(1)
رأفت الميهي - شفاه الله - واحد من أفضل وأكفأ وأقدر صناع
السينما في مصر والعالم العربي منذ الستينيات وحتى الآن ، كتابة وإخراجا
وإنتاجا .. إبن الطبقة الوسطى الذي شق طريقه بثقافته وموهبته
..
تخرج
في أوائل الستينيات من قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة متتلمذا على يد
أساتذتها الكبار وعمل لفترة وجيزة بالتدريس خارج القاهرة لكنه سرعان ما عاد
إليها ليلتحق بالعمل في لجنة القراءة بالمؤسسة المصرية العامة للسينما ثم
بمعهد السيناريو الذي أنشأه المخرج الكبير صلاح أبو سيف حين كان رئيساً
للمؤسسة .. جاء الميهي لمعهد السيناريو متسلحا بثقافة رفيعة ودراسة متعمقة
للأدب والدراما الإنجليزية والعربية ومستوعبا للتراث الإنساني .. كان كشأن
أقرانه من شباب السينما في تلك الفترة يحلم بسينما مختلفة تحترم الحرفة مع
وعي برسالة الفن التي تتلخص في السعي نحو تغيير الواقع إلى الأفضل ، وهو ما
دفعه للتعاون مع المخرج سيد عيسى القادم من موسكو ليقدم من خلاله أول
سيناريو له عن رواية « جفت
الأمطار «للكاتب
عبد الله الطوخي متناولا حلم الخروج من الشريط الزراعي الضيق ، والأمل في
استصلاح أراض جديدة رغم المعاناة والمعوقات .. كان الفيلم غريبا عن
السينما السائدة موضوعا وأسلوبا وإخراجا فهو يغرد خارج السرب ، إضافة إلى
عرضه في نهاية عام 1967 في ظروف هزيمة يونيو التي أرخت سدولها على الوطن
.
(2)
في وزارة الخزانة حيث كنت أعمل في الستينيات ، التقيت
بالناقد الكبير فتحي فرج -رَحِمَهُ
الله - ..
لم يكن فتحي مجرد ناقد سينمائي ، بل كان مثقفا كبيرا أيضاً شارك في العمل
السياسي في نهاية الأربعينيات وأوائل الخمسينيات تحت مظلة الإخوان المسلمين
شأن كثيرين من أبناء جيله القادمين من الأحياء الفقيرة لكن سرعان ما انقلب
عليهم حين اكتشف بعد دراسته للفلسفة خطأ وخطر مشروعهم .. فتحت -أمامي - جلساتنا
المطولة آفاقا رحبة .. زودني بالكثير من الكتب التي كان من المتعذر حصولي
عليها ، ثم اصطحبني إلى المحافل السينمائية كجمعية الفيلم ثم إلى مقهى
فينكس بعماد الدين حيث ملتقى السينمائيين الشبان ، هناك تعرفت على الكثيرين
.. منهم محمد راضي وأحمد متولي وفؤاد التهامي وسمير فريد وسامي المعداوي ،
رحمه الله ، وبالطبع رأفت الميهي الصديق الأقرب إلي فتحي ثم - بعد
ذلك -الصديق
الحميم لي أيضاً .. في هذه الجلسات كنت أنصت جيدا للنقاشات والحوارات
المحتدمة بين هؤلاء الأصدقاء الفرقاء الذين جمع بينهم حب السينما والوطن
.. رأفت الميهي بليبراليته وفؤاد التهامي وأحمد متولي بحماسهما اليساري
وراضي بعزوفه عن النقاش السياسي وفتحي الذي كان يرى أن رأيه هو الأصوب
دائماً والمعداوي الذي كان أسير هاجس لا يفارقه من أن المباحث تطارده ...
كانت هذه الصحبة رغم اختلاف التوجهات والأيديولوجيات ترتكز علي صداقة حميمة
أفرزت بعد ذلك أحد أهم التجمعات السينمائية في نهاية الستينيات وهي « جماعة
السينما الجديدة « التي
لعب فيها رأفت الميهي دورا أساسيا وبارزاً..
جاءت
الجماعة كنتيجة حتمية للبيان الذي أصدره السينمائيون الشبان الذي تحطمت
أحلامهم على صخرة الهزيمة المروعة في يونيو 1967 ، وجاء البيان كصرخة
احتجاج غاضبة على الوضع المتردي للسينما المصرية من جيل جديد يتطلع إلى
سينما مختلفة عن تلك السينما القديمة السائدة التي تكرس الواقع وترفض
التغيير ، وتساهم في تزييف وعي المتلقي وتشغله عن قضاياه الأساسية
بمعالجاتها الرثة لتلك القضاياواستغراقهافي تقديم الميلودرامات الهزيلة
والكوميديات الرخيصة ... كان هدف الغاضبين من خلال تلك المراجعة لواقع
السينما في نهاية الستينيات السعي لتقديم سينما جديدة تعبر عن الواقع
المصري المعاصر بشجاعة وصدق وتعكس آلام وآمال وهموم وأشواق الإنسان المصري
وتنمي وعي المشاهد وترقي وجدانه
.
(3)
لم
يكن رأفت في حاجة الي التحقق لكنه كان ، وظل طوال مسيرته ، قوة دافعة لمن
يتوسم فيهم موهبة ورغبة في التغيير على كل المستويات ، وربما كان ذلك وراء
إصراره على أن أكون كاتبا للسيناريو وإلحاحه الدائم على ضرورة المحاولة ،
وإن وجد مني إصراراً موازياً على ممارسة النقد خاصة بعد أن التحقت بالمعهد
العالي للنقد الفني .. وحين يأس مني أرغمني على كتابة دراسة نقدية عن فيلم « الظلال
في الجانب الآخر» لغالب
شعث ثاني انتاج لجماعة السينما الجديدة
..
اقتربت كثيراً من رأفت وكان بمثابة البوصلة الهادية لي إلى
الطريق الصحيح ، بأفكاره اللامعة وخبرته العميقة بالحياة واحترامه للآخر
وتقديره لمعنى الصداقة وتواضعه الحقيقي ورغبته الأصيلة في نقل خبراته
ومعارفه إلي الآخرين ، ربما كان ذلك من تأثير الشهور الأولى التي قضاها في
التدريس ، وربما كان ذلك أيضاً وراء إنشائه أكاديمية تحمل اسمه لدراسة
السينما..
في عام 1984 عرض عليَّ الصديق الناقد الكبير سمير فريد
العمل في شركة الإنتاج الجديدة التي أنشأها المنتج المثقف حسين القلا وضمت
إلى جانب سمير فريد كلا من رأفت الميهي وقصي صالح الدرويش والراحل سمير
نصري، رأى رأفت ان أقبل فورا شارحا لي أسبابه في أن هذا عالم جديد بالنسبة
لي ، عالم الصناعة ذاتها وهي زاوية للرؤية مختلفة عن الرؤية النقدية وما
زلت أذكر كلماته « خليك
إسفنجة .. امتص كل الخبرات التي تتاح لك .. أنت هنا في شركة محترمة تقوم
على أسس مختلفة .. سوف ترى الكثير .. استمع وشاهد واستوعب «..
أخذت بالنصيحة وأعترف أنني أستفدت وتعلمت الكثير من هذه التجربة
.
كان رأفت - كما
فتحي فرج - يختصر
لي طرقا كثيرة ويمنحني خبرته باستمرار ، كما كان يمنحها لآخرين غيري ،
وعادة كان يطلعني على مالم يتيسر لي معرفته أو مشاهدته مؤكدا لأصدقائنا أن « الواد
ده هو اللي حيكتب تاريخنا « وينبهني « خللي
بالك دي مسئوليتك .. إنت عاصرت الكثير مع شباب السينما ، وأتاحت لك الشركة
أن ترى الوجه الآخر لصناعها من منتجين وموزعين وفنانين كبار ».
(4)
في أفلامه الأولى ككاتب سيناريو ، اعتمد رأفت على نصوص
أدبية صاغها بحنكة من خلال رؤيته الخاصة وشكل منذ عام 1970 مع المخرج
الكبير كمال الشيخ ثنائيا متناغماً أنتج أعمالا بالغة الأهمية تشكل مرحلة
خاصة في تاريخ رأفت منذ فيلمهما الأول معا « غروب
وشروق « عن
رواية لجمال حماد و «شئ
في صدري» عن
رواية إحسان عبد القدوس ليصلا معا إلى قمة النضج في مؤلفه السينمائي الثاني «على
من نطلق الرصاص « عام
1975 رغم اختلافي مع رؤيته لاستخدام الحل الفردي بديلا للقانون رغم أنه قدم
بمهارة درامية الأسباب والدوافع التي دفعت بطله إلى إطلاق الرصاص على رئيس
مجلس الإدارة الفاسد الذي تسبب في موت صديقه .. كان رأفت قد قدم في عام
1971 مع المخرج الشاب علي بدرخان « الحب
الذي كان « وهو
أول فيلم طويل يحمل توقيعه كمؤلف سينمائي ، ورأفت من أوائل ، وربما كان أول
من استخدم كلمة تأليف بديلا عن التعبير الشائع « قصة
وسيناريو وحوار « .
يشكل « على
من نطلق الرصاص « بالنسبة
للميهي نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة حيث قرر إخراج أعماله بنفسه وانقطع
ما يقرب من ست سنوات عن الكتابة ، قضاها في دراسة واستيعاب عملية الإخراج
ليخرج علينافي عام 1981 بتحفته الرصينة وأول أعماله كمخرج « عيون
لا تنام « عن
مسرحية « رغبة
تحت شجرة الدردار»لتنيسي ويليامز ليؤكد قدراته كمخرج
ويخطو بعدها خطوته الأولى نحو عالمه الجديد ويحلق بخيال جامح في عالم « الفانتازيا» في « الأڤوكاتو « عام
1983 ، بعدها يقرر إخراج نصه السينمائي المتميز « للحب
قصة أخيرة « من
إنتاج حسين القلا ليصعد به ، كمفكر ، إلى مصاف كبار المفكرين السينمائيين
المهمومين بالأسئلة الوجودية والمفارقة المدهشة والغريبة أيضاً أن هذا
الفيلم بمعماره القوي ، ورؤيته الثاقبة ، وجرأته في تناول المسكوت عنه ، لم
يجد له مكاناً- لاهو
ولاغيره من أفلام رأفت الميهي
- في
قائمة مهرجان دبي لأهم مائة فيلم عربي !!!
منطلقا من نجاحات « الأڤوكاتو « يعود
الميهي لاستكمال مشروعه في تقديم فانتازيا سينمائية مصرية معاصرة قائمة على
إبراز العلاقات المشوهة في الواقع واللا منطقية إلى حد بعيد ، ذلك أن هذا
الواقع بما يتضمنه من فوضى وانفلات يجعلانه أكثر غرابة من أي محاولة لخلق
عالم واقعي / موازٍ
، فقدم ثلاثيته « السادة
الرجال «1987
و» سمك
لبن تمرهندي» 1988
و» سيداتي
سادتي» 1990بتعاون
خلاق مع الثنائي الفنان محمود عبد العزيز والفنانة معالي زايد .. في « السادة
الرجال « امرأة
قررت أن تكون رجلا واندفعت تلعب دور الرجل إلى أقصى حد مما اضطر الرجل أن
يلعب دور المرأة .. وفي « سمك
.. لبن .. تمر هندي « يخلق
جوا كابوسيا مروعا بأن يجعل بطليه هدفا لمطاردات وملاحقات لا يعرفان لها
سببا في جو فانتازي وخيال خصب ، ويعاود الميهي في «سيداتي
سادتي» الرجوع
إلى هوايته المفضلة في قلب الأوضاع المعتادة والمألوفة ليكشف عن مواطن
الخلل في السلوك والفهم الخاطئ للشريعة الاسلامية
.
في
عام 1995 ، وبعد توقف يقترب من خمسة أعوام ، يعود رأفت إلي عالم الأدب
ليقدم معالجة تتسم بالطزاجة وجموح الخيال لرواية الأديب الكبير فتحي غانم « قليل
من الحب .. كثير من العنف « ليشيد
بناء موازياً لأحداث الرواية بدا أحياناكتعليق ساخر أو تساؤل مشروع عما إذا
كان من الممكن أن تتم هذه الأحداث الآن !! ..
لم تغب روح الفانتازيا عن « قليل
من الحب
.. « فيرجع
رأفت مرة أخرى إلى عالمه الأثير ويقدم في الفترة من 1996/ 2001
خمسة أفلام « تفاحة « و « ميت
فل «و» ست
الستات»و عشان ربنا يحبك « و « شرم
برم « ..
لم تلق هذه الأعمال النجاح الجماهيري المرتقب مما جعله يتوقف تماماً عن
العمل بالسينما منذ 2001 ، وإن كانت له محاولة وحيدة في 2009 في عالم
المسلسلات فكتب وأخرج مسلسل «وكالة
عطية « عن
رواية الكاتب الكبير خيري شلبي ، خاصة بعد أن عجز عن إنجاز مشروعه لإنتاج
فيلم « هورجادا
أو سحر العشق « لإحجام
كل شركات الإنتاج عن المساهمة في المشروع خوفا من حساسية موضوعه الذي
يتناول العلاقات المعقدة بين المسلمين والمسيحيين في إحدى محافظات صعيد مصر
، رغم حصول الفيلم على دعم وزارة الثقافة مما أصابه بخيبة أمل كبيرة في
الواقع السينمائي المصري !
(5)
قدم رأفت الميهي الكثير للسينما وكان قوة دافعة لشبابها
مؤازراً لهم مؤمناً بموهبتهم وهو مادفعه لانتاج فيلم « يا
دنيا يا غرامي « سيناريو
محمد حلمي هلال وإخراج مجدي احمد علي والذي يعد واحدا من أفضل أفلام
السينما المصرية في العقود الأخيرة
(6)
رأفت الميهي .. دمت أستاذاً.. وفناناً كبيرا ... ودافعاً
...ومحفزاً ...وقديرا
.. |