ظلت السينما المصرية، لعقود طويلة، تنظر إلى المرأة على
أنها إما جسد بلا روح، أو روح بلا جسد.. وهى فى هذا تذكرنا بالسيد أحمد
عبدالجواد، الأب الصارم، الماجن، المتزمت، فى ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة..
فبعد أن يعود السيد أحمد عبدالجواد، من إحدى صولاته الليلية، تقول له زوجته
الطيبة: «إن عين أى راجل لم تقع على أى من ابنتى منذ انقطاعها عن المدرسة
فى سن الطفولة».. وسرعان ما يضرب الرجل كفا بكف ويصيح بها: «مهلا.. مهلا هل
حسبتنى أشك فى هذا؟ لو شككت فيه ما أشبعنى القتل».
هذه الازدواجية الأخلاقية تتماثل تماما بين السينما المصرية
والسيد أحمد عبدالجواد، فالنساء، عندها، وعنده، ينقسمن إلى قسمين: فالنساء
خلقن إما للمتعة، مثيرات للغرائز، شريرات إلى حد كبير، وإما ملائكة طاهرات،
ذوات أرواح رقيقة، نقيات، تقيات، آتيات من السماء، لا يعرفن شيئا عن شرور
الدنيا!
وعندما خطت مريم فخر الدين خطوتها الأولى إلى عالم السينما،
كان عليها إما أن تنضم إلى «مملكة الإغراء» التى تتنازع عرشها تحية كاريوكا
وزوزو نبيل والأختان زوزو وميمى شكيب، والتى ستؤول لاحقا لهند رستم وبرلنتى
عبدالحميد، وإما أن تقف فى طابور «ملائكة الطهارة» الذى تتقدمه بلا منازع،
فاتن حمامة.
جاءت مريم فخر الدين عن طريق صورتها المنشورة على غلافة
مجلة «ايماج» الفرنسية عقب فوزها فى مسابقة نظمتها المجلة التى كانت تصدر
فى مصر «لأجمل الوجوه».
البداية
كان وجه الفتاة الصافى، المناغم الملامح، بعينيه البريئتين،
وبشفتيه الرقيقتين، المنفرجتين عن ظل ابتسامة هادئة، مطمئنة، وشعرها
الناعم، يضفى المزيد من «الملائكية» على بياض بشرتها.. لافتا نظر المصور
السينمائى الكبير عبده نصر ــ منتج أول فيلم ستقوم مريم ببطولته، وهو «ليلة
غرام» المأخوذ عن رواية «لقيطة» لمحمد عبدالحليم عبدالله، والذى أخرجه أحمد
بدرخان 1951.
وكان لابد أن تظهر هذه الرواية ــ الفائزة بجائزة مجمع
اللغة العربية أو جائزة فاروق الأول كما كان اسمها عام 1947 ــ على الشاشة
الفضية، فهى تدور حول فتاة تقسو عليها الحياة وتتربص بها المحن، تعيش
حياتها الحزينة متنقلة من فاجعة لأخرى، فى سلسلة من آلام تبدأ بها فى ملجأ
للأيتام حيث إنها «طفلة ولدتها الرذيلة»، لتموت راعيتها العطوف وهى لا تزال
صبية.
وعندما تعمل كممرضة فى مستشفى خاص، تتعرض لمؤامرات تنتهى
بالاستغناء عنها، وها هى تقضى فترة شقاء بلا عمل، ثم تنتقل إلى الثغر
الإسكندرى لتعمل من جديد فى مستشفى حكومى، وتلتقى مصادفة والدتها العليلة
التى تطلعها على «السر».. وتموت الأم، وترتبط هى بطبيب يخفق قلبه بحبها..
لكن الأقدار لا تنصفها.
وفى «الكتالوج» الموزع مع الفيلم تطالعك تلك العبارات
الإنشائية التى كانت تسحر المتفرجين آنذاك: «زهرة وجيدة بين الحقول، طفلة
بريئة جاءت إلى الحياة فى ليلة غرام، أسماها مدير الملجأ ليلى.. «و»..
تستقبل الحياة وحيدة.. سلاحها قوة فى الأخلاق ورصيد كبير من جمال لا
يقاوم.. ترى هل تنجح؟ أم تقسو عليها الأيام؟
ونجح الفيلم نجاحا كبيرا، ذلك أنه تضمن طوفانا من الدموع،
والعديد من مواقف النبل التى تواجه بها البطلة شرور الآخرين.. وارتفعت أسهم
مريم فخر الدين التى عوضها نقاء وجهها الجميل قدراتها التمثيلية المحدودة،
خصوصا وأن دورها ببساطة ومحدودية انفعالاته، لم يكن يتطلب منها إلا مجرد
التعبير عن الأسى والحزن، والانخراط فى البكاء بين الحين والحين.. أضف إلى
هذا أن أستاذ تصوير النجوم، وإبراز أجمل وأرق ما فى الوجوه، عبده نصر، هو
الذى صور الفيلم، واعتنى به على نحو خاص، وأفرد لها المزيد من اللقطات
الكبيرة، ووزع إضاءة على ملامحها، توحى بنورانية روحها.
ووسط الاحتفال بالفيلم، ونجمته الجديدة، كتب محمد التابعى،
المعادى للميلودراما، مقالا مهما جاء فيه:
«لقد
أسرف بعض النقاد فى مدح البطلة ــ أو الوجه الجديد ــ الآنسة مريم فخر
الدين.. والذى أراه أن دورها لم يكن فى حاجة إلى أى مجهود فى التمثيل بل
يكفى أن تؤدى ألفاظ دورها أداء سليما من غير تكلف لكى تستدر الدموع من عيون
المتفرجين.. ويبقى أن نراها فى دور آخر يتطلب شيئا من ــ اللحلحة ــ قبل أن
نحكم على كفايتها وقبل أن نضعها فى صف الممثلات المجيدات!
والحق أن محمد التابعى، ونحن معه، لم ير النجمة الشهيرة فى
دور آخر إلا فيما ندر، فعلى الرغم من عشرات الأفلام المختلفة العناوين،
التى أدتها فى السنوات التالية، فإنها جوهريا قدمت الشخصية ذاتها التى
طالعتنا بها فى «ليلة غرام»: الفتاة الضحية، قليلة الحيلة، الضعيفة، ألعوبة
المقادير والأشرار، البريئة إلى حد السذاجة، محدودة العلم، عديمة الخبرة
بالحياة.
من المسئول؟
والمدهش أن الشخصية تلك، بخصائصها السلبية، كانت محمل تبجيل
الأفلام التى وجدت هزالها وجهلها، قيما أخلاقية إيجابية تستحق الإشادة
والتوقير.
وبالطبع، لا يمكن تحميل مريم فخر الدين مسئولية صورة
«المرأة المفضلة» التى روجتها.. ومن الصعب أيضا القول بأن السينما المصرية
كانت النغمة النشاز التى قدمت المرأة المشلولة الإرادة بكل هذا القدر من
الاستحسان والقداسة فالحق أن هذه الصورة لم تكن إلا أصداء لثقافة محافظة،
ذات طابع إقطاعى، ستجد أصولها فى كتابات مصطفى لطفى المنفلوطى، السابح فى
غيبوبة العواطف المتورمة ومحمد عبدالحليم عبدالله ببطلاته الخائبات، ويوسف
السباعى ببطلاته التافهات المنتحرات، وصالح جودت، صاحب «عودى إلى البيت» ــ
يقصد المرأة ــ وهو كاتب حوار «ليلة غرام» والعديد من أفلام مريم التالية..
وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
فى السنوات التالية لـ«ليلة غرام» 1951، ستصبح مريم فخر
الدين بطلة للأفلام الميلودرامية، المكتظة بالخطوات والكوارث، والأفلام
الرومانسية الغارقة فى الدموع، والأفلام ذات الطابع الأخلاقى الضيق،
الممتلئة بالمواعظ والإرشادرات.. فمن إخراج أحمد بدرخان قدمت «وعد» 1954
و«العروسة الصغيرة» 1956، ومن إخراج حسين صدقى قدمت «المساكين» 1951 و«خالد
بن الوليد» 1958، ومن إخراج محمود ذو الفقار قدمت «رنة الخلخال» 1955 و«أنا
وقلبى» 1957 و«شباب اليوم» 1958.. كذلك ستقوم ببطولة العديد من أفلام محمد
كريم وأحمد ضياء الدين وإبراهيم عمارة.. أى أنها سترتبط بجيل من المخرجين
على وشك الأقوال، تدور أفلامهم فى عالم شاحب أبعد ما يكون عن دوامة الواقع
المتغير التى بدأت تجد طريقها إلى أفلام صلاح أبوسيف ويوسف شاهين وتوفيق
صالح.
اعتراف.. مع وقف التنفيذ
وبحس سليم، وإدراك صائب، صرحت مريم فخر الدين لمجلة
«الكواكب» فى 15/8/1959 تصريحا جاء فيه: «لى رأى.. أن عدم تلوين الأدوار
التى يلعبها الممثل، يقتله.. إنى أفكر كثيرا فى هذا الرأى».
لكن هذا التفكير ظل حبيس عقل مريم، ولم يتحول إلى أدوار
جيدة، ذلك أنها، ببساطة، ليست صانعة أفلامها.. ولأن الكثير من العوامل
تكاتفت لتكبلها فى الملامح ذاتها.
فمثلا، ساعدت الصحافة الفنية على تثبيت صورتها التقليدية فى
أذهان القراء، فبينما أسمتها مجلة «الموعد» «القديسة» أطلقت عليها «آخر
ساعة» لقب «الملاك الرقيق» ووصفتها جريدة «الشعب» «بالجيوكندا».
وجاء فى حيثيات الجائزة التى نالتها من المركز الكاثوليكى
المصرى عام 1957 ما يلى: «رأت اللجنة فى فيلمى «رحلة غرامية» و«طاهرة» أنك
تقومين بتمثيل الشخصية المثالية كما أنك فى غالبية أدوارك على الشاشة درجت
على تمثيل أدوار الشرف والاستقامة ونبل الأخلاق، مما جعل المنتجين يسندون
دائما إلى شخصك مثل هذه الأدوار، وأن المؤلفين يرسمون شخصياتهم المثالية
على منوال شخصيتك على الشاشة.. ولذلك قررت اللجنة منحك بصفة شخصية جائزة
شرف، لقيامك بتمثيل دورى الوفاء والطهارة فى فيلمى «رحلة غرامية» و«طاهرة»،
ولأنك داومت على تمثيل مثل هذه الأدوار فى الأفلام المصرية حتى أصبحت رمزا
لسمو الأخلاق فى أغلب أدوارك على الشاشة «انتهت الحيثيات»!
ولعلك تلمس فى هذا الكلام آلية السينما المصرية الكسول التى
وجدت فى شخصية «مريم» الجاهزة، فرصة لنسج العديد من الأفلام، على منوالها،
الأمر الذى أدى إلى المزيد من التكرار لصورتها التى أصبحت محفوظة عن ظهر
قلب.
أما عن الفيلمين المذكورين فى حيثيات الجائرة، فإنهما
يستحقان وقفة.. فالفيلم الأول «رحلة غرامية» الذى أخرجه محمود ذو الفقار
يتميز على غير العادة، بدرجة كبيرة من المرح والحيوية وهو من الأفلام
النادرة التى تطالعنا فيها «مريم» فى دور امرأة مبهجة، مرتبطة بالحياة،
تمشى على الأرض ولا تسبح مع السحب.
تقول قصة الفيلم اللطيفة إن مريم تزوجت من شكرى سرحان بعد
تخرجها فى الجامعة وفى آتون البحث عن عمل، يجد الزوج وظيفة فى منطقة
صحراوية، شرطها أن يكون شاغلها أعزب.. ويتفقان أن يذهب للعمل منكرا زواجه،
وهناك فى البعاد، يبدأ قلبه فى التفتح لابنة رئيسه فى العمل «سميرة أحمد»..
وعندما تعلم الزوجة بالأمر تذهب إلى الصحراء، وتدعى أنها شقيقته،
وبإيجابية، وقدرة على التصرف، تثير غيرته بتظاهرها بالإعجاب الشديد بصديقه
وتنجح فى استرداده.. إن مريم، والحق يقال، بدت هنا متمتعة بطاقة فنية
كبيرة، ودفء، وقدرة على التلوين، فضلا عن تجسيد المواقف المختلفة بمهارة.
وبعد فيلمها الثانى «طاهرة» الذى أخرجه فطين عبدالوهاب،
البلورة الكاملة لشخصيتها الفنية بملامحها التقليدية الراسخة.. هى هنا
«بائعة بليلة» أمام مسجد السيدة، درويشة، فى حالة ورع شديد، يتحدث الجميع
عن تقواها. ويقتحم حجرتها فى إحدى الليالى لص تطارده الشرطة «محمود
إسماعيل»، فلا تأبه به ولا تخاف منه.. فيهتز عندما يراها تصلى، ويهتز أكثر
عندما يجدها تنام فى فراشها قريرة العين.. ويهرب اللص عندما تحضر الشرطة،
تاركا المصوغات التى سرقها تحت سريرها وليقبض عليها بتهمة الاتفاق مع اللص.
ولا تشعر «الطاهرة» بأى ندم لأنها ساعدت السارق على الهرب، بل تبتسم
ابتسامتها «الملائكية» وهى تقف وراء القضبان إلى أن يتم القبض على اللص، من
باب الاشتباه، ويعرض عليها ضمن مجموعة مشبوهين، فإذا بها تحس فى أعماقها
«الطيبة» بضرورة معاونته، وتترجم هذه المعونة بإنكار معرفتها به، فيترك
لحال سبيله، وتعود هى راضية إلى الحبس رهن التحقيق.
ومهما كانت قوة السيناريو أو جودة الإخراج أو براعة
التمثيل، فإن أكثر من ناقد نبه إلى أن الفيلم يستند إلى فكرة بالغة
الخطورة، هى «مساعدة طاهرة للمجرم السارق من دون أن تتوضح حدود هذه
المساعدة أو أى دافع منطقى لها.. إن الأحاسيس الداخلية التى كانت تعترى
«طاهرة» لا تكفى وحدها لأن يرى الجمهور سيدة صالحة تتستر على مجرم وتعاونه
على الفرار، بل يزيد من خطورة القضية، النتيجة التى انتهت إليها، وأن قصة
الفيلم، وهى هداية المجرم.. لأن معنى هذا الفيلم ينادى بالتستر على
المجرمين والاشفاق عليهم، وأن الله يهديهم ويحولهم إلى مواطنين أتقياء!!
وهذا لا يمكن أن يقره قانون أخلاقى، فما بالك وقد جاء باسم الإيمان بالله».
والحق أن هذا النقد الجوهرى يحسب على الكثير من أفلام مريم
فخر الدين، فهى ببراءتها، وبنقائها تستطيع أن تجمل أية فكرة، بل ويمكنها أن
تضفى سحرا خلابا على أشد الطبقات المسيطرة قسوة وتعنتا.. ولعلك تذكر دورها
فى «رد قلبى» الذى أخرجه عزالدين ذو الفقار، عن رواية يوسف السباعى، حيث
ظهرت فيه ــ وهى ابنة الباشا الظالم ــ بقلب مرهف، يخفق بلا حدود فى حب
«ابن الجناينى» وتنتشله من حال لحال، وتقف إلى جانبه، وتمنحه من معين
حنانها ودفئها، أكثر من أية امرأة أخرى.. إنها هنا مريم فخر الدين أكثر من
كونها سليلة الجلادين، وإن كانت تغلف «طبقة مستبدة» بغلالة مضللة من الرقة
والرحمة.
تزاوج الحياتين الفنية والعائلية
مريم فخر الدين، ابنة مهندس الرى، المحافظ، وابنة سيدة
مجرية، عاشت حياة مضطربة بعد دخولها عالم السينما.. تزوجت فى البداية
المخرج محمود ذوالفقار.
وبعد أن أنجبت منه طفلتها الأولى، وحققت معه العديد من
الأفلام، دبت المنازعات بينهما، وأصبحت أخبار طلاقها وعودتها مرة أخرى، من
المواد الثابتة فى المجلات الفنية.. وبالطبع، انتهى المسلسل بطلاق بائن.
لكن الأخطر أن داء الصمم بدأ يهددها، وهو الداء الذى ورثته
عن والدها وجدها.. وهذا ما يفسر ذلك البطء الواضح فى حوارها مع من أمامها
من أبطال. فعندما اشتد بها الداء كان مساعد المخرج يضطر إلى أن يشير لها
بأن زميلها انتهى من كلامه لكى تبدأ هى كلامها، الأمر الذى يقلل من
اندماجها الكامل فى دورها، والذى لا يمكن أن يأتى إلا بسرعة «الأخذ
والعطاء» مع من أمامها.
استطاعت مريم فخر الدين، بجلد، أن تصمد لأزمة الطلاق، وأزمة
داء الصمم وتزوجت مرة أخرى من طبيب، وشفيت من المرض إلى حد كبير، وعادت إلى
الاستديوهات لتقدم المزيد من الأفلام.. وعادت المتاعب من جديد، مع زوجها من
جهة، ومع الضرائب من جهة أخرى.. وبعد طلاقها تسللت إلى بيروت مضطربة مفلسة
مرهقة.. وتزوجت مرة ثالثة من المطرب فهد بلان حيث عادا سويا إلى القاهرة
لتسترد حضورها على شاشة السينما.. وسرعان ما دخلت فى دائرة المتاعب من جديد
لتتعثر وترتبك، ثم لتسترد قواها.
قدمت مريم فخر الدين أكثر من سبعين فيلما قبل أن تتجه إلى
أداء دور «الأم» وساعدها جمالها، ورقتها وبراءتها، على القيام بدور الحبيبة
الملهمة، التى تساعد على انتشال الحبيب من الضياع، والتى يبدع الفنان
المغنى من أجلها، أفضل الألحان.. فمع فريد الأطرش قدمت «رسالة غرام» لبركات
1954 و«عهد الهوى» لأحمد بدرخان 1955، و«ماليش غيرك» لبركات 1958، و«يوم
بلا غد» لبركات 1958.. وعلى وجهها ومن أجل عينيها، وشعرها «الحرير»
و«خدودها» غنى عبدالحليم حافظ «بتلومنى ليه» فى «حكاية حب» لحلمى حليم 1959.
نجاح فى عملين
وفى فيلمين هامين، تحررت مريم من صورتها التقليدية،
بانفعالاتها الهادئة، فقدمت بمهارة لا شك فيها، دراما عنيفة من الانفعالات،
العاصفة، المركبة.. ففى القصة الأولى من «البنات والصيف» لعز الدين ذو
الفقار 1960، تجسد، على نحو مقنع، مأساة زوجة يزداد ضعفها بضعف زوجها
الهزيل نفسيا وروحيا، عادل خيرى، وتقع ضحية لصديق زوجها القوى، كمال
الشناوى.. وعلى الرغم من أنها تكره هذا الصديق فإنها لا تستطيع أن تقاومه.
وبعد أن يطأها تظل تجهش بالبكاء، ولكنها عندما يعود لاغتصابها تستسلم له من
جديد.. لقد أدت مريم دور الفريسة التى تريد السقوط وترفضه ــ فى لحظة واحدة
ــ بطريقة متفهمة وخلاقة بحق.
أما الفيلم الثانى فهو «بلا عودة» لريمون نصور 1961، وفيه
تقوم بدور فتاة يستدرجها تاجر المخدرات إلى الإدمان بحيث تصبح ألعوبة بين
يديه.. وتحاول التمرد إلا أن نوبات الحاجة إلى جرعات المخدر، تدفعها إلى
الاستسلام الكامل والتردى إلى حضيض الضياع.. إن مشاهد جنون نوبات المخدر،
فى هذا الفيلم من أقوى المشاهد التى أدتها مريم فخر الدين على الشاشة..
وإذا كانت فى «البنات والصيف» بدافع من اليأس وكراهية الذات والشعور بالذنب
تنتحر بعد أن تقتل زوجها بسكين، فإنها فى «بلا عودة» تلقى مصرعها، وهى
تائهة فى أثناء معركة بين الشرطة وتجار المخدرات.
واقعية الابتعاد عن الرومانسية
لم يكن اتجاه مريم فخر الدين إلى أداء دور «الأم» بسبب تقدم
السن فحسب، بل وأيضا، لأن النمط الذى قدمته كثيرا، لم يعد له وجود.
فواقعيا، وخصوصا بعد ثورة يوليو 1952 التى أنشأت مئات
المدارس، والعديد من الجامعات، وأتاحت فرصة تحرر المرأة من الجهل، ثم من
اغلال العبودية الاقتصادية عن طريق أبواب العمل التى فتحت على مصراعيها
للجنس الآخر، ومع تقدم المرأة فيه وتغير القيم الذى يأتى كضرورة ليتماشى مع
واقع جديد، لم تعد البراءة الساذجة، وطهارة عدم الخبرة بالحياة، والاستمتاع
بالتضحية بلا ثمن، والاستسلام للأقدار والرضا عن كل ظالم، والجمال الساكن
الصامت، والامتثال للسائد والمألوف.. لم تعد هذه القيم جديرة بالإشادة أو
البقاء ولم يعد المتفرج يقتنع بها، وإلا فأين من سار على درب مريم فخر
الدين من الممثلات الجديدات؟.
إن الأفول السريع لزبيدة ثروت وزيزى البدراوى ــ بصرف النظر
عن قدرتيهما الفنية ــ لم يأت إلا نتيجة لكونها جسدتا قيم عصر انتهى فعلا..
عصر البراءة الذى كانت مريم فخر الدين نهايته، وإحدى أكبر «قديساته». |