خالد صالح . . رحيل قبل أن يكتمل القمر
مارلين سلوم
نشبّههم بالنجوم وكأننا نصيبهم بسهامها . ينطلقون كالشهب، يبرقون،
يلمعون في سماء الفن، يبهروننا، نتأملهم بدهشة، ثم فجأة ينطفئون .
هم بشر مثل كل البشر، لكننا تعودنا أن نراهم ونحبهم كأنهم من طينة
أخرى، من حولهم هالة والعبقرية تشع من عيونهم
.
ليس كل فنان عبقرياً، ولا كل من وصل إلى قمة الشهرة قفز السلالم أو
حلق على جوانح السرعة ليصبح بين ليلة وضحاها من المشاهير والأثرياء
. ففي هذا الزمن أيضاً، رجال لم يولدوا فنياً وفي أفواههم ملاعق من
ذهب، بل حفروا في الصخر بأظافرهم ونحتوا قدراتهم ليقدموا أفضل ما
عندهم، ومنهم من رحل قبل أن يكتمل القمر
.
خالد صالح، كان يكفينا أن نذكر اسمه كي نضمن مشاهدة ممتعة لعمل
مميز . كان يكفينا أنه وصل إلى عالم الفن ولو متأخراً، ليعلن عن
موهبة لا تشبه إلا ذاتها، يقدمها وقد نحتها بحرفية عالية، حتى
تشبعت من روحه . على المسرح، في السينما، في التلفزيون، كان يمثل
بكل حواسه، بروح تخرج من كل مسام جسده ومن كل خطوط تجاعيد وملامح
وجهه
.
من أين تبدأ الحديث عن ذاك النجم الذي لم يسكن فضاء الفن سوى 15
عاماً، ثم انطفأ؟ من أين تبدأ الكلام وقد اختصر الطريق برحلة قصيرة
جداً، بدأها متأخراً، وانطلق إلى القمة سريعاً ليرحل مبكراً .
تمهّل كثيراً حتى وصل إلى الأضواء وكشف عن مواهبه أمام الجمهور،
لكنه استعجل في إنهاء دوره والنزول عن المسرح
.
لا نملك أن نغيّر الأقدار، ولا يمكننا إلا أن نحزن كثيراً ونتذكر
خالد صالح وننشغل بخبر رحيله المفاجئ والصاعق عن خمسين عاماً .
غريبة هي أقدار الفنانين كيف ترسم لهم أن يتركوا آخر بصمة كقبلة
الوداع على جبين الجمهور، ويرحلوا قبل موعد اللقاء . فيلم "الجزيرة
2" كان آخر قبلة يتركها خالد صالح، وكان من المفروض أن يلتقي به
الجمهور في عيد الأضحى ليشاركه مشاهدة الفيلم في صالات السينما،
لكنه حزم حقائبه ورحل قبل الموعد
.
أكثر من فنان رحل مباشرة قبل أن يشاهد آخر أعماله على الشاشة، وقبل
أن يعرف ردود الأفعال ويسمع الآراء ويفرح بما أنجز: نجيب الريحاني
ترك "غزل البنات" للجمهور ولم يدرك مدى النجاح الذي حققه، فريد
الأطرش باغتته نوبة قلبية بينما "نغم في حياتي" يولد في الصالات،
أحمد زكي حقق حلمه بتصوير فيلم "حليم" لكنه رحل قبل أن يرى هذا
الحلم مكتملاً على الشاشة . . نجوم عالميون أيضاً لم يتذوقوا طعم
اللقاء الأخير مع الجمهور، مثل مايكل جاكسون وويتني هيوستن وغيرهما
. . أما مصير تلك الأعمال فهو النجاح وتحقيق إيرادات عالية
وخيالية، لأن الجمهور يذهب إلى الصالات في مثل هذه الحالة، ليودع
نجمه المحبب ويراه في آخر إطلالة وآخر أداء
.
مع نجوم من وزن خالد صالح، تدرك جيداً أنه لو كتب له أن يعيش عمراً
أطول، لقدم المزيد من الأعمال الناجحة، ولمارس علينا لعبة الإبهار
وهو يسحرنا بأداء ينتقل معه في كل مرة، ومع كل شخصية إلى منطقة
جديدة من فن التمثيل . دائماً تتساءل كيف يمكنه أن يكون "الريس عمر
حرب"، ويكون "عادل القنصل" في فيلم "ابن القنصل"، وأنه هو الضابط
حاتم في "هي فوضى"؟ كيف أمكنه أن يلعب أدوار الشر بكل إتقان إلى
درجة إثارة "الكره" واقتناع المشاهد بأن هذا الرجل فاسد ومجرم،
وكلما كرهه الجمهور في الأفلام صفق له وازداد مقدار حبه لهذا
النجم؟
لم يربطنا بخالد صالح حب من بعيد لبعيد عبر الشاشتين الكبيرة
والصغيرة، بل ربطنا به احترام وتقدير لأخلاقه ولكونه من الفئة
المحترمة التي عاشت بلا ضجيج، رافضة صخب الشائعات والنميمة
والإطلالات المتكررة بلا داعي عبر وسائل الإعلام . يقولون إنه كان
"تاجر السعادة" ينثرها بكرم وعطاء ولا يتاجر بها، فيحب أن يزور دور
الأيتام والمؤسسات الخيرية والإنسانية في أي بلد يقصده ولو لزيارة
سريعة، والمؤكد أنه كان حريصاً على أن يعيش بلا مشاكل، بلا "هوس"
بالأضواء والشهرة وعبادة الذات والنجومية، وبلا تجاوز أو تطاول أو
معاداة لأي كان . ثم يقولون إن يوم جنازته لم يكن عادياً، وأنه شهد
زحاماً بالمحبين، كيف لا؟ بل أكثر من ذلك، فهؤلاء لم يروا سوى
الذين تمكنوا من التوافد إلى الجنازة، ولم يحصوا أعداد الذين ودعوه
عن بعد، وعاشوا نفس مشاعر الحزن على فقدانه وهم من مختلف الجنسيات
العربية ومن كافة الدول .
"حلاوة
الروح" كان مسك ختام أعمال صالح في الدراما، وكأنه كان يودع جمهوره
العربي بعمل مشترك، ضم مجموعة كبيرة من الممثلين العرب، وعايش فيه
معاناة السوريين في هذا الوقت العصيب، وكان "رجل الأعمال والإعلام"
الذي يسكن في الإمارات وهو من أصل مصري ومتزوج من امرأة سورية،
ولديهما ابنة تركت بيت أبيها متجهة إلى بيروت، ومنها إلى موطن أمها
كي تعيش في معمعة الأحداث . كان يبدو على خالد صالح أنه فقد الكثير
من وزنه، كما بدا شاحباً مع الشعر الأبيض الذي فرضه الدور، فهل كان
يستعد للرحيل وهو يتألم بصمت؟
لم يتوقف هذا النجم عند مقياس البطولة كي يوافق على العمل في فيلم
ما، لأن معيار الإبداع كان أعلى في نظره، وكان يدرك جيداً أنه قادر
على خطف الكاميرا من أي ممثل يقف أمامه مهما كانت نجوميته عالية
وجماهيريته واسعة . لم يخش أو يخجل من لعب الدور الثاني أمام من هم
أصغر منه سناً، لأنه كان "كبيراً" في موهبته، والكبار يتألقون
ويبرقون في عيون الجمهور ولو مروا سريعاً كشهب نجم هوى من السماء .
كم نتمنى تخليد ذكرى فنانينا الذين أثبتوا أنهم كانوا "مبدعين"،
وأن نحسن رعاية الأحياء منهم قبل أن يرحلوا
.
marlynsalloum@gmail.com |