المشاركة المصرية ببرلين..
تمنيت لو لم تكن «بره فى الشارع»
رسالة برلين ــ خالد محمود:
•
مخيب للآمال بداية من الفكرة والطرح مرورًا بالمونتاج وصولًا إلى
التمثيل
•
الفيلم المصرى يطرح التساؤلات حول ترشيحات المشاركة بالمهرجانات
الدولية
•
المخرج الشيلى بابلو لارين يثير الجدل فى المهرجان بفيلم «النادى»
من يختار فيلما مصريا ليعرض فى مهرجان سينمائى دولى كبير؟، وكيف
يتم هدا الاختيار؟، السؤال يفرض نفسه بقوة بعد مشاهدتى فيلم «بره
فى الشارع» الذى عرض باسم مصر فى برنامج امتداد المنتدى بمهرجان
برلين السنيمائى، ووجدته عملا مخيبا للآمال على المستوى الفنى
بأغلب مفرداته، بداية من الطرح الدرامى الساذج لفكرة مستهلكة،
ومرورا بالمونتاج المهلهل، وحتى الاداء التمثيلى الغريب الذى يفتقد
لأى روح أو منهج، ورأى أنه كان أضعف بكثير من كل الافلام التى عرضت
فى نفس القسم واقسام اخرى موازية بالمهرجان الدولى الكبير الذى يعد
للعرض على شاشته حلم يراود الكبار والشباب، وأعود لأطرح سؤالى مرة
أخرى: من يتحمل مسئولية مشاركة وعرض فيلم لا يرتقى لمستوى الحدث؟
المسألة تتطلب نظرة أخرى، حتى لو كان الاشتراك فى المهرجانات
الكبرى هو تحرك شخصى لأصحاب الاعمال، وسعى منهم للتواجد، وهذا
حقهم، لكن طالما ان الفيلم يحمل اسم مصر، فيجب على الاقل أن يكون
جيدا ومبشرا بانطلاقة جديدة، وهو مالم يتوافر فى فيلم "برة فى
الشارع" إخراج ياسمينة متولى وفيليب رزق، من إنتاج شركة «س»
للمخرجين مصطفى يوسف وهبة يسرى.
واذا كان الفيلم يحمل ملمحا تجريبيا، كما يقول صنّاعه، فهى مغامرة
غير محسوبة جيدا، لأن التجريب به كان عقيما سواء فى لغة السرد او
الصورة، ويخلو من عناصر الجمال أو الابهار، أو الدهشة، وربما لو
شاهد صناع العمل بعض أفلام دورة مهرجان برلين السينمائى، لأصابتهم
صدمة حقيقية، لأن التجريب الذى كشف عنه المخرجون بأفلامهم كان بحق
خلاقا ومبهرا ومبدعا شكلا ومضمونا، واعتقد لو أن صناع الفيلم
المصرى وقفوا عند تجريب جعفر بناهى، واندرو هاى، وسيباستيان تشيبر،
وتيرانس ماليك، وبابلو لاريان فى طرحهم لقضايا اجتماعية تخص
اوطانهم، لترددوا كثيرا قبل تقديم هذا الفيلم بهذه الصورة، حيث
شاهده جمهور كبير وقف حائرا أمام هذا الطرح الفقير لفكرة يفترض
انها غنية سينمائيا لو كانت هناك رؤية.
العمل الذى يمتد زمنه لـ٧٢ دقيقة حاول ان يتناول الظلم الاجتماعى
الذى حل على افراد الطبقة العاملة اثر الخصخصة، ومن المفترض ان
الاحداث تدور قبيل ثورة يناير او تمهد لها، وذلك من خلال مجموعة من
عمال احد مصانع حلوان الذى تم بيعه لأحد رجال الأعمال، يظهرهم
العمل وهم يشتركون فى ورشة تمثيل، وأثناء البروفات يجسدون الوضع
على سطح احدى البنايات التى تطل على قلب القاهرة مع محاولة خلق
مساحة ما بين الخيال والواقع ليخرج المشاركون، ويدخلون فى الشخصيات
لتشكيل مأساتهم اليومية فى العمل ويستحضرون قصص الظلم فى المصنع،
وضياع حقوق العمال، وعنف وبلطجة رجال الشرطة واظهارهم كمرتشين،
وتلفيق التهم للأبرياء، وعدد من قصص فساد واستغلال النفوذ من قبل
ارباب عملهم الرأسماليين.
وإذا كان مخرجا الفيلم قد استعانا بلقطات حقيقية لحادث انهيار مصنع
قام به أحد العمال، وبممثلين غير محترفين، حتى يبدو الارتجال فى
الاداء والتعبير واقعيا، فإن ذلك النهج قد ضل الطريق، لأنه لم تكن
هناك أى مفردات فنية ثرية وواعية تشكل عنصرا مساعدا للمشهد، كما أن
معظم من شاركوا فى تجسيد القصة كانوا يضحكون امام الكاميرا، ولم
ينبههم احد، مما جعل المشهد بكاملة اضحوكة وعبارة عن "هرتلة" ليست
حتى فنية
.
عقب العرض سألتنى عجوز من إيطاليا: هل أعجبك الفيلم، وأومأت برأسى
مجاوبا بـ"لا"، وسألتها أنا نفس السؤال فأجابت: "هذه ليست سينما،
التجريب له أبعاده الفنية والعمل بعيد تماما عن كل شىء، حتى القضية
قدمها مباشرة للغاية وهو شىء لا يجوز".
فى الندوة التى اقيمت عقب العرض واستمرت نحو ٤٥ دقيقة، أكد مخرجا
الفيلم أنهما قصدا ألا يصنعا فيلما عن الثورة بل عن العوامل التى
أدت للثورة كبعدين اقتصادى واجتماعى للقمع.
وقالا عن مشروع الفيلم إنهما حاولا أن يتخلصا من قيود الفيلم
التسجيلى، "ذهبنا للاستماع للعمال لتصوير فيلم، ومحاولة لفهم
الأبعاد المختلفة لاحتجاجاتهم، وطلباتهم من تحسين الأجور أو ظروف
العمل، وأدركنا أن المرض ينتج دائما عن الاستغلال والفساد المنظم،
وآثار الرأسمالية الزاحف بعمق على حياة الناس، وإغلاق القطاع
العام، وخصخصة الأراضى العامة والصناعة من أجل النمو والاستثمار،
والاقتصاد بدلا من الشعب، ألهمتنا فكرة كيف يمكن ان تكون للناس
شجاعة، فى مواجهة هذه المخاطر.
ونحن لا نريد من تقديم الفيلم أن يتحول هذا الواقع القاسى إلى
مشهد، مصدرا للتسلية، ولكن إعادة تقييم الماضى وتخيل ما يمكن أن
يحمله المستقبل، ونحن نعتقد أن الفيلم مؤهل لأن يسافر للعرض فى دول
العالم، لأن القصص التى تظهر به ليست فريدة من نوعها لحى أو بلد،
فأشكال الاستغلال موجوده فى جميع أنحاء العالم".
هذه الأقوال لمخرجى العمل إذا كانت تعكس مبادرة طيبة وحماسا لرصد
صورة من واقعنا، لكنها على الشاشة لم تكن بالحالة السينمائية
الجيدة، والصورة لم تكن حلوة، وأرى أن حماس مخرجى الفيلم فى حاجة
إلى أن يطعّم بخبرات حتى تنضج، وتكتمل مشاريع الاحلام قبل طرحها
للجمهور. بعيدا عن مأساة الفيلم المصرى، حمل النصف الثانى من أيام
المهرجان مجموعة من الأفلام القوية، التى ظلت حديث رواد المهرجان
من النقاد والجمهور فترات طويلة، مثلما حدث مع بعض أفلام النصف
الأول مثل الإيرانى "تاكسى"، والألمانى "فيكتوريا"، حيث قدم المخرج
الشيلى المتميز بابلو لارين "٣٩ اما" فيلمه الكبير
"the club"
أو "النادي"، وأعتقد أن حصوله على نصيب من جوائز المهرجان كان أمرا
مهما نظرا لفنياته المميزة، وإحساسه السينمائى العالى، وفكرته التى
تبحث فى الجوانب المظلمة عند مجموعة من القساوسة الكاثوليك.
ويتناول الفيلم برمزية مذهلة انتهاكات مجموعة من الكهنة بالكنيسة
الكاثوليكية، تعيش وكأنها فى منفى، فنحن أمام ناد من أربعة رجال
وامرأة واحدة كخادمه للجميع، وكأن مصيرها الواقعى شكل من أشكال
العقاب الروحى، قدم السيناريو، الذى شارك فى كتابته بابلو لارين مع
جيليرمو كالديرون، ودانييل فيلاوبوس، مواقف معقدة نفسيا لانتهاكات
متعددة للكنيسة الكاثوليكية عبر رؤية خاصة جدا، وأداء مفعم
بالمشاعر المركبة، وبدت الخبرة بشكل كبير لدى فريق التمثيل روبيرتو
فارياس، وألفريدو كاسترو، وانطونيا زيجيرا، وجيم فاديل، ليشكلوا فى
العمل نكهة سينمائية خاصة بصورة عميقة، وأظهر المخرج عدم رغبة فى
عدم إطلاق أحكام أخلاقية سريعة، بل منح الجميع الوقت ليستوعبوا ما
يحدث، بل ويجعلك جزءا من الحكاية ومتفق مع ما قدمه من نهاية لشخوصه.
كان صوت بابلو لارين السياسى حاضرا بقوة فى رمزيته، التى يشير فيها
إلى أن رجال الكنيسة الخطائين ليسوا معصومين من الحساب، واعتقد أنه
يواصل فى هذا العمل ايضا وبطرق أكثر دهشة من أى وقت مضى، جزء من
موضوعاته المفضلة، الحياة التشيلية، الحريات غياب العدالة،
المظلومين واللوم المؤجل.
يبدو "النادى" هنا نوع من دار للمتقاعدين السرى للكهنة التى تعانى
من فضيحة، فهم يقيمون بمنزل صغير متواضع فى بلدة الشاطئ التشيلية
"لا بوكا"، الأب لارين، الأب أورتيجا، قسيس الجيش السابق الأب
سيلفا، والراهبة الأخت مونيكا، وهم يبقون جميعا على مسافة من
السكان، يقضون يومهم فى تناول الطعام والشراب ومشاهدة التليفزيون
ثم تدريب الكلاب على المنافسة فى حلبة السباق.
اقتراب بابلو لارين من هذا الموضوع الشائك لم تكن الميزة الأهم،
وإنما جرأة الطرح وطبيعة الموضوع وطريقة التناول، ربما غير
المسبوقة من قبل، وذلك من دون أى افتعال أو سطحية أو تناول لمجرد
التناول بغرض لفت الانتباه، وإثارة الجدل المجانى حول فيلمه،
المتمحور حول أربعة من القساوسة استغنت عنهم الكنيسة بعد تسببهم فى
فضائح مختلفة.
لكنهم لا يزالون فى حمايتها ورعايتها، لكن الأمور تنقلب رأسا على
عقب، مع قدوم راهب آخر جديد ينضم إلى النادى أو إلى المجموعة
المتواجدة بذلك المنزل "منزل التوبة"، والذى سرعان ما يطلق النار
على رأسه، أمام الجميع، وهنا تبدأ فى الانكشاف تدريجيا القصة
الدرامية لهؤلاء القساوسة، الذين هم شبه محكوم عليهم بالنفى فى ذلك
النادى، كنوع من العقاب أو التكفير الروحى عما اقترفوه من خطايا
متعلقة بفضائح مشينة مرتبطة بممارساتهم الشذوذ الجنسى خلال فترات
حياتهم وخطف اطفال امهات غير متزوجات.
حيث يروى الرجل قبل رحيله من تحت شبّاك المنزل، أمام الجميع وبصوت
عال، تفاصيل اغتصابه عندما كان شابا يافعا، على يد راهب وصل للتو
إلى مسكنه الجديد، جاء الرجل حاملا معه الماضى الذى كانوا يعتقدون
أنهم قد تركوه وراءهم، وهنا نلمس ايضا اداء الممثلين المتمكن
والرصين فى تعبيرهم عن شعور الندم مع وجود الحس الساخر
.
ما يحصل فى اللحظات القليلة التى تلى الفضيحة، سيجعل الكنيسة ترسل
الأب غارثيا المتخصص فى حلّ الأزمات المستعصية، وهو يؤمن بضرورة ان
يغلق هذا المكان، كونه لا يراعى أيا من شروط السلوك الرهبانى
الحسن، فيبدأ بسلسلة استجوابات مع الرهبان، واعترافات ستجعل الفيلم
يغوص فى المزيد من الفضائح بين التحرش الجنسى بالأولاد وبيع
الأطفال الرضّع بعد انتزاعهم من أمهاتهم.
هذا فيلم آخر عن السلطة المطلقة التى تلجأ إلى كلّ انواع الجرائم
عندما تضطر إلى ذلك، ويُرينا من جملة ما يُرينا، التواطؤ الذى
سيحصل بين الأب المصلح والمتهمين، لتلميع صورة الكنيسة أو على
الأقل لعدم الاساءة اليها.
بابلو لارين الذى تلقى تعليمه بالمدارس الكاثوليكية كان صادقا مع
نفسه فى اختيار هذا الخط الدرامى، هكذا قال، مشيرا إلى ان ما قدمه
هو الجزء المفقود دائما فى قصة الوفاء والحب التى تحيط بدور رجال
الكنيسة، وقال ايضا لا ينبغى ان تكون هناك فئة من البشر لا تحاكم
مثل البشر امام المحاكم المدنية، والاكتفاء بتبييض الوجه امام
الله، وسوف تستمر التغييرات رغم كل شيء
.
وبدون شك اصبح الفيلم نقطة حديث كبرى فى برلين، بل وربما يثير
الكثير من الجدل خلال الفترة القادمة، لأن بابلو الموهوب لم يقدم
قصته فى سياق تاريخى، بل الزمن مفتوح.
ولم يكن فيلم "النادى" هو الفيلم الشيلى الوحيد، على شاشة برلين بل
كان هناك فيلما آخر، هو "الزر الجوهرة" للمخرج التسجيلى الكبير
باتريشيو جوزمان، ليأتى كأحد أهم الروائع الفنية فى مسيرة هذا
المخرج، ويعتبر الفيلم من أجمل ما عرضه المهرجان.
الفيلم التسجيلى مدته 80 دقيقة، ويتنافس مع الأفلام الروائية
الأخرى، وفيه يبدع من مادته التى تتناول قيمة المياه تناغما
موسيقيا لا يقل سلاسة وانسيابية عن تدفق وعذوبة المياه، تلك التى
بنى جوزمان فيلمه على تيمتها، فى خط مواز لرؤى تاريخية وسياسية
وجغرافية وغيرها، التى يسلط عليه الضوء فى فيلمه، ويبين الفيلم أن
للمياه ذاكرة وأصوات أيضا، وأن الأنهار والبحار والمحيطات تحتوى
على تاريخ البشرية بشكل أو آخر. |