الرقابة السينمائية بين «المسيح» و«نوح»..
لكل نبي معيار سياسي
كتب: صفاء سرور
اقتربت أزمة فيلم «نوح» للمخرج دارن أرنوفسكي من الحل، حسبما تفيد
أنباء نُسب بعضها إلى مصادر داخل الرقابة عن «صدور قرار بالموافقة
على العرض»، وذلك بعد جدل بين الأزهر والرقابة حول الفيلم الذي
تتواصل عروضه في مختلف دول العالم وأخرها فرنسا وإيطاليا يومي 9
و10 أبريل، حسبما أعلن موقعه الرسمي الذي أشار في وقت سابق إلى أن
موعد عرضه في مصر هو 26 مارس الماضي.
صمت الرقابة طيلة الشهر الماضي ومطالبة «الأزهر» ووزارة الأوقاف
بمنع عرض «نوح» محليًا «لحرمة تجسيد الأنبياء»، دفعا شركة «بارامونت
بيكتشرز» منتجة الفيلم للإعلان في 31 مارس الماضي عن توقعها رفض
الرقابة المصرية له، على الرغم من محاولات جهات بينها «جبهة
الإبداع المصري» ولجنتي السينما والمسرح بوزارة الثقافة، الضغط
لإخراج الفيلم للنور.
أكدت وزارة الثقافة، الجهة التي تتبعها الرقابة، في وقت سابق،
احترامها لفتاوى وآراء الأزهر «غير الملزمة»، فيما لم يرد الدكتور
أحمد عواض، رئيس هيئة الرقابة على المصنفات الفنية، على مكالمة
«المصري اليوم» لمعرفة إجازة أو رفض «نوح»، الذي أثار جدلاً امتد
إلى المواقع الافتراضية «فيسبوك، وتويتر» التي تساءل بعض مرتاديها
عن أسباب منع الفيلم في دولة عرضت من قبل فيلم «آلام المسيح»، وفي
زمن «التورنت».
يُثير «نوح»، بعيدًا عن عرضه أو منعه، جدلاً حول قضية أخرى تتعلق
بالرقابة السينمائية في مصر، ومعاييرها لإجازة أو رفض الأعمال
الفنية، وحالات وأسباب تدخل جهات غير مختصة فنيًا في عملها.
رقابة دينية
تشير وقائع سابقة بعشرات الأعوام على فيلم «نوح»، ذكرتها الرئيسة
السابقة للرقابة اعتدال ممتاز في كتابها «مذكرات رقيبة سينما»،
الذي يؤرخ لفترة عملها بالجهاز التي انتهت قرب نهاية السبعينيات ،
إلى اهتمام الرقابة وأحيانًا التزامها، بتحفظات السلطتين السياسية
والدينية على العمل الفني، وذلك منذ أن كانت الرقابة تابعة لوزارة
الداخلية في العهد الملكي، وبعد انتقالها عقب ثورة 1952 لتبعية
وزارة الإرشاد القومي «الثقافة»، لدرجة اتخاذها قرارات بمنع أعمال
جيدة، استجابة لاعتراضات سياسية ودينية.
وحرصت الرقابة على التأكد من رضا الأزهر والكنيسة عن الأعمال
الفنية التي تتعرض لأحداث أو شخصيات دينية، وحدث أن منع اعتراض
«الأزهر» في السبعينيات ظهور الإمام الحسين والسيدة زينب في
مسرحيتي عبدالرحمن الشرقاوي «الحسين ثائرًا» و«الحسين شهيدًا»
واللتين قرأ نسختيهما قبل الرقابة ولم تنفذا، كما اعترض في
العشرينيات على تجسيد النبي محمد على الشاشة ظهور فيلم عن حياته
كان مقررًا أن يؤدي دور البطولة فيه يوسف وهبي، ولم ينفذ.
وتسببت الكنيسة في منع عرض أفلام، مثلما حدث عام للفيلم الإيطالي
«زوجة القسيس» للمخرج دينو ريسي 1971، الذي رفعته الرقابة من دور
العرض السينمائية، لتناوله زواج القساوسة، وبينما نجح حديثًا فيلم
«بحب السيما» لأسامة فوزي 2004 في تجاوز الاعتراضات والوصول لدور
العرض السينمائي، اعترضت الكنيسة على أفلام أخرى مثل «شفرة دافنشي»
لرون هاورد 2006، كما طالبت الرقابة بمنع عرض الفيلم الإسباني
«أجورا» لأليخاندرو امينابر، في ختام مهرجان الفيلم الأوروبي 2009،
لأنه «يمس العقيدة المسيحية».
وواصلت المؤسسستان الاعتراض على أعمال فنية عالمية ومحلية، بدعاوى
«تجسيد نبي أو صحابي، أو مساسها بالعقيدة»، ما أدى لحرمان بعض
الأعمال من العرض لسنوات مثل فيلم «الرسالة» لمصطفى العقاد 1977،
و«المهاجر» ليوسف شاهين 1994.
الجدل الذي صاحب «نوح» قد يتعرض له قريبًا الفيلم الأمريكي «ابن
الإله» لكريستوفر سبنسر، والذي يتناول حياة المسيح ويُفترض طرحه في
دور العرض السينمائية المصرية أبريل 2014، وهو الجدل الذي تغلب
عليه فيلم «ملحد» لنادر سيف الدين، الذي وافقت الرقابة مؤخرًا على
عرضه «للكبار فقط»، كما أجازت فيلم «أسرار عائلية» لهاني فوزي،
ويتناول علاقات المثليين.
مصلحة الدولة
منذ أعوام، خضعت قرارات رقابية لأحكام وأهواء السلطة السياسية،
فمنعت الرقابة المصرية عام 1950عرض فيلم يتناول حياة ملكة فرنسا
ماري أنطوانيت، بسب تهديدات من القصر الملكي للرقيبة، لاعتقاده أن
الفيلم «سيتسبب في نشر الأفكار المناهضة للملكية»، ولهذا السبب
كانت الأفلام إما تُمنع أو تُعرض بعد حذف مشاهد، مثلما حدث لفيلم
«الفرسان الثلاثة» الذي كان وجه الاعتراض عليه هو مساس بعض عباراته
بملك فرنسا.
كان المنع والإباحة بسبب السياسية متغيرًا وفقًا للنظام الحاكم،
فالأفلام «المضادة للملكية» التي منعتها السراي عُرضت جميعها دون
حذف بعد ثورة 1952، بينما مُنع من العرض أي عمل يمس الثورات وفيما
بعد الاتحاد الاشتراكي، وأبرز الأمثلة على ذلك فيلم «ميرامار»
لكمال الشيخ 1968، الذي حارت الرقابة في أمره وكاد أن يُمنع من
العرض «لاحتوائه على عبارات تنتقد الاتحاد الاشتراكي وقوانينه»،
ولم يُجاز إلا بعد عرضه على أنور السادات، رئيس مجلس الشعب في ذلك
الوقت، حسبما تذكر اعتدال ممتاز.
كانت حالات إجازة الأفلام بقرار سياسي متكررة، وقد صدرت بعض هذه
الإجازات عن رأس السلطة، مثلما حدث مع فيلم «يوميات نائب في
الأرياف» لتوفيق صالح 1969، والذي عُرض بأمر من الرئيس جمال
عبدالناصر، الذي قرر في العام نفسه عرض فيلم «شئ من الخوف» لحسين
كمال، على الرغم من شائعات ذكرت أن بطله الديكتاتور«عتريس» هو
تجسيد لشخصية عبدالناصر.
في السبعينيات، وكما أجازت الرقابة بعد الثورة كل الأفلام المهاجمة
للملكية، حفلت دور العرض السينمائي بأفلام تدين «فساد مراكز القوة
في الستينيات»، ومنها «آه ياليل يا زمن» لعلي رضا 1977، ويشيد
بـ«ثورة التصحيح» ويدين فترة التأميم، وكذلك فيلم «وراء الشمس»
لمحمد راضي 1978، ويتناول سلبيات هزيمة 1967 وما تلاها، بل أجيزت
في السبعينيات أفلامًا تنتقد الستينيات على الرغم مما احتوته
مضامينها من عنف بلغ حد التعذيب والاعتداء الجنسي، ومنها فيلمي
«إحنا بتوع الأتوبيس» لحسين كمال 1979، و«الكرنك» لعلي بدرخان
1975.
وكانت مصلحة مصر وعلاقاتها من مسببات رفض الرقابة لأفلام جيدة
فنيًا، ومنها فيلم «كليوباترا» لجوزيف مانكيفيتس 1963، والذي تسببت
مقاطعة أعمال بطلته إليزابيث تايلور، المؤيدة لإسرائيل، في عدم
عرضه حتى اُفرج عنه بعد توقيع «معاهدة السلام»، كما مُنِع من العرض
فيلم «دكتور زيفاجو» لديفيد لين 1965، حرصًا على علاقة مصر
بالاتحاد السوفيتي.
حديثًا، مُنع فيلم «ناجي العلي» لعاطف الطيب 1992 من العرض بدعوى
أنه يمجد شخص يسئ للبلد بسبب انتقادات رسام الكاريكاتير الفلسطيني
ناجي العلي للأنظمة المصري والعربية، خاصة بعد اتفاقية «كامب
ديفيد»، وأن الشخصية المصرية الوحيدة في الفيلم والتي جسدها الممثل
محمود الجندي، ظهرت غائبة عن الوعي طوال الأحداث.
وتعرضت أفلام أخرى لحذف مشاهد منها لدواعي مختلفة، ومنها ما حدث
لفيلم آخر لعاطف الطيب وهو «البرئ» 1986، ويتناول فكرة تسخير
السلطة للإنسان، فلم يعرض الفيلم إلا بعد حذف نهايته التي يطلق
فيها المجند «سبع الليل» الرصاص على الضباط والجنود بالمعسكر.
لم يكفل منع الأفلام التي تتعرض للسلطة ورجالها الحماية لهم
جميعًا، فأجازت الرقابة أفلامًا ذات محتوى سياسي من بينها «الإرهاب
والكباب» لشريف عرفة 1992، وتضمن سخرية من شخصيات سياسية لم تصل
لمستوى أعلى من الوزراء، ثم ظهرت شخصية رئيس الوزراء بشكل ساخر في
فيلمي «عايز حقي» لأحمد نادر جلال 2003، و«رامي الاعتصامي» لسامي
رافع 2008.
استثناء
إذا كان مبرر الرقابة لمنع أفلام تعرضت لقضايا دينية أو أحداث
وشخصيات سياسية هو «صون المقدسات، والحفاظ على مصلحة الدولة»، فقد
أجازت أفلامًا تتعلق بالضلع الثالث في مثلث «التابوو» وهو الجنس،
الذي انتقل مع الوقت إلى وصف «هبوط فني»، على الرغم أيضًا من أن
أحد معايير الرقابة للحكم على الأفلام هو الحفاظ على «الآداب
العامة».
وأجازت الرقابة، في فترة هزيمة 1967 والسنوات التالية عليها،
أفلامًا ذات محتوى جنسي فج، بعضها كان من إنتاج القطاع العام،
وصدرت الموافقات عليها إما بقرار الرقيب مباشرة أو بعد تظلم صناع
العمل، ومن هذه الأفلام «قصر الشوق» لحسن الإمام 1967 ، و«امرأة
ورجل» لحسام الدين مصطفى 1971.
ودخل قطاع الإنتاج والتوزيع السينمائي الحكومي، ممثلاً في «مؤسسة
السينما» التي أسستها الدولة عام 1962، في صراع مع الرقابة لتمرير
أفلام من إنتاجها أو توزيعها، خلال الفترة من 1963 إلى 1971، وكان
منها أفلام «جنسية فجة» مثل فيلمي سعيد مرزوق «سوق الحريم» 1970
و«زوجتي والكلب» 1971، وفيلم «السراب» لأنور الشناوي 1970، و«أوهام
الحب» لممدوح شكري 1970، و«أدم والنساء» للسيد بدير 1971، و«حمام
الملاطيلي» لصلاح أبو سيف 1973.
وتعلّق اعتدال ممتاز، الرئيسة السابقة للرقابة، على إجازة بعض
أفلام القطاع العام الهابطة، بقولها إن الرقابة كانت تتساهل مع
أفلام القطاع العام، حرصًا على اقتصاديات مؤسسة السينما المملوكة
للشعب، كما أبدت دهشتها من تعارض مسار المؤسستين التابعتين لوزارة
واحدة عندما ذكرت أن الرقابة كانت تتلقى تعليمات محددة لتطبيقها،
تعبيرًا عن سياسة الدولة، وكانت بعض هذه الأفلام المنتجة أو
المستوردة يتعارض تمامًا مع سياسة الوزارة، بل مع موقف الدولة.
المواطن الرقيب
إذا كانت الرقابة في مصر جهة حكومية تُعبر عن سياسة الدولة، فالأمر
يختلف في أغلب دول العالم، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة
الإنتاج السينمائي الأضخم، وفرنسا أحد أقدم الدول التي عرفت فن
السينما.
في الولايات المتحدة، يحدد نظام تصنيف الأفلام الفئة العمرية
المسموح لها بمشاهدة الفيلم، ويضم هذا التصنيف 5 درجات لأي فيلم
وهي «(G)
أي ملائم لكل الأعمار، و(PG)
يشاهده الأطفال في وجود الأبوين، و(PG-13)
مضمونه غير مناسب للأطفال دون سن 13، و(Restricted)
للبالغين، و(NC-
17)
أي غير مسموح بمشاهدته لمن هم دون سن 17».
وتعمل «جمعية الفيلم الأمريكي» بنظام التصنيف منذ عام 1968، وتخضع
له الأفلام بموجب قرار من مجلس من المواطنين العاديين الذين
يشاهدون الفيلم ويقيمونه ووفقًا لمعايير مثل «العنف، والجنس،
واللغة، والمخدرات» ويضعون تصنيفًا يُعتقد أن أغلب الآباء
الأمريكيين قد يمنحونه للفيلم.
واستطاعت السينما الأمريكية إبعاد الجهات الحكومية عن المشهد
الرقابي، حتى من قبل تطبيق نظام تصنيف الأفلام وذلك من خلال نظام
«كود هايس» الذي خضعت له الأفلام منذ عام 1930 إلى 1968، وكان يهدف
لضمان خلو الأفلام من المحتويات الجنسية وكذلك منع التدخلات
الحكومية.
وتعد «جمعية الفيلم الأمريكي» نفسها إحدى محاولات الاستقلال بصناعة
السينما عن التدخلات الحكومية، فقد أسستها عام 1922 الشركات الست
الكبرى في مجال إنتاج وتوزيع أفلام هوليوود وهي «استوديوهات أفلام
والت ديزني، وبارامونت بيكتشرز، وسوني بيكتشرز، وفوكس 20 سنشيري،
واستوديوهات يونيفرسال سيتي، ووارنر انترتاينمت» تحت مسمى «جمعية
منتجي وموزعي الأفلام» بهدف تطبيق نظام «الرقابة الذاتية» وتنظيم
محتوى الأفلام والتفاوض مع الحكومة.
وفي فرنسا، الجهة المسؤولة عن إجازة الأفلام للعرض هي وزارة
الثقافة، لكن بناء على توصية من «مجلس تصنيف الأفلام» التابع
للمركز الوطني للسينما والصور المتحركة، وهو منظمة إدارية عامة
مستقلة ماليًا، ويضع تصنيفات للأفلام هي «(عام) مناسب للعرض لكل
الأعمار، وغير مناسب لمن هم أقل من 12سنة، وغير مناسب لمن هم أقل
من 16 سنة، وغير مناسب لمن هم أقل من 18 سنة، وأخيرًا ممنوع أو غير
صالح للعرض»، كما يمكن أن تصنف أفلامًا أخرى على أنها «إباحية، أو
تحرض على العنف».
حماية النظام.. ومرجعية الأزهر
في مصر، توجد تصنيفات للأفلام منذ عام 1954، استنادًا لقانون
الأحداث رقم «427/1954»، والذي يمنع القُصّر من دخول السينما،
وبموجبه صنفت الرقابة الأفلام إلى «عامة، وللكبار فقط»، أما
معاييرها لإجازة أو منع الأفلام فأبرزها بموجب القوانين «مصالح
الدولة العليا، والآداب العامة، والنظام العام» دون تعريف واضح
لمعنى وحدود هذه المفاهيم.
ويُفسر تدخلات المؤسسات الدينية في صميم عمل الرقابة، قرار وزير
الإعلام رقم «220/ 1976» بشأن القواعد الأساسية للرقابة على
المصنفات الفنية، والذي نص في مادته الثانية على عدم جواز «إظهار
صورة الرسول (صراحةً أو رمزًا)، أو صور أحد الخلفاء الراشدين وأهل
البيت والعشرة المبشرين بالجنة أو سماع أصواتهم، وكذلك إظهار صورة
السيد المسيح أو صور الأنبياء عمومًا، على أن يراعى الرجوع في كل
ذلك إلى الجهات الدينية المختصة».
وحصل الأزهر عام 1994 على سند قانوني للتدخل في عمل الرقابة بموجب
فتوى من قسميّ الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، ومفادها أن «للأزهر
وحده الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص
أو رفض الترخيص للمصنفات السمعية أو السمعية البصرية»، حسبما يشير
تقرير صادرة عن مؤسسة «حرية الفكر والتعبير».
وأصبحت هذه النصوص والقرارات بالإضافة لقوانين أخرى صادرة منذ
الخمسينيات والسبعينيات، وكان آخر تعديل لبعضها في التسعينيات، هي
الحاكمة للرقابة إلى الآن، حسبما يؤكد لـ«المصري اليوم» أحمد عزت،
مدير الوحدة القانونية بـ«حرية الفكر والتعبير»، التي تطالب منذ
2009 بإلغاء بعض هذه القوانين والقرارات، خاصة رقم «220/ 1976»
والقانون رقم «430/1955»، وهو ما لم يحدث حتى بعد قيام الثورة
وتغيير الدستور نفسه مرتين. |