. لكننا سوف نتوقف هنا عند بعض الأفلام التى نعتبرها على علاقة وثيقة
بمعنى الثورة مفهومها الشامل، حيث يمكنك أن ترى موقفين متعارضين تماما
منها.
وسوف يدهشك أن فيلم العزيمة 1939 لكمال سليم، الذى يعتبره معظم النقاد
أفضل أفلام السينما المصرية على الإطلاق، كان يعبر فى جوهره عن موقف معاد
للثورة، ويدعو لما يمكن أن نسميه "الإصلاح الاجتماعي" بالتكيف مع قوانين
المجتمع بدلا من الدعوة لتغيير هذه القوانين الظالمة، فالبطل محمد أفندى
"حسين صدقي" يحاول الصعود من الشريحة الدنيا للطبقة المتوسطة ليصل إلى مصاف
"الصفوة" وحين تقابله العقبات الناتجة عن تقسيم طبقى حاد، فإن هذه العقبات
تتمثل فى الأخلاق المستهترة للشاب الأرستقراطى "أنور وجدي" لكن محمد أفندى
سوف يصبر ويثابر ليعمل فى أعمال متدنية حتى يظهر الباشا، عباس فارس أبو
الشاب المستهتر فإذا به باشا طيب يمنح محمد أفندى ما تستحقه مواهبه
ومؤهلاته، لذلك فإنه لا داعى للثورة على التناقضات الاجتماعية ما دام
الأثرياء سوف يسمحون لبعض أبناء الطبقة الدنيا بالصعود الاجتماعي.. على
النقيض يأتى فيلم كامل التلمسانى "السوق السوداء" 1945 ليؤكد أن التناقض
الاجتماعى أعمق وأخطر من أن يتم التعامل معه على نحو أخلاقى، لذلك فإن
البطل "عماد حمدي" لا يجد طريقا أمامه إلا التمرد والثورة على هذه الأوضاع
الظالمة. وإذا كان "العزيمة" ينال إطراء نقديا كبيرا إذا ما قارنته بفيلم
"السوق السوداء" فذلك نابع من الشكل وليس المضمون، لأن الفيلم الأول يعتبر
قفزة حقيقية فى مجال تماسك السرد السينمائى لأفلام تلك الفترة، بينما جاء
الثانى مشوشا غامضا لأنه أراد بطموح ـ فى غير زمانه ـ أن يحدث أيضا "ثورة"
فى مجال الشكل.
كانت التناقضات الاجتماعية تمثل جانبا من القضايا التى يجب على
السينما المصرية أن تواجهها لتحدد موقفها بالاختيار بين الإصلاح والثورة،
أو بين التكيف والتمرد، لكن القضايا العربية الأشمل احتلت بدورها مكانا فى
وسط هذه القضايا. وأرجو أن تتأمل على سبيل المثال فيلم صلاح أبو سيف
"الصقر" 1950 الذى يبدو فى ظاهرة فيلما من أفلام الفروسية التقليدية لكنه
يتحدث فى مضمونه عن "محتل" أجنبى يتسلل إلى الأرض العربية ليسرقها قطعة بعد
أخرى بينما تبدو القبائل العربية متشرذمة متفرقة، لينادى الفيلم بضرورة
"الوحدة"، وظهور القائد أو "الزعيم" الذى سوف يؤدى هذه المهمة القومية، بل
إن فيلما كوميديا خفيفا مثل "عنتر ولبلب" لسيف الدين شوكت ـ "وهو الفيلم
الذى كان يحمل اسم "شمشون ولبلب" لولا أن الرقابة اعترضت آنذاك على اسم
"شمشون" لوضوح الرمز السياسى فيه، وقد عرض هذا الفيلم فى أبريل عام 1952 ـ
يحمل فى طياته حدوتة رمزية عن ظهور فتوة "غريب" فى الحارة يبدأ فى تغيير
عاداتها وقيمها سعيا للسيطرة عليها، لولا أن لبلب "شكوكو" يتصدى له
بالمقالب الطريفة حتى يهزمه.
إن المعالجات غير المباشرة سواء عن طريق أفلام الفروسية أو الكوميديا
الهزلية لم تخل إذن من حس اجتماعى وقومى لتعبر عن روح المقاومة، لكن
المفارقة هى أنه عندما حدثت الثورة بالفعل فى يوليو عام 1952 لم تجد فى
صناعة السينما ما يؤكد ضرورتها، إلا فى بيان وحيد صوره الممثل والمنتج حسين
صدقى تحدث فيه عن ضرورة وجود "سينما جديدة" تواكب التطورات السياسية، فيما
عدا ذلك فإن الترحيب بالثورة بدا على نحو هزلى تماما، مثلما حدث فى فيلم
"اللص الشريف" 1953 لحمادة عبد الوهاب، وهو كوميدى هزلى لا علاقة له من
قريب أو بعيد بالثورة لكن صناع الفيلم أضافوا بعد إنتاجه "مونولوجا"
لإسماعيل يس يرحب فيه بعصر "ضباط الجيش الأحرار، ونجيب وإخوته".
وحتى فى الأفلام الأكثر جدية التى احتفت بالثورة فإنها استخدمت الثورة
"بأثر رجعي"، فقد بعض أفلام السينما المصرية الماضى، أو ما كان يسمى آنذاك
"العهد البائد" باعتباره تجسيدا للشر المطلق الذى يواجه البطل الطيب
ورفاقه، فميلودراما "صراع فى الوادي" 1954 ليوسف شاهين تصور "باشا" إقطاعيا
ظالما وابن أخيه (زكى رستم وفريد شوقي)، يقفان ضد قصة الحب بين ابنة الباشا
وفتى ينتمى إلى طبقة الفقراء (فاتن حمامة وعمر الشريف).. وبالمثل فإن فيلم
الوحش 1954 لصلاح أبو سيف، الذى يمكن أن يكون مجرد فيلم عصابات، يضيف إلى
خطوطه القصصية علاقة بين المجرم "محمود المليجي" والإقطاعيين، أما فيلم
"الفتوة" 1957 لصلاح أبو سيف أيضا، وهو الفيلم الذى كان من الممكن أن يكون
دراسة شبه متكاملة عن الرأسمالية وصعودها، فقد تحول فى جانب منه إلى الربط
بين الفتوة وفريد شوقى ورجالات القصر، ويمكنك أن تضيف أيضا إلى أفلام العهد
البائد "القاهرة 30" 1966 لصلاح أبو سيف الذى فقد جانبا من عمقه عندما ربط
بين التناقضات السياسية والماضى وحده.
وهناك أفلام تأتى فيها الثورة فى نهاية الفيلم لتقدم "حلا سعيدا" لكل
المآسى الميلودرامية التى تتناولها القصة، والمثال الأوضح على ذلك هو فيلم
"رد قلبي" 1957 لعز الدين ذو الفقار، الذى يراه البعض بحق تشويها لأهداف
الثورة التى لم يكن من بين أهدافها أبدا "التزاوج" بين ابنة _الإقطاعيين
"مريم فخر الدين" وعضو الضباط الأحرار "شكرى سرحان" بما يحمل هذا الزواج من
شبهة الاستيلاء على السلطة وليس الثورة ذاتها، لكن الفيلم الأكثر جدية على
الإطلاق فيما يمكن أن تسميته "العهد البائد" فهو فيلم "الأرض" 1970 ليوسف
شاهين، الذى اعتمد على سيناريو حسن فؤاد عن رواية عبد الرحمن الشرقاوى، فهو
لا ينحو أبدا إلى أية معالجات ميلودرامية، بل يرسم صورة ملحمية للمجتمع
المصرى وطبقاته وشرائحه فى فترة ما قبل الثورة، بل يمتد إلى تأمل التناقضات
داخل الطبقة المسحوقة ذاتها ومواقفها المختلفة من المقاومة أو الثورة، وحتى
بعد أن مر على الفيلم ما يقرب من أربعة عقود فإن مشاهدته المرة بعد الأخرى
"تفسر" لك لماذا كانت الثورة ضرورة تاريخية وأن مشهد أيدى البطل العجوز
"محمود المليجي" وهى تدمى بينما هى تتشبث بالأرض العطشى لا تزال باقية فى
الوجدان، لتؤكد أنه كان لابد أن تروى هذه الأرض بالمقاومة والثورة لكى تعود
إلى الحياة والنماء.
العربي المصرية في
28/07/2009 |