في الطابق الأول من فندق ماريوت يكمن جزء من السوق الكبيرة التي
تصاحب مهرجان برلين السينمائي (المقام حاليا وحتى الخامس عشر من
الشهر) منذ عدة سنوات. تحديدا منذ أن أدرك المهرجان حاجته إلى سوق
تربط الفن بالتجارة كحال مهرجان «كان» الفرنسي.
في ذلك الطابق مكاتب وأجنحة تحمل أسماء شركات ومؤسسات تمثل دولا.
وأحد هذه المكاتب مقام تحت اسم السينما الإندونيسية. لكن إذا مررت
هناك يوما بعد يوم، فلن تجد أحدا ذلك لأن الحكومة الإندونيسية
استدعت الوفد الذي سافر على حسابها إلى مهرجان برلين فترك كل شيء
وعاد.
السبب لا علاقة له بسوء علاقة دبلوماسية نشأت بين الحكومة
والمهرجان، وليس لأن هناك فيلما معاديا للسياسة الإندونيسية مثلا،
بل لأن الوفد الذي تم انتدابه لا علاقة له مطلقا بالسينما. المدير
العام للمركز السينمائي في جاكرتا، وهو المركز التابع لوزارة
السياحة، بعث بوفد لا علاقة له بالسينما ليحضر السوق ويتفاعل. مخرج
إندونيسي اسمه جوكو أنور زار المركز الذي تم دفع كامل ثمنه وكلفته
ليكتشف أن أحدا لا يعرف شيئا مما يدور أو ما عليه القيام به. طبعا
«الشوبينغ» كان في صدارة الأولويات، لكن عندما كتب جوكو ذلك بادر
وزير السياحة إلى إعفاء المدير العام المسؤول، أرمين فرماناسيا من
وظيفته (أو وظيفتها إذا ما كانت أنثى).
*
مؤسسات عربية
*
الحال أفضل بكثير بالنسبة للسينما العربية هذا العام. لم يكن الحال
هكذا دائما، لكنه هذا العام فإن حضور السينما العربية في سوق
المهرجان ملموس أكثر من أي وقت مضى، وذلك بفضل مجموعة من
السينمائيين العرب الذين قاموا، من خلال شركات ومؤسسات مختلفة،
بتأسيس ما سمي «مركز السينما العربية».
أول من أمس كانت هناك حفلة في الفندق ذاته (حيث المكتب التجاري
للمركز أيضا) وكان مزدحما بالعرب والأجانب على حد سواء. ما عاد
خافيا على السينمائيين العرب كل ما له علاقة بشروط الوجود على
الخارطة السينمائية الدولية. لم تعد الأمور مجرد تمنيات وأنصاف خطط
لا تكتمل لأنها تحتاج للمقومات وللعناصر المكونة للنجاح. بات من
الطبيعي أن تجد منتجين عربا يعملون بنجاح لإيصال الفيلم إلى مختلف
الشرايين، وأن تجد الكثيرين من السينمائيين وقد فهم اللعبة
الترويجية بكاملها وها هو يمارسها.
طبعا هناك السمك الصغير الذي يلعب في حوض ذي مساحة محدودة، والسمك
الأكبر الذي يسبح في محيط أكبر، والمركز بدأ هذه السباحة من سنته
الأولى.
يخبرنا عماد كركوتي، رئيس مجلس إدارة شركة «ماد سوليوشن»، أن
البادرة هذه السنة ليست منفردة: «بات من الضروري أن نتطلع إلى ما
وراء المحاولات الأولى. على السينما العربية التي تمثلها هنا 11
مؤسسة وشركة أن تبدأ التفكير بشروط المواصلة والتي من أهمها
الانتقال من نجاح إلى آخر من دون توقف».
الشركات الـ11 تضم «فيلم كلينيك» لرئيسها المنتج وكاتب السيناريو
المصري محمد حفظي ومهرجان مالمو للسينما العربية الذي يرأسه ويديره
محمد قبلاوي (السويد) ومؤسسة «الشاشة» (لبنان) ومؤسسة باسم
«السينما الإماراتية» بالإضافة إلى «ماد سوليوشنز» ومؤسسات أخرى.
أين كانت مثل هذه الخطوات سابقا؟ لماذا تأخرت؟ تتعدد الأجوبة لكنها
تلتقي عند حقيقتين وهما أننا نتعلم ببطء، للأسف، وأن السينمائيين
العرب قلما اتحدوا سابقا ولو أن التأخر أفضل من عدم الإقدام في أي
وقت.
*
مهرجانات العرب
*
في هذا السياق، تم في الليلة ذاتها، توزيع الجوائز السينمائية
لمؤسسة روبرت بوش ستيفونغ التي تمنح سنويا لثلاثة مشاريع عربية
واعدة. وكانت القائمة الأخيرة للأفلام المرشحة في مجالات الفيلم
الروائي القصير والفيلم التسجيلي وأفلام الإنيميشن بلغت 15 مشروعا
هذا العام (من أصل أكثر من 35 مشروعا حسب أحد المصادر) والفائزون
بالمنح هذا العام هم «الببغاء» لدارين سلام (روائي قصير) و«آمال»
لأمجد الرشيد (تسجيلي) و«نظف غرفة الاستقبال، لدينا ضيوف قادمون»
لغسان حلواني (تحريك).
وبعد أن كان المخرج محمد خان استقبل الخبر الذي نشرناه هنا أولا
حول قيام «مهرجان مالمو للسينما العربية» بتوزيع الفيلم تجاريا في
أنحاء السويد، كشف على أنه في سبيل إصدار كتاب يحمل مقالاته
السينمائية، حيث من المعروف أنه يكتب أسبوعيا في إحدى الصحف
اليومية المصرية منذ بضع سنوات.
وعلى صعيد أكبر تقوم مؤسسة «الدوحة السينمائية» بالترويج لمهرجانها
المقبل في العاصمة القطرية الذي يقام ما بين السادس والحادي عشر من
مارس (آذار) المقبل تحت اسم مهرجان «قمرة». وهو يستفيد من زخم
إنتاجي قامت به المؤسسة في العام السابق أدى لتوفر عدد لا بأس به
من الأعمال الأولى والثانية لمخرجيها مثل «جبل» لجواو سالافيزا من
البرتغال و«غادر لوطنك»
Go Home
لجيهان شعيب (لبنان) و«الملاك المجروح» لأمير بايغازين
(كازاخستان). كل واحد من هذه الأفلام وسواها استفادت من دعم مالي
أساسي من المؤسسة القطرية أتاح لها التمتع بما يلزمها لتصبح أعمالا
منجزة.
ولعله من المناسب القول إن زخم المهرجانات العربية الثلاث، أبجديا:
أبوظبي ودبي وقطر، لم يتراجع وإن تعرض لتقنين في بعض الميزانيات
وغياب المهرجان القطري في العام الماضي.
الوضع الحالي أصبح واقعا: هناك ثلاثة مهرجانات عربية كبيرة
(المذكورة) ومهرجانات أصغر أو هي، باختيارها، تسبح في منوال مختلف.
المهرجانات الثلاثة المذكورة تجد نفسها تسير على خطين: من ناحية
تريد تحفيز السينما العربية على التقدم وتساعدها من خلال صناديق
دعم وتمويل مباشرين، ومن ناحية ثانية تريد أن تحافظ على حضورها
العالمي الذي تحقق.
ليس هناك طرق سهلة لتحقيق أي من الغايتين: إلى جانب أن مستوى
الأفلام العربية يعتمد في نهاية المطاف عما هو متاح من أعمال، فإن
التنافس على الاستقطاب قائم بين هذه المهرجانات أعلنت ذلك أو لم
تعلنه. المشكلة الأخرى هي في كيفية الحفاظ على المكتسبات. مهرجانا
دبي وأبوظبي لا يقيمان جناحا لكل منهما أو لكليهما في مهرجان
برلين. رئيس مهرجان دبي السينمائي عبد الحميد جمعة يأتي كل عام
وينخرط في النشاطات الحالية ممثلا لمهرجانه. علي الجابري، المدير
المسؤول عن مهرجان أبوظبي، يأتي ويشاهد الأفلام بغزارة ويختار، مع
مدير القسم العربي للمهرجان، انتشال التميمي، بعض الأعمال التي
تثير الإعجاب. الجناح أمر مكلف وهما ليسا، حاليا، في وارد التكلفة
لكنهما في مهرجان «كان» الفرنسي يشتركان في إقامة جناح مشترك ونشط.
كلاهما أنجز سابقا حضوره الإعلامي في ساحة المهرجانات. استقبلا
جيدا وعوملا كمنشط فعلي للمنطقة الخليجية الواعدة عاما بعد عام.
لكن هذا الإبهار الأول يخمد والبديل حاليا هو العيش على السمعة
المكتسبة والذود عنها. لكن، وكما الحال في 95 في المائة من
المهرجانات السينمائية حول العالم (نحو 3000 سنويا)، إلى أن يختار
منتج ما أو شركة توزيع معينة مهرجانا عربيا، مفضلا إياه على
الاشتراك في أحد المهرجانات الكبرى الثلاث (برلين وكان وفينسيا)
فإن الشوط ما زال طويلا.
نقد أفلام برلين 2015
حب، سرقة وتشابكات أخرى
Love,
Theft and Other Entanglements
(من
5
***) -
كما لو أن صانعي هذا الفيلم احتاروا في اختيار عنوان لهذا العمل
الأول فقرروا عنوانا يشمل كل شيء، يأتي «حب، سرقة وتشابكات أخرى»
(بالعربية يختلف العنوان قليلا) وفيه بعض الحب وبعض السرقة وبعض
التشابكات الأخرى. في الواقع، عنصرا الحب والسرقة هما من بين تلك
الأشياء المتشابكة التي يريد الفيلم عبرها تصوير زبدة من الحياة
الفلسطينية عبر حكاية جديدة ومثيرة للاهتمام.
إنه حول لص أسمه موسى (سامي مطواسي) ما زال على علاقة مع امرأة
كانا مرتبطين قبل زواجها ولها منه ابنة صغيرة. في أحد الأيام يسرق
سيارة مصطفة أمام منزل ويقودها إلى منطقة معزولة (تقع الأحداث في
الأراضي المحتلة خارج القدس)، حيث ينوي بيع قطعها. هو يحلم بالهجرة
وعليه أن يدبر المبلغ بأي شكل ممكن. لكن موسى لا يعلم عما تحتويه
السيارة. ففي صندوقها الخلفي يقبع مجند إسرائيلي (يقوم به رياض
سليمان) خطفته إحدى المنظمات (غير مذكورة بالاسم، لكن ليس من الصعب
الاستدلال عليها) لكي تبادله بالأسرى الفلسطينيين المخطوفين لدى
العدو. لك أن تتصور أهمية هذا الصيد الذي انتهى إلى يدي موسى، حيث
مستقبل مئات الأسرى الفلسطينيين قد يتوقف على استعادة ذلك الجندي.
لكن موسى الآن بات مطاردا من قبل الخاطفين، وحتى يبقى طليقا ويحقق
حلمه بالهجرة يقرر بيع الجندي المخطوف للمنظمة التي لا تستطيع الآن
فعل شيء سوى القبول بالمقايضة: عشرة آلاف دولار مقابل الجندي
الإسرائيلي. لكن الخاطفين الفلسطينيين ليسوا وحدهم الذين يريدون
استرداد المخطوف. هناك السلطة الإسرائيلية التي تتعقب موسى بدورها
واثقة من أنه يعرف أشياء قرر إخفاءها عنها.
موسى يضع المشكلة في إطارها الصحيح عندما يشرح للمجند الإسرائيلي
وضعه على النحو التالي: إذا ما سلم المجند للإسرائيليين تم إعدامه
من قبل الفلسطينيين، وإذا ما سلمه إلى الفلسطينيين عليه أن ينتظر
نهاية وخيمة مشابهة من قبل الإسرائيليين.
يعالج المخرج مؤيد عليان فيلمه على نحو كوميدي قائم على وضع مأسوي
فردي، لكنه مفهوم اجتماعيا. يسير على الحافة بحذر. يريد أن يتواصل
والجمهور العالمي ويعرف أن عليه ألا يكون حادا في نقده، لكن عليه
في الوقت ذاته أن يكون واضحا وانتقاديا في عدد من المسائل. وهو
ينجح في ذلك على نحو جيد. صوره بالأبيض والأسود وضمنه مفارقات
جديدة في فيلم فلسطيني ولم يبتعد عن ناصية السرد الممكن فهمه
وقبوله من فئات متعددة واشتغل عليه بحيوية واضحة، لكنه اعتمد على
سيناريو يؤصل للحدث ثم لا يعود لديه الكثير من المفارقات فيضطر
للدوران حوله. الروابط بين المشاهد ليست دائما صحيحة إلا إذا
اعتبرنا أن رغبة المخرج في تقديم سينما طليعية كتلك التي سبقه
إليها مخرجون فرنسيون في الستينات، هي الدافع. العلاقة القائمة بين
موسى والمرأة المتزوجة تشكل دعما للقصة بكل تأكيد، لكن هناك
استعجالا في تنفيذ دخول وخروج المواضيع الجانبية ضمن الهيكل الأكبر
للفيلم.
فارس الكؤوس
Knight of Cups
-
(****
من 5)
كلا. لن ينجز هذا الفيلم الدب الذهبي. ليس إذا ما انتشر ذلك
الاستقبال السلبي الذي شهده الفيلم وسط الكثير من النقاد الغربيين،
بين أعضاء لجنة التحكيم. لكن فيلم ترنس مالك يستحق أن يشهد التفاوت
في الآراء، حتى وإن كان معظم ما سمعناه منها أو قرأناه، سلبيا. في
الواقع ترنس مالك في «فارس الكؤوس» لا يحفل بنا وبآرائنا اليوم كما
لم يحفل بها بتاتا من قبل. في النهاية يحقق الفيلم الذي يريد
بالطريقة التي يريد. مشكلة بعض النقاد الرافضين هي أنهم، ببساطة،
لم يجدوا المنفذ الملائم لدخول فيلم مؤلف من نحو 3000 لقطة أو أكثر
كل منها من 4 إلى 8 ثوانٍ، باستثناء بعض لقطات البداية والنهاية
حيث تصل اللقطة إلى أطول فتراتها: 20 ثانية.
«فارس
الكؤوس» هو ترنس مالك منذ «شجرة الحياة» مجسدا في موضوع جديد حول
كاتب السيناريو ريك (كرستيان بايل) الذي يعيش مطلع نجاحاته في
هوليوود. يحيا حياة الليل. مقبل على السهر والحفلات الماجنة. يحضر،
في واحد من المشاهد، مناقشة للسيناريو الذي قام بكتابته. يدخل ملهى
ليليا للرقص ويجالس الراقصة مستمتعا بحديثها له. لديه صديقة يتركها
(ناتالي بورتمان) لسواها (فريدا بينتو) ثم يغير هذه لسواها أيضا (تيريزا
بالمر) علما بأن المخرج سينهي سرد هذا الجانب من حياة بطله بلقاء
متجدد مع مطلقته (كايت بلانشيت).
لكن كل هذه العلاقات هي جانب واحد من شخصية تبحث عن ذاتها وما حدث
لحالها منذ أن سعت لتصبح ما أرادت أن تصبح عليه. نسمع صاحبها، بطل
الفيلم، يتساءل أكثر من مرة عمن أراد أن يكون ولماذا لم يتحقق؟ إنه
غير راضٍ ومحمل بمعاناة احتواء العلاقة المتشرذمة بينه وبين شقيقه
وبينهما وبين والدهما (برايان دنهي) الذي كان ممثلا، وبدوره، لم
يحقق ما انطلق في مطلع حياته لتحقيقه.
لا شيء مما سبق شرحه يرد هنا كقصة تستمع فيها لحوارات متبادلة حول
هذه الشواغل. ولا شيء يرد هنا في سياق سرد تم صف أحداثه على نحو
متتابع ليساعد الجمهور على الوصول إلى الرسالة. كما الحال في أعمال
ماليك السابقة (آخرها «إلى العجب») الفيلم مسرود في شذرات مثل
شرائط نارية تصعد من موقد. أنت هنا مع ريك وهو يقود سيارته. قطع
لمشهد للساحل وهو يركض على شاطئه. قطع لطائرة مروحية تمر في سماء
المدينة. السيارة. البيت. ريك مع شخص آخر. ريك وحيدا. غرفة نوم.
لصان يداهمان ريك. كاميرا تحت سطح الماء.. إلخ.
لا عجب أن الجمهور يضيع من بعد الدقيقة الأولى مباشرة غير قادر على
استيعاب جامع لمعظم ما يرد على الشاشة من لقطات. وبما أن الحوار
يخرج بالقطارة بدوره (نسمع دوما الشخصية وهي تبدأ كلاما ثم يخفض
المخرج صوته وهو لا يزال يتكلم ويبتعد صوب أصوات أو بصريات أخرى)
فإن المشاهد يسأل نفسه السؤال ذاته في كل مدة عرض الفيلم (118
دقيقة): ما الذي يحدث؟ |