مشاركة شرفية في مهرجان برلين ورسمية في
كان
"عمارة يعقوبيان" البناية في
الرواية والرواية في الشريط السينمائي
حمدي رزق
لعل إحدى
السمات الحاكمة للحركة الأدبية في مصر ـ وعموم البلدان العربية ـ كون
الأعمال الأدبية تصدر في صمت وبكثرة في آن. الأصوات الأدبية من الأجيال
كافة تتسارع وتيرة إصداراتها من دون أن تصحبها حفاوة، أو يصادفها حنين خاص،
أو يواكبها نقد حقيقي، حتى صار من الأقوال المعروفة أن على الروائيين نشر
إعلان مبوب يقول "مطلوب نقاد أدبيون"!
ربما لهذا
السبب تبرز رواية "عمارة يعقوبيان" للقاص والروائي ـ طبيب الاسنان ـ المصري
"علاء الأسواني"، كنتوء خاص واستثنائي في دنيا الرواية المصرية في السنوات
الأخيرة. فالرواية التي صدرت في أواخر العام 2000 لأول مرة، لاقت حفاوة
نقدية لافتة، واحتضانا موفورا من القراء في مصر والعالم العربي، وحظيت
بنسبة قراءة لم تحظ بها رواية مصرية، منذ أصدر شيخ الرواية العربية "نجيب
محفوظ" روايته (قشتمر) في العام 1987 ، والتي أتبعها بطائفة من المجموعات
القصصية والأعمال الذاتية و"أحلام النقاهة" وغيرها..
صارت
"عمارة يعقوبيان" إذن "حالة خاصة"، تشكل لغزا في عالم "التعدد الغزير"
للأصوات الروائية المصرية، بعدما حظيت بقدر كبير من الاحتفاء ألحق بالعمارة
وهجاً إضافياً، جعلها حالة أدبية وفنية أكثر لفتاً للأنظار ..
فالرواية
المهمة استحالت شريطاً سينمائياً مهماً، وإن كانت الرواية شهدت، ولا تزال،
حفاوة نقدية بالغة، فإن الشريط السينمائي شهد حفاوة مماثلة، إن لم تكن
أضخم، قبل أن تدور كاميرا مخرجه الشاب "مروان حامد"، لتصور أول مشهد منه.
واستمر احتفاء الرأي العام والإعلام بالشريط خلال تصويره، ووصلت الحفاوة
أوجها بعد اكتمال التصوير وانتهاء إجراء العمليات الفنية على الشريط ـ
كالمونتاج والمكساج ـ حيث اختارت إدارة مهرجان "برلين" (أحد أهم المهرجانات
السينمائية الدولية) "عمارة يعقوبيان" لكي يعرض في أحد أقسام المهرجان
(خارج المسابقة)، فيما استقر مهرجان "كان" الفرنسي الدولي ـ الأشهر ـ على
"عمارة يعقوبيان"، ليعرض به، وربما يواصل هذا العمل صعوده فيعرض في
المسابقة الرسمية لـ"كان"، وما من مانع دون هذا، لأن الشريط لن يدخل مسابقة
برلين ما يعني أنه يحق له دخول مسابقة "كان"!
اعتبارات
كثيرة وتفاصيل أكثر جعلت "عمارة يعقوبيان" ـ الرواية والشريط السينمائي ـ
حالة إبداعية فريدة، جددت الثقة لدى عدد كبير من الأصوات الأدبية في مصر،
في أن ثمة أملا في أن تأخذ أعمالهم حقها وتحوز مكانتها، بعد أن كانوا فقدوا
الثقة بالنقاد والقراء جميعا ! فلم تعد "عمارة يعقوبيان" حالة روائية وحسب
ولا حالة سينمائية فقط، وإنما صارت حالة عامة لعمل إبداعي لقي إجماعاً
كبيراً، أهله لكي يشكل عبر وسائط فنية متعددة بالنجاح والإجماع ذاتهما! وهي
أيضاً حالة مكانية فهي تحكي قصة بناية تحمل هذا الاسم في وسط البلد بقلب
القاهرة وكيف غير الزمان فيها وبدل!
شريط
يعقوبيان
من بين
ألف شريط سينمائي من 128 جنسية مختلفة، اختارت إدارة مهرجان برلين 20 شريطا
فقط، لكي يتم عرضها في قسم "البانوراما" بالمهرجان. البانوراما هي نخبة
مختارة من 20 دولة لعدد من أفضل الأشرطة السينمائية التي أنتجت حول العالم
في العام المنصرم. من بين الأشرطة العشرين اختير فيلم "عمارة يعقوبيان"
الذي سيخرج من برلين ليدخل في فعاليات "كان" بعد ذلك بثلاثة أشهر فقط .
فعاليات برلين التي تنتهي اليوم (19 شباط ـ فبراير) أشادت في تقريرها
بالشريط قائلة في تقريرها "أنه أحد أفضل أشرطة العالم الثالث في 2005".
وأفعل
التفضيل هذا من المتلازمات المصاحبة لشريط يعقوبيان. فالشريط يضم أكبر عدد
من النجوم الذين لم يجتمعوا قط في عمل سينمائي معاً: عادل إمام ونور الشريف
ويسرا وهند صبري وسمية الخشاب وإسعاد يونس وأحمد بدير وخالد صالح وخالد
الصاوي، وتطول قائمة الممثلين لتصل إلى 160 ممثلاً مشهوراً، فضلاً عن ثلاثة
آلاف من الكومبارس. فيعقوبيان بهذا هو الشريط الأضخم مصريا في عدد ممثليه،
وهو أيضاً مكتوب بقلم السيناريست ـ الأهم ـ في جيله "وحيد حامد"، والمخرج
الأهم بين الشباب أيضا وهو "مروان حامد" (نجل وحيد حامد) .
ومن
المؤكد أن شريط "عمارة يعقوبيان" هو إلى الآن الإنتاج الأضخم. فتكلفة
الشريط بلغت 21 مليون جنيه (3 ملايين ونصف المليون من الدولارات)، وهو أكبر
رقم تمويلي في السينما المصرية والعربية إلى الآن ..
كما سيحظى
هذا الشريط برقم أكبر من الأرقام الأخرى في دور العرض (سيخصص له 80 دار عرض
في شهر تموز ـ يوليو المقبل وهو موعد عرضه ..) وهو من إنتاج شركة "جود نيوز"
التي يملكها الاعلامى المصري عماد الدين أديب ويديرها شقيقه المخرج عادل
أديب، أما التوزيع فسيكون عبر "الشركة العربية للإنتاج والتوزيع" التي
تديرها إسعاد يونس إحدى بطلات الشريط!
حكاية
"عمارة يعقوبيان" ـ الشريط السينمائي ـ بدأت بشراء الكاتب وحيد حامد حق
تحويل الرواية إلى شريط سينمائي (من مؤلفها علاء الأسواني) في نيسان ـ
إبريل 2002 ، ووضع حامد نصب عينيه، من البداية، صديقه ـ الذي طالما كتب له
السيناريوهات المهمة ـ النجم عادل إمام وأرسل له الرواية في مظروف ليقرأها
فتتابعت أحداث "يعقوبيان" حتى صار "حالة سينمائية" وحدثاً منتظراً.
يقول عادل
إمام: أعجبتني الرواية جدا لكنني لم أتصور أني سأعمل بها كشريط سينمائي،
لكن وحيد ونجله المخرج مروان أقنعاني وعرض علي وحيد السيناريو فازددت
اقتناعا، وأعجبت بكل الأدوار، وراقتني فكرة البطولة الجماعية التي لم
ألعبها منذ كنت شاباً صغيراً. ففي "عمارة يعقوبيان" سأقدم 23 مشهداً فقط،
أي نحو 30 بالمئة أو أقل من جملة الشريط وهو نفس عدد المشاهد التي سيقدمها
نور الشريف. يسرا ـ بكل نجوميتها ـ ستقدم 12 مشهدا فقط، فالجميع دخل في
حالة مزاجية قوامها التعاطف مع الرواية، التي أحدثت قبل سنوات دوياً هائلاً
في الأوساط الثقافية، وهو ما افتقدناه لفترة طويلة، فضلاً عن أن السخاء
الشديد في الإنتاج دفعنا إلى المزيد من الجهد لكي يظهر العمل في صورة
جماعية متجانسة بالفعل!
الرواية ـ
يضيف إمام ـ شيقة وجديدة على السينما، من حيث كون الرواية تربط المكان
بالزمان وتربطهما معا بالواقع، وهذا نسيج سينمائي بديع، رأيته بين سطور
رواية الأسواني حتى قبل أن يكتبها وحيد حامد كسيناريو سينمائي ألعب فيه دور
"زكي الدسوقي" صاحب البناية الذي تتجسد في حياته وأفكاره كل التغيرات
الاجتماعية التي يمر بها سكان هذه البناية .
والشريط
في الواقع واجه "تخفيفات" ومحذوفات رقابية، وكان ثمة اتفاق بيننا جميعا على
ألا نعلن ذلك في حينه، لكي لا يفهمه البعض ترويجا للشريط، بخاصة مع تكرار
هذه الشائعات مع أشرطة أخرى. عموما التخفيفات الرقابية تمت بوعي شديد، ولم
تمس نسيج الشريط ولا نسيج الرواية الأساسي. والحقيقة أن وحيد حامد كان أجرأ
من الأسواني في بعض المشاهد الجنسية وبعض مقاطع الحوار السياسية، وجملة ما
حذف ـ تماماً ـ من الشريط ثلاثة مشاهد فقط وتم تخفيف 9 مشاهد بالاتفاق
بيننا وبين الرقابة!
وسط البلد
النجم نور
الشريف يؤكد أن شريط "عمارة يعقوبيان" لا يمثل حالة سينمائية خاصة فقط
لضخامة إنتاجه أو لالتحاقه قبل عرضه بأكبر مهرجاني سينما دوليين، بل لأن
الـ 160 ممثلاً الذين سيظهرون به نجحوا في إبداع جماعي ـ بمعنى الكلمة ـ
نتيجة تعامل السيناريو مع كل الأدوار بعناية شديدة من حيث بنائها الدرامي
وتأثيرها في العمل ككل.
ويضيف
الشريف: قرأت الرواية، اشتريتها من وسط البلد حين صدرت، فتصورت نفسي أصنعها
شريطاً سينمائياً، ورأيت ذاتي في ثلاثة أدوار: دور زكي الدسوقي صاحب
العمارة الذي ذهب لعادل إمام، ودور حاتم رشيد الصحافي المثلي الذي ذهب إلى
خالد الصاوي، ودوري الذي قدمته بالفعل وهو محمد عزام، لكني تصورت الرواية
مسلسلاً ـ لما في صفحاتها من ثراء درامي يغري بحلقات طويلة درامية ـ وأن
يعرض هذا المسلسل فضائيا لما في صلب النص من المحظورات. لكن قدر لي أن أقدم
دور محمد عزام في 23 مشهدا على شريط سينمائي لا مسلسل. وعزام هذا رجل
انفتاحي وانتهازي حقق الثراء، فاكتشف أنه وحده لا يكفي فزاوج ثراءه ـ
الفاسد بالأساس ـ بالسلطة، حين ترشح لمجلس الشعب وصار برلمانياً وحزبياً
قديراً، حيث يتركز فيه الفساد المالي والسياسي معا .. وأرى هذا الدور
امتداداً لدوري في شريط "أهل القمة" الذي قدمته العام 1981 مع الراحلة
الكبيرة سعاد حسني والمخرج علي بدرخان عن قصة قصيرة لنجيب محفوظ. لكن
الفارق أن "زعتر" الذي قدمته في "أهل القمة" كان لصاً أثرياً في زمن
الانفتاح (بدءاً من 1975) ولم يطمح إلا للثراء، محتفظاً بجهله وسوء سمعته،
أما عزام فهو لص كبير ومثقف ووجيه وطموح جداً سياسياً، أي أنه استكمال لبعد
ناقص في دوري في شريط "أهل القمة".
مطلع
التسعينات
"عمارة
يعقوبيان" هو الشريط رقم 14 الذي يجمع يسرا بعادل إمام الذي تمسك بأن تشارك
يسرا في هذا الشريط، تقول يسرا: هذا دور لا يشبه أي دور قدمته من قبل
سينمائيا أو تليفزيونيا .. "كريستين" الأجنبية التي تعيش في (عمارة
يعقوبيان)، هي الشخصية الوحيدة القوية والمتزنة في الرواية وفي الشريط،
وتلعب دوراً كبيراً في حياة زكي الدسوقي ـ عادل إمام. وكريستين هذه لا تزال
حية تسكن في شقتها بعمارة يعقوبيان. ذهبت إليها في وسط البلد وجالستها
لساعات، فعشقتها، عقلها متفتح مثقفة تصالح ذاتها وتحترم ضعف الآخر وتحتويه
وتتفهمه.
وأنا في
دور مدام كريستين أرتدي الملابس والاكسسوارات التي تحاكي زمن الرواية، وهو
(مصر في مطلع التسعينات) من خلال عمارة يعقوبيان وحي وسط البلد، وهذه هي
المرة الأولى التي تتناول فيها السينما المصرية تلك الفترة الزمنية القريبة
للغاية بالدرس والتحليل، لأن السينما المصرية اعتادت، إذا حاولت تشريح
المجتمع المصري في حقبة ماضية، أن تعود إلى الوراء كثيراً. هذه المرة هي
تتأمل ماضي مصر القريب من خلال قلب القاهرة النابض في "عمارة يعقوبيان"!
كان من
الصعب على خالد الصاوي _ الممثل والمخرج المصري من جيل الوسط والذي قدم
شخصية جمال عبد الناصر من قبل على شريط سينما للمخرج أنور قوادري قبل 10
سنوات ـ أن يرفض دور الصحافي المثلي حاتم رشيد، برغم أن ممثلين عديدين
كانوا قد اعتذروا عن عدم أداء الدور، خوفا من تغيّر نظرة المجتمع لهم!
لم يخش
الصاوي شيئا من المجتمع، وأقدم على شخصية حاتم رشيد الاسم الافتراضي ـ
طبعاً ـ لصحافي كبير في الرواية. يقول: حاتم رشيد أدق شخصية قدمتها إلى
الآن من حيث تناقضاتها وتفاصيلها الصعبة، هو صحافي لامع ومثقف كبير، ينبغي
له في مجتمعنا أن يكون رجلا كامل الذكورة فيما هو يملك ميولا وممارسات
مثلية، فكيف له أن يحل هذه الإشكالية ؟
أنا أرفض
مبدأ رفض أي دور لمجرد نفور المجتمع منه، فمن حقي كممثل لعب أي دور أراه
جيدا ويفيدني ويفيد الجمهور، ومن حق الجمهور أن يوسعني انتقادا إذا أراد،
كما أرفض إنكار فئة موجودة في كل المجتمعات لا في مجتمعنا وحسب، لأنها إذا
أنكرت فلن تنتهي أو تندثر، ومعالجتها سينمائيا تكفل حوارا مثمرا عن أمور
مسكوت عنها في مجتمعاتنا الشرقية، وهذا هو دور السينما: إحداث حراك وحوار
حتى ولو بتقديم أدوار صادمة للوعي التقليدي. وشريط "عمارة يعقوبيان" كله
سيسهم في جر المجتمع إلى حوار راق حول التغيرات التي اجتاحت مصر في الأعوام
العشرين الماضية اقتصاديا واجتماعيا وسياسياً، وربما يكون حلقة أولى في
سلسلة أشرطة جادة ـ تحاكي حالته ـ ويكون لها دور حقيقي في الثقافة المصرية
وتحريك المجتمع بصورة إيجابية!
بناء
سينمائي
أعاد
السيناريست الكبير "وحيد حامد" بناء عمارة علاء الأسواني سينمائيا على
الورق ثم دفع بها لنجله مروان المخرج لكي يعطيها رؤيتها وصورتها النهائية.
وحيد كان اعتزم إنتاج الرواية شريطا سينمائيا لكنه تراجع عن ذلك فذهبت إلى
"جود نيوز" واكتفى بأجره ككاتب.
يقول ماذا
أصنع؟ لا أملك كل هذه التكاليف الضخمة التي يحتاج إليها شريط "عمارة
يعقوبيان"!، الحق أني فتنت بالرواية، وقررت إيصالها لأكبر قطاع من الناس.
صحيح أن الرواية حققت مبيعات كبيرة، وطبعت خمس طبعات، لكن مهما يكن من
الأمر فإن جمهور السينما أكبر حجما مئة مرة من جمهور الرواية في العالم
العربي حتى ولو كان كاتبها نجيب محفوظ. ولذلك ؛ حافظت ما استطعت على جوهر
الرواية وروحها، ولكني لم أقدمها كما هي تماماً. فلي رؤية أطلت علي من بين
سطور الرواية ولولا ذلك لم أقدمت أصلا على تحويلها إلى سيناريو .
الجنس
الذي في الرواية أراه جنساً سياسياً إن جاز التعبير، وقد حافظت عليه في هذا
الإطار سينمائياً، ولم يكن ممكنا استبعاد العنصر الجنسي من الشريط لأنه
داخل في صلب تكوين الرواية ومعمارها شديد التركيب الذي يصعب العبث فيه! بعد
ذلك تركت لمروان كل شيء، فأنا أتعاطى معه كمخرج وأنسى تماما روابط الأبوة
في العمل، والعبء كان عليه ثقيلا في هذا الشريط، والحكم النهائي على قدرات
مروان في هذا الشريط سيكون للجمهور والنقاد، أما رأيي الخاص بمروان كمخرج
فاحتفظ به لذاتي!
وعلى
العكس، يرى مروان حامد أن وجود كبار النجوم في هذا الشريط ـ الذي يعد أول
شريط سينمائي تجاري له ـ ساعده ولم يشكل له هاجسا . يقول: خبرة النجوم
الكبار أمام الكاميرا اختصرت وقتا كبيرا وجاوزت صعوبات كثيرة توقعتها ولم
تحدث. هذه الخبرة جعلتنا نلتقي بسهولة، وأنا منذ البداية كنت مصراً، حين
ناقشت السيناريو مع النجم 7-7-عادل إمام 7-7- ومع كاتب السيناريو والدي
وحيد حامد أن يكون كل الممثلين في الشريط أبطالا لأن هذه هي روح الرواية
ذاتها. فأنا عندما قرأتها وجدت البشر فيها أقرب إلى عناصر داخلة في التكوين
البنائي لعمارة يعقوبيان ذاتها، لا يتفوق أحدهم على الآخرين، وليس ثمة ملاك
منفرد بين الشياطين، جميعهم لحم ودم ملتحمان بالمكان، والمكان ملتحم
بتغيرات الزمان، وبالتالي فجميعهم بالضرورة أبطال! وأنا اشتغلت على الرواية
سنتين من دون الجلوس مع كاتبها علاء الأسواني. فوحيد حامد جلس إليه طويلا
واستخلصت رؤيتي منه كسيناريست ثم عدت بعد ذلك كله لأتناقش و علاء الأسواني
.
عمارة
الشواذ
بدت رواية
"عمارة يعقوبيان" حالة روائية خاصة منذ صدورها! فالبناية التي تحمل هذا
الاسم لاتزال قائمة في شارع طلعت حرب بقلب حي وسط البلد. أخيرا التفت إليها
المارة وتفحصوا لافتتها مندهشين، كيف لم يلتفتوا إليها كل هذه العقود ؟!
ونظر إليها البعض ممتعضين وسألوا بوابها الأسمر ذا الأصل الصعيدي : هل هذه
عمارة الشواذ ؟!
أعادت
الرواية المكان إلى الصدارة، تفاصيل حميمية ربطت قارئها بأجواء وسط البلد،
ذلك "الكوكتيل" ذي العناصر المتنافرة، الذي يجمع المثقفين بأصحاب محال
الأحذية والحقائب، وبراءة المراهقين بجرأة شاشات السينما التي تملأ شوارع
الحي، الفترينات الزجاجية وأضواء النيون الصاخبة، الملتحمة ببنايات عتيقة
من طرز أوروبية تنتمي للقرن التاسع عشر، المقاهي التي لجأ إليها المثقفون
حُصُوناً أخيرة يخبئون ذكرياتهم تحت كراسيها القديمة، ومطاعم الوجبات
السريعة الأميركية والإيطالية، قلب القاهرة الذي تركزت فيه كل المتغيرات،
"وعمارة يعقوبيان" في قلب القلب، شعرة دموية صغيرة منه معبأة بكل صنوف
البشر!
أكثر من
أربعمئة صفحة دارت بها المطبعة لتخرج رواية كبيرة الحجم اسمها "عمارة
يعقوبيان" عن مصر التسعينيات. جاءت الرواية مفاجئة فتقنية السرد فيها جاءت
كنفحة محفوظية اختفت طويلا تحت وطأة مدفعية الأصوات الأدبية الأحدث، تلك
الأصوات التي تنظر إلى داخلها لا إلى المجتمع من خلال ذاتها .. أصوات ترى
في ذاتها كونا بأسره، مغلقا على نفسه ..وربما يكون الجميع بداخله، وفي مثل
هذا الجنس الأدبي لا محل على الإطلاق للآخرين، ناهيك عن سرد تفصيلة واحدة
من حياة شخص آخر .
أفسحت
الرواية مكانا لسردية غائبة، في ثياب جديدة وتقنية تشبه إلى حد ما المدونات
الشخصية وتنزلق قليلا نحو "أدب الاعتراف" وينحت صاحبها "(علاء الأسواني)"
لغته الخاصة ومشروعه الجمالي شديد الخصوصية غير عابئ بالآخر الذي ينتظره
ليطبق نظريات النقد في عصر ما بعد الحداثة على سطوره!
هاجمه
كثيرون وسانده كثيرون، وحتى أقسى من هاجموه ـ وهو الناقد الكبير فاروق
عبدالقادر ـ لم يهبط بتوزيع الرواية بل ربما كان هجومه الحاد عليها سببا في
رفع توزيعها. ولولا هجوم فاروق عبدالقادر أيضا على "نيران صديقة" ـ
المجموعة القصصية لعلاء الأسواني التي أصدرها بعد "عمارةيعقوبيان" ـ لما
انتبه إليها الكثيرون!
إذن
فـ"عمارة يعقوبيان" بحجمها وتقنيتها ولغتها مثّلت حالة روائية مغايرة
للسائد، واستمدت المزيد من رونقها مع وجود الشاهد الأساسي على شخوصها، وهو
العمارة ذاتها، قائما في مكانه بشارع طلعت حرب إلى اليوم!
الكاتب
والروائي علاء الأسواني: يقول كتبت الرواية في ثلاث سنوات، ولم أكن أتصور
أنها ستكون الأعلى مبيعا في مصر والعالم العربي أو أنها ستكتب عنها 115
دراسة نقدية في المجلات والصحف والدوريات الثقافية، وكان كل أملي منها أن
أخرج فيها مشروعي الكبير، الناس والمكان في عمارة يعقوبيان التي عشت فيها
سنوات طويلة من حياتي، ولا تزال عيادتي ـ كطبيب أسنان ـ في طابقها الأخير!
وكون هذا
العمل الذي اعتبره ركيزتي الأساسية أدبيا إلى الآن، يتحول إلى عمل سينمائي
فإن هذا نجاح أكبر له .. كونه سينتقل إلى أولئك الذين يفضلون أن يقرأوا
الروايات في ظلام دور العرض كأشرطة سينمائية. إنهم الملايين من البشر، في
مجتمع تنخفض فيه نسبة القراءة الأدبية .. وأنا أفهم جيدا ذلك الفارق الضخم
بين السينما ـ كلغة بصرية حوارية بالأساس ـ وبين لغة الرواية التي أسميها
ما وراء البصرية. فأنت هنا تبصر بعقلك، وتتصور بخيالك ما وراء السطور، من
خلال مفردات وتراكيب اللغة، والتكوين المعماري لفن الرواية ذاته!
لست قلقا
على الرواية كشريط سينمائي، فجيلي تعلم من شيخنا نجيب محفوظ أن الروائي
مسؤول عن نصه المطبوع، وليس مسؤولاً عن النص السينمائي، وأتمنى أن يظل الجو
الأساسي وتبقى الرسالة التي بالرواية كما هي ولا تهمني التفاصيل، ولا أحب
أن أرى الشريط السينمائي يحول الرواية في اتجاه لم يخطر على قلمي وأنا
أكتب، وحرصت على عدم قراءة السيناريو مفضلا أن أشاهده مع المتفرجين في دور
العرض .
ويضيف
الأسواني "عمارة يعقوبيان" وتلك شهادة أسجلها على ذاتي، ستظل سطري الأساسي
مهما دونت بعدها، ليس فقط من منطق الاعتزاز بها أو الامتنان لها ـ وإن كانت
هي التي أطلقتني في الساحة بصورة حقيقية ونشرت اسمي على مساحات عريضة ـ
ولكن من حيث كونها تحمل في تفاصيلها كل ما رأيته وسمعته ـ وحتى ما توهمته ـ
في "وسط البلد" في العقدين الماضيين، وهذا ـ بلا مبالغة _ لحمي ودمي، في
هذا المكان جرى تكويني وهو ما كتبته سطورا روائية حازت النجاح. فأنا، في
"عمارة يعقوبيان" سأظل أرى ذاتي والآخرين، والمجتمع الذي كان في الماضي
وذلك الذي سيكون في المستقبل، ذلك المجتمع الذي كنت ولا أزال أرى تناقضاته
واضحة تحت أضواء أعمدة الكهرباء في وسط البلد!
|