الخليج في
مهرجان برلين
السينمائي الدولي (6)
أعمال “البانوراما” لا تقل عن مستوى
المشاركة في المسابقة
أفلام تحلّق وحيدة و”لبناني” يقود عصابة
إيطالية
برلين محمد رضا:
“العالم
الجديد” للمخرج ترنس مالك كان خيبة أمل كبيرة.
إنه فيلم
يحلّق في رمزيات وإيحاءات عبر مشاهد للسحب وللسماء البعيدة ولمياه الأنهر
والبحار... وهناك لقطة لعنكب كبير متوجه لقضاء حاجة ما على أرض الغابة. لكن
القصة ذاتها غير مضبوطة بيد قوية. وأسوأ ما في الفيلم تمثيل بطله كولين
فارل وعدم رغبة المخرج في توجيهه على نحو كان يمكن أن يحسّن من الفيلم
بأسره. قصة الأميرة الهندية بوكاهونتاس التي وقعت في حب الكابتن الإنجليزي
جون سميث (فارل) ومن أجله نزحت عن قبيلتها وحين هاجم الرجل الأبيض،
والحكاية تقع في القرن السابع عشر، القبيلة وأباد عدداً كبيراً من
أفرادها..
كما فعل
مع قبائل هندية كثيرة أخرى، رضيت بأن تعيش في كنف الرجل الأبيض وتتعلم
حياته وعاداته. بعد أن يبلغها موت زوجها تتزوج من سواه وتنتقل الأحداث بعد
ذلك الى بريطانيا ثم يعود زوجها الأول من الموت المفترض. ربما كان هناك شيء
ما جيد في هذه القصة لكنه ضاع وسط غياهب الفكرة بكل تأكيد. المشاهد التي
كان يمكن لها أن تحدد للفيلم وجهة أساسية وأن تساعده في تحديد مساره وتحقيق
نتائج فنية أعلى يمر المخرج عليها بكل يسر وبأقل مما يجب من اهتمام ما يبقي
الفيلم مثل مركب في وسط البحر بلا دفة قيادة.
ولا يمكن
اختصار سوء أداء كولين فارل بكلمة. لا تسمع ما يهمس به وإذا فعلت لا تفهم
ما يقول. وإذا فهمت ما يقول يصدّك ذلك التمثيل الداخلي من التمثيل وهو
أسلوب لا يعني شيئاً وفي رأيي يقدم عليه من يفتقدون القدرة على صياغة
الشخصية على نحو صحيح.
خيبة أمل
أخرى، وإن لم تكن بحجم السابقة لأن المرء توقعها، كانت من نصيب الفيلم
الصيني تشن كايجني “الوعد”.
من بعد أن
شاهدنا نزوح جيل الثمانينات من المخرجين الصينيين من موقع النقد الاجتماعي
والحكايات الاجتماعية الآسرة الى سينما الفانتازيا القائمة على مغامرات
ومعارك في رحى الصين القديم يواصل المخرج كايجي هذا الطريق بفيلم يتحدّث عن
أميرة تحب منقذ حياتها غير مدركة أنه ليس ذلك القائد الذي يدّعي أنه فعل
ذلك، بل عبده القادم “من بلاد الثلج” الذي كان يرتدي ملابسه وقناعه. والخط
الذي يبدأ من كيف ولماذا ارتدى العبد ملابس قائده الى متى وكيف ستكتشف
الأميرة الحقيقة خط مليء بالتفاصيل الخيالية. مرة أخرى نشهد خيالاً جانحاً
يبرز فوق وأمام الاهتمام الفني الخالص. بذلك “الوعد” سواء أخرجه كايجي
المشهود له بأفلامه الخلاّبة في الثمانينات ام لا، لا يختلف عن عمل أي مخرج
من مخرجي أفلام الكونغ فو الصينية في هونج كونج التجارية باستثناء أنه متاح
له التمتع بميزانية لا يتمتع بها سواه. الفيلم قد يثير الذين أعجبهم، في
السنوات القليلة الماضية، “منزل الخناجر الطائرة”، لكن لمن يبحث عن سبب
لقصة وليس عن قصة فقط، هذا الفيلم مخيب جداً للآمال ولا يحمل عمقاً في أي
صعيد.
بعض
المشاهد ستبدو كما لو كانت أفكاراً نيّرة، مثل المشهد الذي يربط فيه بطل
الفيلم الذي يستطيع أن يركض بسرعة الضوء، الأميرة بحبل ويطيّرها مثل طائرة
الورق. لكن ذلك إذا لم يكن مصاحباً بقيمة او بخطاب او ببعد ما لا يبدو سوى
ضحك على الذقون في أحسن أحواله.
العراب
اللبناني
الممثل
السابق ميشيل بلاسيدو قدّم من إخراجه ملحمة جانجستر قائمة على قصة حقيقية
تتأرجح في نصف الساعة الأولى بين التقليدية والأهمية قبل أن تقلع بنجاح
للساعتين التاليتين. القصة الحقيقية لمجموعة من الأولاد الذين عمدوا الى
حياة الجريمة حين كانوا صغاراً. حين كبروا وخرجوا من الإصلاحية يقررون
القيام بحرب عصابات ضد العصابات المسيطرة على تجارة المخدرات وسوق العاهرات
في روما ما يستعدي عليهم العصابات الأخرى، لكن أبطال الفيلم من الأشرار
كانوا مستعدين وبقدرة كبيرة على الجريمة تخلصوا من أعدائهم عن طريق عمليات
تصفية.
بعد
استلام زمام الأمور يبدأ الخلاف يدب بينهم عندما يتعامل أحدهم، ولقبه
“اللبناني” مع الجيش الأحمر في عمليات إرهابية. صديق طفولته (ولقبه “ثلج”)
ينفصل عنه. بعد قليل يقتل “اللبناني” ويعود “ثلج” الى الساحة باحثاً عن
القاتل ليقتنص منه. عمليات تصفية أخرى ويجد “ثلج” نفسه في السجن. آندي هو
الزعيم الثالث الذي لا يزال حرّاً ويساعد “ثلج” على الهرب للقاء حبيبته
والرحيل بعيداً عن ايطاليا. هذا ما يقع بالفعل قبل أن يكتشف “ثلج” أن
الحقنة التي تلقّاها والتي كان من المفترض بها أن تجعله مريضاً لبضعة أيام
ينقل فيها الى مستشفى السجن ليهرب من هناك، تحتوي على دم فاسد بهدف قتله
فعلاً. يعود الى روما حيث تقع بينه وبين أصدقاء الأمس معارك جديدة. لا أحد
يبقى حيّاً من هؤلاء وبذلك ينتهي الفصل الدموي الذي اختاره المخرج موضوعاً
لفيلمه.
“رواية
جريمة”، وهو عنوان هذا الفيلم يشابه “العرّاب” من حيث لون إنتاجه وسلسلة
التصفيات التي تقع، لكنه لا يماثله فنا وإخراجاً. على ذلك، ورغم أنه من
المستبعد أن يصل الى مستوى الجوائز، الا أنه من أفضل ما حققته السينما
الإيطالية في مجال سينما الأحداث السياسية - الاجتماعية الواقعية منذ بضع
سنوات.
في قسم
البانوراما الذي تجد فيه أفلاماً لا تقل جودة عن تلك الموجودة في المسابقة،
لكنها لم تستطع الالتحاق به لسبب او لآخر، وجدنا فيلماً جيّداً بعنوان
“الجابي”. إنه فيلم للمخرج البولندي فيلكس فولك الأول منذ عشر سنوات.
واستقبل الفيلم جيّداً من النقاد البولنديين ومؤسسات البلد الثقافية
والفنية وأرسل الى الولايات المتحدة مُرشّحاً لأوسكار أفضل فيلم أجنبي. ليس
أفضل ما خرج من سينما كانت يوماً أكثر احتفاء بمخرجيها مما هي اليوم، لكنه
يحمل في طيّاته بعض سمات سينما مضت كان فيها النقد الاجتماعي أساساً تنجزه
السينما البولندية من تحت رادار الرقيب أحياناً او بمعرفته.
لوسيك
(أندريه شيرا) جابي أموال الدولة من كل متأخر بالدفع سواء أكان مؤسسة خاصة
أم عامة او حتى فرداً. المحكمة تعطيه قائمة، وهو يلفّ على كل من فيها لكي
يسوّي أمورها على نحو عادة ما ينتهي لمصلحة الحكومة. إنه مُهاب ومكروه
والكثيرون يكنون له عداوة كبيرة. عمله ليس هيّناً وهو يعرف ذلك لكنه يمارسه
بحزم معتبراً أنه منفّذ أوامر السلطة القضائية والحكومة ولا خطر عليه من كل
ذلك. لكن حين يسحب هذا الغطاء عنه يتحوّل الى شخص مطارد من الطرفين معاً.
الفيلم هو عن ذلك الشاب الذي خانته بيروقراطية المؤسسة وتنكّر له أصدقاؤه
وساعدت ظروفه الخاصة، من علاقات نسائية مع متزوّجات بعلم أزواجهن، على حفر
المزيد من الفخ المنصوب له.
في نصف
الساعة الأولى نتعرّف الى لوسيك وعمله. إنه شخص يمارس عمله بقدر عال من
المهارة وبأقصى قدر من الموضوعية وباله مرتاح. إنه يعلم أن بعض من يغزوهم
في منازلهم معذورون، لا يملكون ما يدفعونه من مستحقات أو ضرائب، لكنه يعلم
أيضاً أنه لا يستطيع أن يكون عاطفياً مع الوضع أو أن يسمح لنفسه بتمييز
فريق على آخر. مبدؤه في العمل هو أن عليه أن ينفّذ ما يقوم به من دون شعور،
أن يبقى فوق القضية وليس تحتها. بعد مرور ذلك التجسيد لشخصيته، نبدأ
بملاحظة الحقيقة المتمثّلة في طينته: داخلياً يدرك لوسيك أن المسألة مسألة
وقت قبل أن يتعرّض لموقف لا يستطيع إغلاق مشاعره دونه. إنه ينتمي الى ظرف
وبيئة ومجتمع كضحاياه. وحين يحدث ذلك النفاذ الى داخله يتغيّر حتى وقع
الفيلم. فما سبق يضعنا أمام استقبال لحالة تشبه وميض ضوء لا نتبيّنه. حال
يجد لوسيك نفسه غير قادر على ممارسة ذلك التوازن والحفاظ على مسافة بينه
وبين الأشياء يصبح الفيلم أكثر إثارة لناحية كيف سيعالج بطل الفيلم هذا
التغيّر الذي أصابه وما الذي سيحدث له تبعاً لذلك التغيّر. كيف سيتحوّل من
سلاح السلطة الى ضحيّتها وكيف سيدافع عن نفسه ضد الذين يودون الانتقام منه
لأفعاله السابقة.
####
الخليج في
مهرجان برلين
السينمائي الدولي (6)..(1)
همسات
برلين
محمد رضا
* كم
يوماً أمضى المخرج الأمريكي روبرت ألتمان في برلين؟
يوماً
واحداً. المخرج الذي يبلغ من العمر 80 سنة عاد الى لندن لتوّه لارتباطه
بعمل مسرحي يخرجه هناك.
المهرجان
راض جداً عن الحصيلة التجارية للسوق السينمائي المقام على هامشه ويتحدث عن
أن الشركات التي يربو عددها عن المائتين حجزت للعودة في العام المقبل ما
يعني أنها كانت سعيدة بتجربتها هذا العام. من بين الموزعين الذين حضروا
المهرجان سليم رميا الذي يشتري لمنطقة الخليج والشرق الأوسط ومركزه دبي.
ويوافق قائلاً: “جئت الى مهرجان برلين من قبل مرة واحدة ولم أتحمّس كثيراً،
لكني قررت العودة هذا العام وهذا القرار كان صحيحاً. نستطيع القول إن
السوق هنا يمكن له أن يمثّل دعامة رئيسية ما بين سوق الفيلم الأمريكي وسوق
مهرجان “كان” المقبل”.
* أحد
الأفلام التي روجت في السوق “أو أس أس 117”، وهو “لطش” واضح من أفلام جيمس
بوند وشخصيته.
ليست
المرة الأولى، لكنها المرة الأولى منذ سنوات بعيدة التي يجري فيها إطلاق
شخصية جاسوسية جديدة من النمط نفسه. التصوير تم في المغرب.
* هناك
الكثير من الأفلام التاريخية تتسلل الى الأسواق من بينها فيلم بعنوان
“المغول” الذي باع لعدّة أسواق عالمية. هناك أيضاً فيلم عن “جنكيز خان” جاء
المنتجون هنا يحاولون بيعه قبل إنجازه وفيلم كونج فو وفنون قتال شرقية أخرى
تقع أحداثه في الصين في القرن التاسع عشر بعنوان “قصة صينية طويلة”. ورابع
عنوانه “وادي الزهور”.
بعد
النجاح الكبير الذي حققه الفيلم الألماني “السقوط”، الذي قدّم الساعات
الأخيرة من حياة هتلر على نحو غير مشهود لا ينمّطه ولا يناصبه العداء على
نحو تقليدي، يسعى صانعو الفيلم لتحقيق عمل جديد آخر عن “فصيل الجيش الأحمر”
او ما هو معروف بعصبة “بادر مانهوف”. كان مهرجان برلين قدّم فيلماً مضجراً
عن الموضوع قبل نحو خمس سنوات لم يبلغ شأنا بعيداً، لكن مخرج “السقوط”،
برند أيشلنجر يعد بأن فيلمه سيكون أهم عمل سينمائي أنجز عن ذلك الفصيل
الثوري. ويقول ل”الخليج” في لقاء قصير: “بادر ماينهوف فصل بالغ الأهمية في
التاريخ السياسي لألمانيا ويحتاج الى فيلم يظهر ذلك من دون موقف مسبق يقوم
على النقد المطلق. سأعالجه كما عالجت قصة حياة هتلر: إنها هناك لنأخذ منها
دروساً ونفهم دوافعها ووقائعها وليس فقط لنبيّن فداحة ما قامت به”.
####
الخليج في
مهرجان برلين
السينمائي الدولي (6)..(2)
المفكرة
..
قواعد جديدة
*أطلق
المخرج لارس فون تراير، صاحب أفلام أثارت الإعجاب الكبير مثل “راقصة في
الظلام” و”دوجفيل” و”ماندرلاي” ونحو 25 فيلماً آخر من إخراجه او إنتاجه،
“فرماناً” جديداً او بالأحرى “فرمانين”. وقال المخرج إنه لن ينجز أفلاماً
كبيرة بعناصرها الإنتاجية. ولن يشترك في المهرجانات الدولية الكبيرة.
الخسارة
خسارته في القرار الثاني. وهو بالفعل آثر، ولأول مرة، الاشتراك بفيلمه
الجديد “سيد كل شيء” في مهرجان كوبنهاجن الذي انطلق في سبتمبر/ ايلول العام
الماضي عوض الاشتراك به في مهرجان فانيسيا او برلين.
أما
بالنسبة للميزانية وضرورة كبحها كما يرى فإن ذلك هيّن عليه: إنها -غالباً-
مكبوحة. هل نعتقد أن “دوجفيل” تكلّف أكثر من ثمن الطبشور الأبيض الذي
استعان به ليحل محل الديكور في المكان الواحد؟... بالأبيض والأسود؟
“ماندرلاي” أيضاً بالأسلوب المتقشّف ذاته ولو أن هذا الأسلوب نابع من تصوّر
المخرج لما هو فني: الاستغناء عن لوازم السينما وتصوير الأفلام كما لو أنها
مسرحيات. بذلك كسر قواعد السينما وبناء قواعد مستوحاة من فنون أخرى بينها
فن إيهام الوسط النقدي بأن ما يحققه هو فعل رائع لابد من الإعجاب به لأنه
مختلف.
وكان لارس
فون تراير أطلق قبل أكثر من عشر سنوات، هو ومجموعة من أترابه الاسكندنافيين،
قوانين “الدوجما” التي صفّق لها وحيّاها معظم النقاد الأوروبيين لكنها لم
تنطلِ على هذا الناقد لأنها أرادت الاستغناء عن قواعد سينمائية أخرى وإحلال
بديل لها كما لو أن البديل هو أفضل شأناً. بعد عشر سنوات تقريباً من إطلاق
تلك “الفتوى” السينمائية والظهور بها كما لو كانت ثورة حقيقية، أين هي
الآن؟ والفشل من نصيب لجوء آخر الى مبدأ مختلف تم قبل ثلاثة أسابيع في
الولايات المتحدة. المخرج ستيفن سودربيرج (“أوشن 11”) لديه فيلم صغير جديد
اسمه “فقاعة” أراد إطلاقه سينما “ودي.في.دي” وفيديو في آن واحد. وحين عكست
إيراداته السينمائية ضعفاً ظاهراً توقع المخرج وموزّعوه أن ترفع السوق
الثانية من تلك الإيرادات. لكنها لم تفعل: الفيلم سقط سينما “ودي.في.دي” في
وقت واحد. ترى أين المفاد؟
هناك مثل
إنجليزي يقول: “إذا لم يكن الأمر معطوباً لا تصلّحه” وربما يتذكر الذين
يلعبون بالقواعد الإنتاجية والإخراجية والتوزيعية هذا المثل. لا التجديد
ولا الاختلاف له علاقة بالإبداع.
|