دونما بقية الفنون كان هذا الارتباط الذى اكتسب صفة الشرطية بين
السينما والواقع السياسى المصري. خاصة ان العروض الأولى لها تزامنت مع ذلك
الزخم السياسى الذى ـ عايشته مصر مع مطلع القرن العشرين.
وكانت أهم ملامح هذا الزخم ذلك الذى عكس تصاعد نشاط الحركة الوطنية
عندما احتضن الخديو عباس حلمى الثانى الفورة الوطنية الشبابية التى فجرها
مصطفى كامل. وانعكست أبعادها على صياغة ونشاط حركات التحرر الوطنى التى
كانت تقود النضال الشعبى من أجل الاستقلال والجلاء..
وكانت أحد الشعارات التى رفعها التيار الوطنى ويعتبرها بمثابة برنامج
عمل نلتزم بها حركة الجماهير فى نضالها ضد المستعمر. هو مقاطعة كل ما هو ـ
أجنبى ـ وقد انعكست أبعاد هذا الشعار على ـ العروض السينمائية الأولى فى
مصر.. حيث بات أمامهم ان هذا الجديد الآتى من الغرب برعاية وحماسة الأجانب
المقيمين.. ما هو إلا سلعة أجنبية ينطبق عليها مدلولات الشعار الوطنى من
المقاطعة.
وإذا كانت الصحف قد استقبلت هذه العروض بقدر من الاهتمام كان الأمر
مرجعه بالدرجة الأولى حالة الدهشة من غرابة الاختراع ذلك استطاع ان يحرك
الصورة ويدب فيها ملامح الحياة.
أما القواعد الشعبية من المصريين فإن الأمر لديهم لم يكتسب هذه الدهشة
ذلك لأنهم لم يروا فى تلك العروض إلا نوعا من ألعاب خيال الظل ـ وهى أحد
فنون الفرجة التى التف حولها المصريون قبل ظهور العروض السينمائية التى
اعتبروها مجرد آداة لتسلية الأطفال.
ومن هنا رسخ من أذهان المصريين السبل التى يمكن أن تستخدم بها السينما
والتى قد تكون أحدها تسجيل ـ الأحداث الوطنية واتساع رقعة انتشار الخبر
الذى تريد التنظيمات توصيله الى الجماهير.
وبدأت نظرة المصريين الى السينما تختلف وتبين لهم إمكانية الدور الذى
يمكن أن تلعبه فى اطار برنامج الكفاح الوطني.
وقد كان النجاح الذى حققه انتاج هذا الشريط بداية لارتباط السينما
بالعمل السياسى وظهور نوعية من الشرائط السينمائية التى تعتمد على تسجيل
المناسبات الوطنية مثل جنازة مصطفى كامل أو رحلة المحمل لكسوة الكعبة
الشريفة. أو استقبال الخديو لولى عهد النمسا بالقاهرة.
والغريب فى الأمر ان مثل هذه الشرائط كانت مجهولة المنتج على مستوى
الشخوص وان كانت القواعد الشعبية تعى تماما مصدرها ومنتجيها وصانعيها حيث
تشير الدلائل الى التنظيمات السرية التى كانت تقود حركة النضال الشعبى
واتخذت من السينما إحدى وسائلها.. وكان عرض مثل هذه الأفلام بدور العرض
التى يملكها الأجانب يحكمه توجه اقتصادى حيث اعتبرت مثل هذه الشرائط أداة
جذب للجمهور المصرى لعروض هذه الدور وانتاجها.
وعلى الرغم من ثراء هذه الفترة بالعديد من المواقف الوطنية إلا أن
الشركات الأجنبية المنتجة للشرائط السينمائية لم تستطع أن تسجل هذه المواقف
سينمائيا لأسباب عدة ربما يكون أهمها قلة الامكانات المتاحة ومطاردة سلطة
المحتل لمثل هذه العروض.
ومن هنا احتدم الصراع السينمائى بين القوى الوطنية وبين الأجانب
المقيمين المسيطرين على الشأن السينمائى ومالكى دور العرض هو صراع الأحق
والأبقي.
فى صيحة الأربعاء الموافق 23 يوليو من عام 1952 فوجئت الجماهير
المصرية بنجاح حركة الجيش فى السيطرة على مقاليد الأمور فى البلاد وتم
إعلان بيان الحركة الأولي. وعلى الرغم من الغموض الذى أحيط حول ماهية
الحركة وأهدافها حيث أوضح البيان انها حركة إصلاحية تعنى بالدرجة الأولى
بأحوال الجيش حيث ذكر البيان نصا:
«.. وعلى ذلك قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا داخل الجيش رجالات نثق
فى قدرتهم وفى خلقهم وفى وطنيتهم..
إلا ان الجماهير فى عرض البلاد وطولها استقبلت البيان بحفاوة شديدة
حيث خرجت الى الشوارع فى تظاهرات تأييد ومساندة وهو الأمر الذى كان له بالغ
الأثر فى اضفاء الشرعية على الحركة واعطائها الدفعة القوية التى أملت على
قادة الحركة ضرورة مواجهة أوضاع الواقع المصرى الذى كان يعانى من أزماته
السياسية ومشاكله الاقتصادية ومعاناة مستمرة من أوضاع اجتماعية متدهورة.
وان تأخذ هذه المواجهة المنهاج الذى اتخذ من المتغير الجذرى للأوضاع
القائمة الوسيلة الأجدى والأنفع والأكثر تأثيرا.. وهكذا تحقق للحركة خطها
الثورى منذ اللحظات الأولى لقيامها.. كما عكست الأحداث السريعة والمتلاحقة
البعد الثورى على الأوضاع التى نالها المتغير الذى أحدثته الثورة..
نالت الفنون قدراً كبيرا من الاهتمام وكان للسينما النصيب الأكبر من
هذا الاهتمام والذى بدأ مبكرا إحساس قادة الثورة بالاضطهاد السياسي. الذى
واجهته السينما من العهود السابقة خاصة فيما يتعلق بالفيلم السياسى حيث
كانت أحداث فيلم «مصطفى كامل» الذى منع من العرض العام بأمر رقابة السلطة
السياسية قبل الثورة بعدة شهور.
وقد انعكس هذا الاهتمام فى تلك المبادرات التى طرحها محمد نجيب وهو
القائد الذى كان يمثل واجهة الثورة حيث وجه بيانه الشهير الى الفنانين قبل
مرور 40 يوما على قيام الثورة وتحت عنوان «الفن الذى نريده» أشار نجيب الى
أهمية الفنون فى بناء المجتمع وأخص البيان السينما بالدور الرئيسى الذى يجب
أن تؤديه خلال المرحلة المقبلة تلك المرحلة التى اطلق عليها بالمرحلة التى
نعيد فيها ـ كتابة تاريخ مصر الحديث.
أول لجنة
وفى نفس الوقت صدر قرار مجلس القيادة بتشكيل لجنة برئاسة وجيه أباظة
«من الضباط الأحرار» تضم فى عضويتها كوادر العمل السينمائى لمناقشة أحوال
السينما وأوضاعها ومشاكلها. والوصول الى علاقة جديدة بينها وبين السلطة
السياسية التى تمثلها أجهزة الثورة وبالفعل تم تشكيل اللجنة وشارك فيها
معظم سينمائيى مصر..
محمد كريم/ يوسف وهبي/ أحمد بدرخان/ أنور وجدي/ صلاح أبو سيف/ سراج
منير/ حسين صدقي/ فريد الأطرش/ يوسف شاهين/ آسيا تلحمى ـ وعلى الرغم ان
اجتماعات هذه اللجنة استغرقت قرابة العام فإنها لم تستطع أن تحقق الأسس
التى يجب أن تبنى عليها العلاقة بين السينما والنظام الثورى الجديد.
على الرغم من المساحة الكبيرة التى استغرقتها اجتماعات هذه اللجنة
التى قاربت على العام ـ فإنها لم تسفر عن أرضية مشتركة بين الطرفين ذلك لأن
كلا الطرفين كان حريصا على تحقيق علاقة تحكمها بالدرجة الأولى المصلحة
العامة التى لا تسبب أضرارا لأى منهما. إلا ان الرؤية التى كان يحملها كل
طرف كانت بعيدة عن تصور الآخر.
يسقط الاستعمار
كان النجاح الذى حققه عرض فيلم «مصطفى كامل» الذى أفرجت عنه الثورة
واحتفى قادتها بعرضه بحضورهم المتكرر لحفلات العرض مع الجمهور.. يعكس
اهتمام الثورة بالسينما. واعتبره السينمائيون بداية لعلاقة وطيدة بين
السلطة السياسية الجديدة بمفهومها الثورى وبين السينما. خاصة ان نجاح
الفيلم جماهيريا واهتمام رجال الثورة به يشير بصورة أو بأخرى الى النوعية
الفيلمية التى تتفق وأهداف الثورة فى المرحلة القادمة.
فسارع أحمد بدرخان «مخرج مصطفى كامل».. للإعداد لأول فيلم يظهر فيه
على الشاشة الثورة ورجالاتها.. وأعد بدرخان كافة العناصر التى تجعل من فيلم
«الله معنا» يليق بهذا السبق.
غير أن حسين صدقى كان الأكثر عجالة فى تقديم فيلمه «يسقط الاستعمار»
الذى عرض فى ديسمبر 1952 وفى أعقاب عرض فيلم مصطفى كامل. آملا ان يحقق ذات
النجاح والاهتمام الذى حققه مصطفى كامل.. وذكر على أفيشات الفيلم انه من
الأفلام التى أفرجت عنها الثورة بعد عنها من العرض العام بقرار السلطة
السياسية السابقة.. غير ان هذا التنويه لم يذكر فى أى من المصادر والأرجح
ان الفيلم أعد بعد قيام الثورة وهذا التنويه مجرد محاولة إعلانية من صاحب
الفيلم لمواكبة الحدث. على الجانب الآخر فإن عرض الفيلم لم يلق النجاح أو
الاهتمام مثلما حدث لمصطفى كامل وهو الأمر الذى كان دافعا لكى يفعل حسن
صدقى الأزمة الشهيرة التى قام بها بإحراق عد من شرائطه السينمائية.
وفى الواقع ان هذا الاستقبال كان انعكاسا موضوعيا لمستوى الفيلم فقد
كان بالفعل ضعيفا على كل عناصر صناعته. هذا بالإضافة الى الأسلوب التقريرى
الذى يحدد منهاج صدقى ممثلا ومخرجا الأمر الذى يفقد فيه الكثير من أعماله
القدرة على التأثير الوجدانى مع متلقيه.
والمؤكد ان هذا الفتور الجماهيرى تجاه الفيلم رغم كل الظروف الموائمة
المحيطة به أثناء عرضه كان قرارا فطريا للجماهير فقد أحست فيه ـ بالافتعال
ومحاولات التقرب للنظام الجديد.
ولأن الجماهير أحست بملكيتها للثورة منذ اللحظات الأولى لقيامها فقد
كانت تخشى من حملة المباخر عليها هؤلاء الذين يكون شأنهم شأن الحاشية فى
النظام!!
الثورة والرقابة
أتم بدرخان تصوير فيلمه «الله معنا» وحدد موعدا لعرضه فى مارس 1953.
غير ان المفاجأة الصادمة. جاءت مع ذلك القرار الذى صدر بمنع عرض الفيلم..
وكان القرار بمثابة صدمة عنيفة تلقاها السينمائيون خاصة هؤلاء الذين راهنوا
على قيام الثورة وآمنوا بما طرحته من شعارات فى تحقيق مجتمع تسوده
ديمقراطية حقيقية ويعمل بكل معانى العدالة والحرية.
وبدأت المساعى لمعرفة أسباب المنع من كل عناصر صناعة الفيلم.
ـ بدرخان وعلاقاته الطيبة برجال الثورة حيث كانت نجاحات «مصطفى كامل»
ـ وما أضفته من تأكيد على صياغة الحس الوطنى تجاه الثورة.
ـ احسان عبدالقدوس صاحب قصة الفيلم والمقرب من رجال القيادة حيث
مواقفه من قضية الأسلحة الفاسدة والتى كان تنظيم الضباط الأحرار أحد
مصادرها.
ـ بنك مصر منتج الفيلم ذلك الكيان ـ الاقتصادى الذى حاز على تقدير
واحترام رجال الثورة والذى سيتأثر سلبا من قرار المنع.
ـ وجيه أباظة من الضباط الأحرار والذى يترأس أول شركة انتاج وتوزيع
سينمائى تساهم فيها الدولة بتوجيه من قيادة الثورة والذى سوف يقوم بتوزيع ـ
الفيلم وان قرار المنع هذا سوف يعود بالخسارة على باكورة نشاط الشركة.
كل هذه الشخصيات والجهات شاركت فى علاج ـ الموقف وكانت علامات الدهشة
هى محركهم الأول ولكن يبدو ان الأحداث المتتالية والهزات العنيفة التى
تحدثها قرارات الثورة فى سنواتها الأولي. كانت من السرعة والأهمية للدرجة
التى حالت دون النظر فى هذا المنع الذى استمر قرابة الثلاث سنوات الى أن
نجح صناع الفيلم فى الوصول الى عبدالناصر الذى أمر بتشكيل لجنة لمشاهدة
الفيلم والتحقيق فى أسباب المنع.
وكانت المفاجأة عندما تبين ان اسباب المنع والتى حالت دون ظهور أول
فيلم يظهر فيه رجال الثورة على شاشة السينما ويؤخر هذاذ الظهور ثلاث سنوات.
هو قرار الرقابة الصادر عام 1947. والمعروف بين المصادر الرقابية بتحذيرات
فبراير 47 وطبقا للمادتين الثانية والثالثة من هذا القانون اللتين تنصان
علي:
2 ـ لا يجوز اظهار مناظر الاخلال بالنظام الاجتماعى أو الثورات
والمظاهرات والاضرابات العامة.
3 ـ لا يجوز التعرض للمبادئ التى يقوم عليها الدستور وطبقا لهاتين
المادتين يصبح الفيلم مخالفا لما جاء من التحذيرات حيث تعرض لقضية تمس كيان
النظام السياسى «بالأسلحة الفاسدة» كما أظهر الثورة ـ والثوار على الشاشة
الأمر الذى يتعارض بصورة ـ مباشرة مع نصوص المواد المذكورة.
أجازت اللجنة فى نهاية تقريرها عرض الفيلم بل ـ أشادت به. وفور اطلاع
عبدالناصر على التقرير أمر بعرض الفيلم وتشكيل لجنة برئاسة المستشار عبد
الرازق السنهورى «باشا» لوضع قانون جديد للرقابة على المصنفات الفنية والذى
عرف بعد ذلك بالقانون 430/1955 والذى أصبح المرجع الأساسى للرقابة رغم
التعديلات التى أدخلت عليه فى أعوام 76/92/99.
وفى حفل الافتتاح حضر عبدالناصر وأعضاء مجلس القيادة العرض ليكون
«الله معنا» أول فيلم يحضره عبدالناصر بعد قيام الثورة وأول فيلم تمنعه
الحكومات السابقة عن الثورة بعد قيامها.
ومازال الارتباط مستمرا
استمرار ارتباط السينما بالفعل السياسى وتطوره فى ظل حكومات الثورة
باعتبارها أحد الكيانات المؤثرة فى صياغة الواقع الاجتماعى فكان لها ـ نصيب
كبير من قرارات يوليو الاشتراكية كما كان لها النصيب الأكبر فى دعم الدولة
للأنشطة الخدمية بدءا من صندوق دعم السينما الى انشاء ـ مؤسسة السينما
وشركاتها والتى كان لها الفضل فى تقديم وانتاج معظم الشرائط التى يطلق
عليها بـ كلاسيكيات السينما المصرية.
والطريف فى الأمر ان هذا الارتباط جعل من السينما حقل التجارب الأول
لعمليات الخصخصة التى تمت للقطاع العام حيث قامت القيادة السياسية
للجمهورية الثانية فى إطار طمس ملامح الفترة الناصرية ومنجزاتها بإلغاء
مؤسسة السينما عام 1972 ورفع يد الدولة عن الانتاج السينمائى وبذلك تصبح
السينما أول كيان نال المتغير الذى أحدثته الجمهورية الثانية على الثورة
ومنجزاتها.
العربي المصرية في
28/07/2009 |