فيلم "ذيب" ... قراءة متأمّلة في تاريخ منطقة متقلبة
بقلم عبد
الحفيظ العبدلي - فريبورغ
بدعم من مؤسسات ثقافية سويسرية، شهد المهرجان الدولي للأفلام
بفريبورغ الذي أنهى أعماله يوم 28 مارس 2015 مشاركة فيلميْن
عربيْين ضمن المسابقة الكبرى للفوز بجائزة"الرؤية الذهبية"، وهما:
الفيلم اللبناني "الوادي" لمخرجه غسّان سلهب، والفيلم الأردني
"ذيب" للمخرج ناجي أبو نوار.
تدور أحداث الفيلم الأخير في منطقة الحجاز زمن الحكم العثماني،
وخلال الحرب العالمية الأولى، حيث يرافق صبي صغير من البدو لم يبلغ
سن الرشد شقيقه الأكبر في رحلة عبر الصحراء الموحشة لتوجيه ضابط
بريطاني إلى وجهة ظلت سرية.
هذا العمل وفّر فرصة لتسليط الضوء على واقع البدو في منطقة "وادي
رم"، والصعوبات التي تعترضهم، على المستويْين الاقتصادي
والاجتماعي، فضلا عما تكتنزه ثقافتهم الأصيلة من قيم وتصوّرات.
ولقد انتهزت
swissinfo.ch
مواكبة ناجي أبو نوار للدورة التاسعة والعشرين للمهرجان
الدولي للأفلام بفريبورغ وأجرت
معه الحوار التالي:
swissinfo.ch:
في كلمات قليلة، من هو ناجي أبو نوار؟ وما هي أبرز الاعمال
السينمائية التي أنتجها حتى الآن؟
ناجي أبو نوار: أنا مزدوج الهوية، أبي أردني وأميّ إنجليزية. أعيش
متنقلا بين الأردن وبريطانيا طيلة حياتي. منذ صغري، كنت أهوى
السينما، وبدأت العمل في هذا المجال منذ عشر سنوات. أنتجتُ فيلما
قصيرا بعنوان "الملاكم" (2009)، وعرض في العديد من المهرجانات
الدولية. وانتهيت السنة الماضية من انتاج أوّل فيلم روائي طويل
بعنوان "ذيب" (2014). في الأثناء كتبت سيناريوهات لخمسة أفلام
روائية لكنها جميعها لم تنجز بسبب انعدام التمويل. صناعة السينما
في الشرق الأوسط عمل شاق. أنا سعيد جدا بإنتاج فيلم "ذيب" الذي
يُعرض لأوّل مرة في سويسرا، وسوف يوزّع بعد انتهاء المهرجان على
قاعات السينما في هذا البلد.
swissinfo.ch:
لأول مرة يعرض فيلم "ذيب" هنا في سويسرا. كيف استقبلتم الدعوة
للمشاركة في هذا المهرجان الدولي؟ ومشاركة عملكم ضمن المسابقة
الرسمية؟
ناجي أبو نوار: لهذا الفيلم علاقة حميمة بسويسرا. لقد كنا محظوظين،
ونحن شاكرين للمسؤولين بالصندوق السويسري
Visions Sud- Est
للدعم المالي الذي وفّره لنا خلال انجاز هذا الفيلم عامي 2013
و2014. وكذلك قررت مؤسسة
Trigon Film
توزيع هذا العمل على قاعات السينما في سويسرا، ونأمل أن يبدأ هذا
العرض ابتداءً من الشهر القادم. كذلك دعوتنا للمشاركة في هذه
الدورة التاسعة والعشرين للمهرجان الدولي للأفلام بفريبورغ، وإدراج
الفيلم ضمن المسابقة الرسمية هو مصدر فخر واعتزاز بالنسبة لنا. وما
يزيد في سرورنا وسعادتنا هو أن الفيلم سوف يعرض للطلاب في المدارس،
وهذا بالنسبة لنا مهم جدا وتجربة فريدة من نوعها. أجد أن هذا
المهرجان هو من أفضل المهرجانات التي شاركت فيها بإطلاق من حيث
التنظيم، والحفاوة واللطف في الإستقبال. لقد تعرفت بسرعة على جميع
القائمين على إدارة هذه التظاهرة. وانا سعيد بعيش هذه التجربة.
swissinfo.ch:
كيف تقيّمون اقبال الجمهور على العروض التي حصلت حتى الآن؟
ناجي أبو نوار: حتى الآن عرض الفيلم ثلاث مرات متتالية . وكل مرة
تكون القاعة مكتظّة بالجمهور، وأتدخّل قبل بداية العرض، وأجيب عن
الأسئلة بعده. أسئلة الجمهور كانت طريفة وعميقة وذات معنى ومغزى.
كانت هناك حوارات شيّقة بيني وبين الجمهور يبدأ في قاعات العرض،
ويتواصل خارجها في المقاهي والمطاعم والساحات العامة.
swissinfo.ch:
ما هي أبرز التظاهرات العالمية التي شارك فيها هذا الفيلم قبل
وصوله إلى فريبورغ؟
ناجي أبو نوار: شارك فيلم "ذيب" في العديد من المهرجانات الدولية.
وكان العرض الدولي الاوّل لهذا العمل في مهرجان السينما بالبندقية،
وكذلك مهرجان السينما بهولندا وبدبي. ثم قمنا بعدها برحلة طويلة
عبر مناطق مختلفة مرورا ببريطانيا وميامي،...كانت تجربة ثرية ليس
فقط بالنسبة لي بل بالنسبة للعديد من الممثلين البدو، الذين لم
يغادروا البادية قبل ذلك. بفضل هذا الفيلم حصلنا على العديد من
الجوائز في م
هرجانات عالمية. البداية كانت بمهرجان السينما بالبندقية حيث حصدت
جائزة أحسن مخرج، ثم جائزة في مهرجان ابو ظبي، وفي مهرجان تصوير
الأفلام
( Film Festival of Cinamatography Camerimag)،
وتحصلنا على جوائز كذلك في بلغراد وميامي ولندن والقاهرة.
swissinfo.ch:
فيلم ذيب هو عبارة عن نسخة عربية متطوّرة من أفلام الوسترن
الأمريكية؟ لماذا اخترتم هذا اللون الفني لتصوير هذه التجربة
الإنسانية؟
ناجي أبو نوار: أحبّ أفلام الوسترن عموما. الاعمال الفنية التي
استوحاها جون فورد وأمثاله. ما هي المميّزات الرئيسية لأفلام
الوسترن؟ اختيار زمن التغيّرات الكبرى، عادة بسبب حروب أهلية أو
تغيّر جذري في المشهد العام في بلد ما، وسيادة حالة من الفوضى ومن
عدم الاستقرار حيث يضطرّ الأشخاص إلى افتكاك حقوقهم بأنفسهم. في
هذه الافلام عادة ما تكون هناك قصّة محورية هي من ناحية تجسيد
للازمة العامة وعلى علاقة وطيدة ببطل الفيلم. في الغرب الأمريكي
تزامن هذا التغيّر الجذري مع وصول خطوط سكك الحديد إلى تلك
المناطق، وما انجرّ عن ذلك من انتشار مظاهر التمدّن والتحضّر. إذا
نظرنا الآن إلى المنطقة العربية، زمن الحرب العالمية الاولى،
والثورة العربية الكبرى، وواقع قبائل البدو في الصحراء، نجد أن كل
المحدّدات التي ذكرناها سلفا، ومن دون أي اسقاط منّي، كانت كلّها
متوفّرة في تلك المرحلة. أدت الثورة على حكم الإمبراطورية
العثمانية إلى إنهاء وضع دام أربعة قرون، وأدى إلى اعادة رسم خرائط
المنطقة ما نجم عنه تغيّر وجه الشرق الأوسط بشكل جذري، وقلب حياة
الإنسان العربي رأسا على عقب. وعندما ننظر إلى العالم اليوم وخاصة
إلى منطقتنا، نرى ان كل المشاكل القائمة اليوم، وكل الصراعات
والنزاعات، سببها المحاولات الجارية لإعادة رسم خرائط هذه المنطقة.
بداية القرن العشرين مرحلة رئيسية ومركزية لفهم التاريخ العربي
الحديث والمعاصر. ليس هذا فحسب، فحياة البدو هي الأخرى شهدت تغيرات
جذرية خاصة مع وصول خط سكك حديد الحجاز، والقوى الاستعمارية
البريطانية والفرنسية وطرد العثمانيين. كل هذه المفردات نجدها في
أفلام الوسترن، لذلك استوحينا هذا اللون الفني.
swissinfo.ch:
أليس كذلك بسبب التشابه بين واقع البدو في الأردن، ومصير الهنود
الحمر في أمريكا؟
ناجي أبو نوار: هذا صحيح. تجربة البدو بالأردن تتشابه إلى حد كبير
مع تجربة الهنود الحمر في امريكا والسكان الأصليين في أستراليا. في
جميع هذه الحالات نجد مجموعات بشرية في مواجهة تغيّرات كبرى تعصف
بنمط حياتهم ومعيشتهم، فيعانون من ذلك، ويضطرون إما إلى مغادرة
بيئتهم الحاضنة او الإنتقال إلى انماط معاشية غريبة عنهم. والسبب
في أن محنة البدو ليست معروفة على نطاق واسع هو لكون الشرق الاوسط
أصلا ومنذ عقود مسرحا للنزاعات والصراعات وكل أنواع الكوارث
الإنسانية، ما لا يترك مجالا للتعرّف على قضايا أخرى أدنى خطورة
ربما بالنسبة للبعض.
swissinfo.ch:
عشتم سنة كاملة مع هؤلاء البدو، وخبرتم نمط حياتهم. أي أثر تركته
هذه التجربة لديكم على المستويين النفسي والمعرفي؟
ناجي ابو نوار: السنة التي قضيتها مع البدو كانت أسعد فترة في
حياتي. ثقافتهم مفعمة بالكرم وحسن الضيافة. سنة كاملة قضيتها معهم،
لم أحتج إلى أي شيء. ألفتهم وصداقتهم ستظل راسخة في ذاكرتي، حية في
وجداني. وحتى بعد انتهاء انتاج الفيلم ظلت علاقتي وطيدة بهم،
أزورهم في الصحراء، ويزورونني في منزلي بعمان. ما يحصل عندما تنتقل
للعيش في الصحراء هو تغيّر وتيرة الحياة. كطفل عشت في مدينة مفعمة
بالنشاط والحركة، وتعوّدت على السرعة في الإنجاز، لما انتقلت إلى
الصحراء تعلّمت الصبر والتؤدة. هذه الحركة البطيئة ربما تجد
تفسيرها في البيئة الصحراوية نفسها، حيث لا يمكن بذل الكثير من
الطاقة، حتى لا يحتاج الإنسان إلى كميات كبيرة من الماء في بيئة
حارة وجدباء. والبدو حذرين بطبعهم، فهم لا يصرفون هذه الطاقة إلا
إذا كانوا في مواجهة خطر محدق أو كانوا أمام ضرورة لرد فعل سريع.
التعوّد على هذه البيئة تطلّب مني وقتا لا بأس به، وعندما انهيت
الفيلم، شعرت بصدمة ووجدت صعوبة في العودة إلى الوتيرة الطبيعية
للحياة، وهو ما تطلّب جهودا للتكيّف من جديد.
swissinfo.ch:
العديد من الممثلين في الفيلم هم من البدو أنفسهم. ما الذي تغيّر
في حياة هؤلاء بعد خوضهم لهذه التجربة الفنية؟ خاصة بطل الفيلم
"ذيب"؟
ناجي أبو نوار: الخبر السار ليس فقط بالنسبة للممثلين، بل بالنسبة
لجميع البدو الذين رافقوا هذا العمل هو أنهم تعلّموا مستوى جديدا
من المهارات، وتخصصوا في مجال يتعلّق بصناعة السينما، وهذا ساعدهم
على القيام بأدوار في أفلام اجنبية وأخرى أردنية. هذه التجربة أيضا
ساعدتهم في العثور على وظائف، وهذا مهم جدا بالنسبة لهم لأن البدو
يواجهون حاليا أوضاعا اقتصادية صعبة، ومعدّلات البطالة والفقر
مرتفعة جدا في مناطقهم.
أما بالنسبة للممثلين أنفسهم، فقد مروا بتجربة مدهشة وممتعة في نفس
الوقت. في البندقية وبعد الانتهاء من تقديم وعرض فيلم "ذيب"، حصلوا
على أدوار في أفلام أخرى مثل فيلم "الوحش" الإنجليزي. وبالنسبة
لبطل الفيلم تحديدا، فقد عاد من جديد إلى مقاعد الدراسة من أجل
التحصيل العلمي. ولقد نجحنا في الحصول له على منحة دراسية من اجل
ضمان مستقبله، إلى جانب قيامه بادوار في المجال السينمائي.
swissinfo.ch:
ما هي برأيكم السيناريوهات التي تواجه هذه المجموعة البشرية في
المستقبل خاصة مع توسّع حركة التحضّر وتمدد النشاط السياحي إلى
الصحراء والمرتفعات؟
ناجي أبو نوار: المشكلة الكبيرة التي تواجه البدو حاليا، هو أنهم
في العادة يشتغلون بالمجال السياحي، والكثير من السياح ياتون إلى
وادي رام. ولكن منذ اندلاع النزاع في العراق وسوريا، تراجعت حركة
السياحة، وقلّة قليلة من السياح لازالوا يتحدّون التحذيرات ويأتون
إلى المنطقة. وما هو محزن هو أن الأردن بلد آمن جدا، ولا توجد فيه
أخطار. نأمل أن يعود السياح إلى هذه المناطق حتى يتحقق لهؤلاء
البدو العيش الكريم والعمل القار. زد على ذلك المناطق حيث يعيش
البدو تفتقر إلى كل الموارد. وأمام هذا الوضع، تبذل الحكومة
الأردنية والشركات المحلية جهودا لمساعدتهم. وربما يؤدي انتاج
المزيد من الافلام إلى التعريف بمناطقهم، فيكثر عليها الإقبال.
swissinfo.ch:
كسينمائي مزدوج الجنسية يعيش بين قارتيْن وثقافتيْن. إلى أي حد
تعكس أعمالكم السينمائية هذه المراوحة بين عالميْن كانت علاقتهما
على الدوام متوتّرة؟
ناجي أبو نوار: أعتقد أن وجودي في نقطة تماس بين ثقافتيْن
مختلفتيْن جعلني اكثر استعدادا وتحفّزا لفهم الآخرين وخلفياتهم،
ولماذا سلوكهم هو على الوجه الذي هو عليه. طوال حياتي، وانا أحاول
أن أوضّح للأخرين من انا؟ أحاول توضيح هويتي الانجليزية عندما اكون
في الأردن، وهويتي الاردنية عندما اكون في بريطانيا. هذه الهوية
المركّبة منحتني فرصا بقدر ما مثّلت تحديا، خصوصا في عالمنا اليوم،
حيث يتم ايقافي والتثبّت مرّات ومرات من هويتي في المطارات ونقاط
العبور. مع ذلك انا جدّ فخور ببلديّ الأردن وبريطانيا، وسعيد
بثقافتيّ العربية والإنجليزية.
الدورة
التاسعة والعشرون في سطور
أسدل الستار على هذه الدورة يوم السبت 28 مارس 2015، قد حطمت الرقم
القياسي من حيث عدد الجمهور الذي واكب فعاليات المهرجان طوال أسبوع
كامل، حيث بيعت 40.000 تذكرة دخول إلى قاعات العرض.
في ختام الدورة، وبالنسبة للأفلام الروائية الطويلة، منحت جائزة
"الرؤية الذهبية" للمخرج المكسيكي كريستيان دياز باردو وفيلمه
"Gonzalez"،
في حين عادت الجائزة الخاصة للتحكيم إلى شاكمي رينبوش من التيبت،
كما توجّه التحكيم الدولي بتنويه خاص إلى المخرجة الفيتنامية دياب
هوانغ – نغيوان وفيلمها
"Flapping in the Middle of Nowhere "،
والتي فازت أيضا بجائزتيْن أخريتيْن.
بالنسبة للأفلام القصيرة، كافئ تحكيم المهرجان فيلم "شقة النمل"
للمخرج الكردي الإيراني توفيق أماني. كما توجّه التحكيم والجمهور
في آن واحد بشكر وتنويه خاصيْن إلى المخرج السوري أسامة محمّد،
الذي أشرف على تجميع وعرض أزيد من 40 فيلما قصيرا حول الأحداث
والمستجدات في سوريا.
كذلك حققت هذه الدورة رقما قياسيا، حيث بلغ عدد السينمائيين
المدعويين 75 شخصا حضروا جميعا إلى فريبورغ، وشاركوا في فعاليات
المهرجان المتعددة.
تنظّم الدورة القادمة للمهرجان الدولي للأفلام بفريبورغ من 12 إلى
19 مارس 2016. |