عندما عرُض مسلسل "عائلة الدوغري"
في بداية الثمانينيات أعاد ترتيب المساء بما يليق بالحميمية التي تبخرَت من
الأحداث وفاضت علي الشاشة. لفت المسلسل الانتباه إلي أن الكتابة عند نعمان
عاشور أرق مثلما شخوصه أدق، ويعرف سلفاً أنه لا
يشق صخر الكتابة إلا بوجع مجتمع تنشرخ جدرانه، وليس محض صدفة أن يكون كاتب السيناريو الذي حوَل النص
المسرحي لـ "عاشور"
إلي مسلسل هو محسن زايد الذي أضفي روحاً
تخمش هذا المجتمع الذي حاولت أظافر البؤس أن تنغرس في
لحمه.
نص ومسلسل يطرقان الأبواب للتحذير من الانهيار،
عائلة تتفكك في نقطة انعطافية خطيرة ويضرب أفرادها مس من الأنانية في عصر
التمزق والخيبات السياسية وطمع الرأسمالية اللامحدود، ومن وسط هذه الأنقاض
تطلع عيشة الدوغري (معالي زايد)
الشقيقة الصغري، مدرسة التربية الرياضية الطموحة ابنة
الطبقة المتوسطة التي تتلاشي علي أعتاب قوانين الرأسمالية التي تقسم
المجتمع إلي نصفين لا ثالث لهما، غني أو فقير..
فتاة مكتوبة بحرفية الصادقين، ما
يجعلها حاضرة ويصعب الشعور تجاهها بأية غربة،
فعملياً هي صورة للفتاة المصرية تُشبه
الكثيرات من الصبايا اللاتي يصدف أن تقابلهن في الشارع أو هن بالفعل
يعشن معك في نفس البيت، هي الأخت والصديقة
والحبيبة، هي البشرة السمراء والملامح المنحوتة
والعيون المفتوحة علي أحلام غالباً
تخيب، وفنياً هي ابنة عائلة فنية
عريقة ارتبطت في وجداننا المصري، فوالدتها آمال زايد تحولت إلي أيقونة للأم
المصرية المناضلة في رحاب أسرتها
(الست أمينة في ثلاثية نجيب محفوظ) وخالتها جمالات
زايد نموذج آخر للخالة المصرية خفيفة الظل التي تُشيع جواً
من البهجة، وبالرغم من أن مسلسل
(عائلة الدوغري) لم يكن نافذة إطلالتها
الأولي فقد سبقه مسلسل "الليلة الموعودة"
الذي قدمها فيه مكتشفها المخرج الراحل نور الدمرداش، لكن تبقي "عيشة"
هي مُفتتحها الأقوي في علاقتها بجمهور منحها مكانة الابنة بكثير من الرضا،
وهي مكانة لم تتساوي فيها سوي فاطمة في "دموع في عيون وقحة" رواية الراحل صالح مرسي المأخوذة عن
ملفات المخابرات المصرية، فهنا كبرت الصبية
"عيشة" وصارت
"فاطمة" الطالعة من رحم مجتمع
يعيش أجواء الحرب، ذات العيون السود التي تفقد بصرها في
ضربة
غادرة من العدو، لكنها لاتُحرم من شمس القلب العامر
بالحب والمُعذب بين متابعة حبيب كالطير تخشي فقدانه وأمل في
غد يفك كل الألغاز التي تُحيط بها ويولد
معه نهار جديد يُنسيها ليالي الحزن الطويلة ويُعيد بهاء السويس مدينتها
المنكوبة بالحرب. الحرب في
"كتيبة الإعدام" تتخذ شكلاً
مختلفاً وكذلك السويس في الفيلم الذي كتبه
أسامة أنور عكاشة راصداً كيف تحولت البلاد في السبعينيات إلي سوبر ماركت
كبير زحفت من خلاله قيم الانفتاح الاقتصادي وغيرت الخارطة ولكنها لم تغير
نعيمة الغريب دكتورة برمجة الكمبيوتر التي خططت طويلاً
للثأر لمقتل أبيها وأخيها بطلي المقاومة الشعبية في
السويس التي تكتشف في النهاية أن قاتله هو صاحب هذا التشوه الحادث في
المجتمع الاستهلاكي الجديد المسنود بالعدو الاسرائيلي، خاطف
"قوت" الغلابة والبسطاء وسارق مرتبات
الجيش،
فتنضم نعيمة لكتيبة الشرفاء التي أخذت علي عاتقها المواجهة، فنعيمة الغريب
هنا صورة للمرأة كما أرادتها أسطورة المقاومة التي رسمت بورتريهاً مختلفاً في (للحب قصة أخيرة)
مع السيناريست والمخرج رأفت الميهي، بورتريه
يفضح المجتمع ويوجع من فرط الجمال في علاقة شاعرية وإن كان مصيرها الموت،
لم تكن هناك فرصة في السعادة للزوج المريض (رفعت)
المدرس الذي يعيش في عالمه المعزول في جزيرة
الوراق،
كما حدث في هذا المشهد الذي جمعه بزوجته (سلوي)
الذي تزوجها رغماً عن أمه في فيلم شديد الرهافة والعمق
في ذات الوقت يبرز الصراع بين الحياة والموت،
فيما تتحمل المرأة علي عاتقها الهم وتحاول أن تصعد وحدها جبال الهم بعد أن
عاشت قصتها في الحب من علاقة تقليدية إلي مشهد أسطوري.
في أفق معالي زايد امرأة أخري
غير كريمة بقصتها الواقعية في الفيلم الكوميدي "الشقة من حق الزوجة"،
إنها فوزية بسخريتها في حالة فانتازية تكشف نتوءات مجتمع ذكوري هش وبائس
في فيلم "السادة الرجال"
تجمح فيها فوزية إلي أبعد مدي حين تقرر تغيير مصيرها وتتحول إلي رجل فتعيش
كل تشوهاته النفسية وأنانيته التي سبق أن عاشتها مع زوجها الذي لم يكن يعبأ بآدميتها،
ومن فوزية إلي إدارة في "سمك لبن تمر هندي" إلي درية في
"سيداتي آنساتي"، تكتمل خطوات معالي
زايد في صعودها مع جنون وفانتازيا رأفت الميهي، وهي بطلته المفضلة في هذه
المرحلة التي كتب فيها ليسخر من واقع عبثي تغطيه أغصان زائفة.
من فلاش كاميرا إلي أخري تنقلت معالي
الممثلة التي لم تغوها النجومية بالوقوف علي درجة واحدة وفضلت الصعود
والهبوط حسب الحالة المزاجية للفن وأهله وحسب مطبات الصعود والهبوط، ومشيت
في شارع التمثيل بحوالي
80 فيلماً سينمائياً،
و60 مسلسلاً تليفزيونياً،
و 6 مسرحيات،
ولم تضيع فرصة أن تحصل علي نصيبها من روايات نجيب محفوظ، فجسدت علي المسرح
حميدة في "زقاق المدق"، وزنوبة في
"بين القصرين"
و"قصر الشوق" علي الشاشة الصغيرة،
شخصيات كُتبت للغواية لا ينج من فخاخها صاحب
قلب يصبو إلي الضوء،
تُقلب في دفتر أحوال الحياة كأنها تعدل من نقصانها. وكبرت الصغيرة "عيشة"
ابنة الدوغري وأصبحت دولت الأم في "موجة حارة"
مسلسل أسامة أنور عكاشة الذي لم يكتبه لكنه أُخذ عن
روايته "منخفض الهند الموسمي"
لتتحقق أمنيته في أن يذكر اسمه روائياً
وليس "دراماتورجي"..
دولت تُشهر وجه الأمومة فينا بطيبتها وانفعالها وغضبها وقوتها وضعفها
وحزنها علي ابنها الذي يخطفه الموت منها،
فنبصر معالي زايد تتماهي مع الشخصية متجاوزة
حدود التمثيل إلي فضاء الطبيعية. |