تقول الحكاية إن حاكماً كان يتباهى دائما أمام شعبه بكثرة
الألبسة، فلا يترك مناسبة دون أن يرتدي أفخم الثياب وأغلاها. استغل محتالان
هذا
الجنون لدى الحاكم، فاقترحا عليه أن يخيطا له لباسا لم يجُد به
الزمان من قبل أو من
بعد؛ زاعميْن أن كسوته ستكون من خيوط ذهبية. وبعدما حصل المحتالان على مال
وفير من
الحاكم، اعتزلا الناس في كهف بعيد ليباشرا عملهما فيه. في اليوم الثالث
زارهما وزير
الخزائن، ففوجئ بعدم وجود أي لباس، لكنهما ادّعيا أمامه بأن ما
خاطاه لا يراه
الأغبياء، فصدّقهما الوزير، وذهب عند سيده يصف له بهاء اللباس. وحيث إن
الحاكم لم
يُرِدْ ـ هو الآخر ـ أن يُنعَت بالغباء وبكون عينيه لا تبصران ما يبصره
وزيره وكذا
الخيّاطان، ارتدى ذلك اللباس الموهوم، وأقام استعراضا دعا له
الشعب... كان الجميع
يخفون دهشتهم مما تراه العيون. وما بين ساخر في أعماقه، وساعٍ إلى تصديق
النفس
مخافة أن يكون غبيا، اقترب طفل صغير من الحاكم، وقال له بنبرة بريئة
وعفوية: 'أيها
الحاكم، لماذا خرجتَ دون أن ترتدي ملابسك؟' ومن فرط خجله حاول أن يستر
نفسه،
مكتشفاً الحقيقة التي حاول المنافقون من حوله أن يخفوها عنه
وجعلوه هو نفسه يصدّق
الوهم...!
هذه الحكاية تضمنها أحد أفلام الكرتون الذي قدم على قناة تلفزيونية
عربية موجهة للصغار. وبالنظر إلى الرمزية العميقة والدلالات السياسية
القوية التي
يحملها ذلك الفيلم، كان يُفترض أن يوجه إلى الكبار، وخاصة
الذين يتربعون على كراسي
السلطة في الوطن العربي. فمعظمهم تصدق عليهم حكاية الحاكم المذكور، إذ أنهم
محاطون
ببطانة تجمّل لهم القبح، وتزيّن لهم قراراتهم السيئة، وتعتبرها فتوحات
مبينة في
عالم السياسة. كم من حاكم يتحدث بخطاب تافه ومبتذل، ولكن
المستشارين المنافقين
المحيطين به يصفونه بمنتهى الحكمة ومبلغ العلم، ويسارع المحللون الكذابون
إلى
الحديث عن 'الدرر النفيسة' التي يتضمنها ذلك الكلام. ولو كانوا صادقين مع
أنفسهم،
لأشفقوا على حاكمهم، ولأوصوه بتعلم أبجديات الخطاب وإتقان لغة الضاد التي
ينصّون
عليها في دساتيرهم كونها اللغة الرسمية للبلاد، قبل التفوّه
بكلام يفترض أن يكون
مفيدا للمحكومين وفي صالحهم.
وما أكثر البرامج التلفزيونية العربية التي تصم
الآذان صباح مساء بالمداحين المستأجرين من أجل تعداد مناقب
الحاكم الكبير، نفاقا
ورياء وكذبا وبهتانا عظيما. وما على المشاهدين سوى أن يعملوا بنصيحة القول
المأثور: 'انثروا في وجوه المداحين التراب'!
'مافيش فايدة'!
وجه آخر من وجوه
ازدواجية الخطاب السياسي ونفاقه ذلك الذي أبانت عنه انتخابات المجالس
البلدية في
المغرب. فطيلة أسابيع كان التلفزيون المغربي يحاول إقناع المواطنين بسحب
بطاقاتهم
الانتخابية والتوجه إلى صناديق الاقتراع خلال يوم الاستحقاق
السياسي؛ وكانت الفقرة
الإعلانية تقدم صورا براقة عن عمل المنتخبين المحليين، فهم الذين ينيرون
ظلمات
الشوارع، وهم الذين يصلحون الطرقات ويوفرون وسائل النقل العمومية
والمستشفيات
وغيرها من الشعارات. وما بين عشية وضحاها، تبين للمواطنين
(سواء ممن حاولوا تصديق
الحملة الدعائية، أو الذين بقوا في بيوتهم مقتنعين بلا جدوى المشاركة
السياسية)
تبين لهم من جديد أن الصالح العام كان مجرد
شعار ردده الكثيرون، وأن الهدف كان فقط
هو الوصول إلى مراكز القرار المحلية في المدن والأرياف. وآيات
ذلك ثلاث:
أولا ـ
التحالفات الهجينة والمستغربة التي حدثت ما بين أحزاب سياسية لا يربط بينها
رابط
فكري أو سياسي، فمن أجل الوصول إلى رئاسة المجالس البلدية تحالف اليميني مع
اليساري
والإسلامي مع العلماني والإقطاعي مع الاشتراكي... وهلم جرا!
ثانيا ـ الممارسات
المشينة التي حدثت قبيل وأثناء وبعد عمليات انتخاب المجالس المحلية من
عمليات إرشاء
بهدف شراء أصوات وذمم الناخبين الكبار، وأيضا تحوّل العملية الانتخابية إلى
معارك
حقيقيــة بين المنتخبين وأنصارهم، استعملت فيها الهراوات
والسكاكين ما بين
الناخبين، كما سالت خلالها دماء كثيرة.
ثالثا ـ تحوّل حزب وُلِد فقط قبل بضعة
شهور (وفي فمه ملعقة من ذهب) إلى ما يشبه البعبع، تهابه
السلطات المحلية، ويطلب وده
الكثيرون، وتُفرض اختياراته الشخصية في عمليات الانتخاب على الجميع، لمجرد
أن مؤسسه
صديق للملك.
هكذا اجتمعت الدلائل في هذه المسرحية التراجيكوميدية على موت
الديمقراطية بالمغرب. ورفض أولو الأمر والنهي أن يكون الصحافيون شاهدين على
ذلك،
مثلما حدث في العاصمة الرباط، حيث مُنع ممثلو وسائل الإعلام من
حضور عملية انتخاب
عمدة المدينة، إلى حد أن الكاتب العام (وكيل) للولاية انتفض في وجههم
جميعا، وأعطى
أوامره إلى العساكر من أجل طرد الصحافيين قائلا: 'لا أريد أن أرى هذه
الحشرات
والطفيليات هنا'. وكانت كاميرا القناة الثانية له بالمرصاد،
حيث وثقت هذه المهزلة
بالصوت والصورة. ولكن للدولة منطقا آخر: إنها تكرم من ينكّل بالصحافيين
والمتظاهرين
من الشباب العاطل، وتعمل على ترقيته من درجة إلى أخرى أفضل!
فما علينا، والحالة
هذه، إلا أن نردد قولة الزعيم سعد زغلول: 'مافيش فايدة غطيني يا صفية!'
سباق
الحمير وجمالها!
أمام سخافة المشهد السياسي في المغرب، ولمواجهة حمى
المهرجانات الفنية التي انتشرت في جل أقاليم المملكة، ارتأى الصحافي
والإعلامي
المغربي محمد بلمو أن يسخر بطريقته الخاصة من كل هذه الأوضاع
التي وسمناها آنفا
بالتراجيكوميدية، فابتكر مهرجانا خاصا بالحمير (شرّف الله قدركم) في قرية
صغيرة
قريبة توجد بضواحي مدينة مكناس اسمــها 'بني عمار'، وأحدث جائزة لأجمل حمار
وأخرى
لأسرع حمار. ونظم ندوة فكريةô
رصينة حول الحمار.
بعض الفضائيات العربية غطت هذا
المهرجان الفريد من نوعه، من بينها 'إم بي سي' و'الجزيرة'،
بينما غابت عنه القنوات
التلفزيونية المغربية، حتى لا تُتهم (على ما يبدو) بمساندتها المطلقة للحزب
الديمقراطي الحاكم في أمريكا والذي يتخذ من هذا الحيوان رمزا لهم.
وربما بفضل
مهرجان 'بني عمار'، تمكن الحمار لأول مرة من أن يقتحم القناة القطرية، وأن
يطلق
عقيرته بالنهيق في نشرتها الإخبارية، حيث خصصت له ثلاث دقائق لتعداد
'مناقبه'
و'نصرته' و'إعادة الاعتبار له' (والتعبيرات كلها لمراسل 'الجزيرة' في
المغرب).
الطريف أيضا أن من بين المتسابقين في المهرجان حمارا أطلق عليه صاحبه
اسم 'بوش'،
لكنه لم يفز بأية جائزة (اللهم لا شماتة!).
كاتب صحافي من
المغرب
tahartouil@hotmail.com
القدس العربي في
28/07/2009 |